جودت فخر الدين - أصل العمل الفني لهايدغر.. الفنُّ يصنع للأشياء حقيقتها

الفليسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي يعدُّه بعضهم أهم الفلاسفة في القرن العشرين، تأخرتْ معرفتُه نسبيًّا لدى القراء العرب، ولم تحظَ مؤلفاتُه بترجمات إلى العربية تستطيع أن تعرِّفنا إليه معرفة كافية. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى كتابه الشهير الوجود والزمان، الذي يُعَدُّ من الكتب الأساسية في الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، والذي ينبغي أن يكون في متناول القارئ العربي.

أصل العمل الفني هو مجموعة من المحاضرات ألقاها هايدغر في مدينتي فرايبورغ وتسورِش في العامين 1935 و1936. وها هو يُنقَل إلى العربية للمرة الأولى: نقله عن الألمانية مباشرة الكاتب والمترجم الجزائري د. أبو العيد دودو. ومن الملفت أن تكون للكتاب مقدمة بقلم الفيلسوف هانس غيورغ غدامر، الذي وصف محاضرات هايدغر حول أصل العمل الفني بأنها "حادثة فلسفية مثيرة"!

من الطبيعي أن يكون هذا الكتاب مغريًا بالنسبة إلى أيِّ قارئ؛ ومن الطبيعي أيضًا أن يُقبِل عليه القارئ العربي (المتخصِّص) بلهفة. إلا أن هذا الأخير سرعان ما يصاب بشيء من الخيبة عندما يكتشف أن الرؤى الثاقبة التي يتضمنها الكتاب قد غامت وراء حُجُب ألقتْها عليها الترجمة. إن قارئ الكتاب، في صيغته العربية هذه، من شأنه أن يشعر بعمق المعالجة التي يتناول بها هايدغر بعض المسائل المتعلقة بالعمل الفني؛ وهي مسائل ليست بالجديدة، وإنما هي موضع بحث دائم منذ القديم، وسوف تظل كذلك مادامت هنالك فنون وأعمال فنية. من شأن القارئ العربي أن يستشف، عبر حجاب الترجمة، الكثير من الإشارات اللمَّاحة والنافذة؛ ومن شأنه أن يتمنى لو كان في استطاعته أن يقرأ الكتاب في لغته الأصلية. وهنا، لا نريد ننحو باللائمة (كلِّها) على المترجم، الذي بذل جهدًا ملحوظًا؛ وإنما نريد القول إن كتابًا كهذا ليس له أن يصل إلى العربية بصيغة واضحة كلَّ الوضوح، لا تشوبها أية شائبة. فكتاب كهذا من المرجَّح أن يكون صعبًا في لغته الأصلية، نظرًا لعمق المعالجة الذي أشرنا إليه، ولدقة المسائل المتعلقة بطبيعة العمل الفني وبأصله. إن هذا من شأنه أن يضع مصاعب جمة أمام الترجمة (إلى أية لغة من اللغات).
الحضور


نأتي الآن إلى عرض أبرز ما تضمَّنه الكتاب، فنقول إن هايدغر رمى إلى الكلام على "حقيقة" العمل الفني، أو بالأحرى إلى الكلام على نوع الحقيقة التي يحتضنها العمل الفني أو يجسِّدها، فانطلق من توضيح بعض المفاهيم المتعلقة بالشيء، والأداة، والمادة والشكل. ومن الطريف، وهو يتناول هذه المفاهيم، أن يتأمل في لوحة فان غوغ الشهيرة "الحذاء"؛ ذلك أنه يرمي إلى تقديم رؤيته إلى كيفية حضور الأشياء في الأعمال الفنية، وتاليًا إلى تحديد مفهومه لـ"شيئية" الأشياء. في سبيله هذا، يضع "الأداة" في منزلةٍ وَسَطٍ بين الشيء "المجرد" والعمل الفني. وفي نظره أن العمل الفني الذي يكتفي بوجوده الذاتي يشبه الشيء المجرد النابع من ذاته. يقول:
ومع ذلك، لا نعد الأعمال الفنية من بين الأشياء المجردة. فالأشياء المستعملة هي دائمًا الأشياء الحقيقية المحيطة بنا. وهكذا فإن الأداة هي نصف شيء لأنها محدَّدة عن طريق الشيئية؛ ومع هذا فهي أكثر من ذلك. وهي في الوقت نفسه نصف عمل فني؛ ومع ذلك فهي أقل من ذلك؛ فليس لها الاكتفاء الذاتي الخاص بالعمل الفني. الأداة لها منزلة خاصة بين الشيء والعمل الفني. (ص 44)
الأشياء لها حضور "حقيقي" في الفن. هذا ما أحببت أن أفهمه من كلام هايدغر. وحضورها في الفن لا يكون حقيقيًّا بسبب من تطابقه مع حضورها في الواقع. الأشياء في الفن حقيقية أكثر منها في الواقع. الفن يصنع للأشياء حقيقتَها، الفن يبتكر حقيقة الشيء، ويبتكر إذن حقيقته الفنية. يقول هايدغر:
إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته. ويتم هذا الافتتاح في العمل الفني، بمعنى الكشف، بمعنى حقيقة الموجود. (ص 57)


إذن، "الطريقة" في الفن هي الأساس، هي الطاقة القادرة على ابتكار الحقيقة الفنية، وعلى ابتكار حقيقة الأشياء التي تحتضنها. والطريقة الفنية، إذ تضيء الأشياء وتعبِّر عن حقيقتها، لا تعيد رسمها كما هي في الواقع، وإنما تكشف عن وجود لها، هو أغنى مما يُرى في الواقع – تكشف عن الجوانب الخفية لوجودها. يتكلَّم هايدغر في هذا الأمر مستعينًا برؤيته إلى لوحة فان غوغ "الحذاء"، وإلى قصيدة ك. ف. ماير "البئر الرومانية"، فيقول:
الحقيقة تعمل عملها في الفن. فهي إذن ليست شيئًا حقيقيًّا فقط. فاللوحة التي تُظهِر حذاء الفلاح، والقصيدة التي تتحدث عن البئر الرومانية، لا تفصح عن الموجود المفرد من حيث هو فحسب، وإنما تترك الكشف يحدث من خلال علاقته بالموجود كلية [...]. كلما كان ظهور الحذاء أبسط وأكثر جوهرية، وكلما كان ظهور البئر أكثر صفاء، كان كلُّ موجود معهما أكثر حضورًا وأكثر لطفًا. على هذه الصورة تتمُّ إضاءة الوجود المتخفِّي. وهذا الشعاع في العمل الفني هو الجميل. الجمال هو الطريقة التي توجد بها الحقيقة بوصفها كشفًا. (ص 77)



الجمال

الجمال في الأعمال الفنية ينبثق، بحسب هايدغر، من الكشف عن جواهر الأشياء، هذه الجواهر التي لا تظهر عادة في الواقع، أي في حضور الأشياء خارج الفن أو في معزل عنه. والفن الجميل، بحسب هايدغر، "إنما هو يُسمَّى هكذا لأنه ينتج الجميل" (ص 53). هكذا يربط هايدغر بين الجمال في الفن وبين الكشف عن الحقيقة. وهذا الكشف، مرة أخرى، ليس نقلاً للواقع، وإنما هو غوص في الخفيِّ منه، وفي الغامض من ظواهره.

لقد مضى على محاضرات هايدغر في كتابه أصل العمل الفني وقتٌ ليس بالقصير، إلا أن آراءه الفذة ونظراته الثاقبة في هذا الكتاب لا تزال عابقة بما هو جديد وتأسيسي. هذا ما يمكن للقارئ العربي أن يشعر به، وهو يتصفَّح ترجمته العربية، التي ألقت عليه حُجُبًا، كانت تشف حينًا، وتكثف حينًا آخر.


عن السفير، 24/1/2003



جودت فخر الدين
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى