د. عبدالجبار العلمي - حتى لا ننسى الشاعر المغربي الراحل أحمد تسوكي أحرميم ، وديوانه "أزهار الرميم"

من يذكر هذا الشاعر الجميل ابن مدينة شفشاون « أحمد تسوكي ؟ ». وجدت ذاتَ مساء مصادفةً ، بعضَ قصائده بين أوراقي القديمة في قصاصات اقتطعتها من جريدة "العَلَم " ، نَشَرها الشاعرُ بها في أواسط الستينيات من القرن الماضي في صفحة «أصوات » ، وبعضُ هذه القصائد نشرتْها له مجلتان عريقتان هما مجلةُ « الأديب » ومجلةُ « الآداب » البيروتيتان . وقد تعرَّفْتُ على الشاعر في زمنِ صِبانا بمدينة تطوان. كان يعمل في مكتبة قريبِه السيد العافيَّة رحمه الله بـ حومة " الساقية الفوقية " حيث كانت توجد أهم المكتبات بتطوان . وكان شغوفا بالقراءة ، يلتهم ما كان يفد من الشرق من دواوين رواد الشعر المعاصر ومن كبريات المجلات العربية. كان رجلاً عصامياً وكانت موهبته الشعرية تعد بالكثير. وانقطعت عني أخباره بسبب الانتقال إلى الدراسة بمدينة فاس، وقد علمت فيما بعد عن طريق صديقنا المشترك عبدالقادر الإدريسي أنه انتقل إلى الرباط سنة 1967 م. للعمل بالصحافة في جريدة « الأنباء » التي كان يرأس تحريرها الشاعر محمد الطنجاوي رحمه الله. ولم ألتقِ به إلا مرة واحدة في الرباط مصادفة بعد سنوات طويلة. وبعد ذلك غابت عني أخباره . ولم أعرف ما إذا كان قد استمر في الكتابة الشعرية أم انقطع عنها ؟ وقد يكون العمل الصحافي بإكراهاته ومصاعبه المعروفة ، قد حال بينه وبين كتابة الشعر. ومن يقرأ ما نشره في جريدة العلم بصفحة " أصوات " من قصائد، يدرك أنها كانت تعد بميلاد شاعر متميز يضاف إلى كوكبة شعرائنا المغاربة المعاصرين. وهذه القصائد هي : " شاطىء الأحباب " ، و"بحثاً عن فارس " وقد مهرهما باسم مستعار هو أحمد ياسين ، والقصيدة الأولى نشرها في مجلة الآداب بعنوان " المرسى " باسمه الحقيقي ، و" طائر الشتاء " و " السقطة والعابرون " و " زمان اليأس " ، وهذه القصائد الأخيرة موقعة باسمه الحقيقي مصحوبة بصورته. والجدير بالإشارة أن للشاعر قصائد أخرى منشورة، لكنني لا أتوفر إلا على هذه النماذج التي احتفظت بها عقوداً من الزمن إعجاباً بها . وقد كنا ـ أصدقاءَه ومعارفَه المتأدبين من أقرانه ـ ننبهر حينما نرى بعض قصائده منشورة في المجلات التي كان لا ينشر بها إلا كبار الشعراء. ولم يكن آنذاك قد حصل على شهادة البكالوريا ، بل كان في تلك الفترة - إن لم تخني الذاكرة - منقطعا عن الدراسة .. ثم غادر شاعرنا أحمد تسوكي مدينة تطوان للعمل في جريدة الأنباء بالرباط كما سبق الذكر. انقطعت أخباره عني وعن أصدقائه حتى من كانوا يقطنون في نفس المدينة. كنت أعزه وأقدره باعتباره شاعراًمبدعاً وإنسانا حيياً متواضعا دمث الخلق . وقد عُرفَ عنهُ ابتعادُه عن الأضواء ، وزهدُه في اللقاءات والمنتديات الأدبية. لقد كان من أقرب أصدقائه أيام تطوان الأصدقاء : محمد بوخزار - المرحوم محمد أنقار - عبدالقادر الإدرسي. وشهادة حق في هذا الشاعر المثقف أنني عرفته قارئا نهما ، لم أجده في مكتبة قريبه السيد العافيَّة ، إلا وهو منكبٌّ على قراءة كتاب أو مجلة من المجلات التي تصل إلى المغرب من المشرق العربي ، أذكر منها هنا : الآداب - الأديب - المعرفة ( السورية ) – "المجلة" المصرية - المسرح - الهلال .. إلا أنه كان يمتحُ اتِّجاهَه الشعري من مجلة الآداب التي كانت تتجه اتجاها وجوديا ، وربما لَمَسْنَا في بعضِ قصائده المشار إليها أعلاه هذا الملمح الوجودي.
وأخيرا تلقى أصدقاؤه ومجايلوه ومحبو شعر صباه الواعد، الخَبَرَ اليقينَ الذي يؤكد أن الشاعر مازال معانقا عشقه القديم المتمثل في كتابة الشعر بصدور ديوانه الأول إلموسوم ب : " أزهار الرميم " عن مطبعة الخليج العربي بتطوان سنة 2017 . وكما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه، أن الشاعر بدأ ينشر أشعاره الأولى بجريدة العلم ، كما أن مجلتي الآداب والأديب البيروتيتين نشرتا له بعضاً من تلك الأشعار الجميلة الناضجة فنياً ودلالياً . وقد أوردها الشاعر في آخر ديوانه مع غيرها تحت عنوان « من أشعار الصبا » كتبها ما بين سنتي (1964 و1966 م) بتطوان. ومن بين القصائد العشر التي يضمها ملف «أشعار الصبا» ( من ص: 345 إلى ص : 374 ) قصيدته " رسالة إلى صديق " ، المهداة إلى صديق صباه ورفيق البدايات القاص الروائي المرحوم محمد أنقار . نقتطف منها المقاطع التالية :
من حيثُما سارتْ خُطاي إليكَ، يقذفُني الزِّحامْ
من ها هٌنا وهُناك، تلفظني وجُوهٌ فــي الزِّحامْ
من حيثما سارتْ وسرتُ إليكَ، يزْحَمُني الزٍحامْ
***
ماذا تَبَقَّى لي سوى أن أَسْتَريبَ وأنْ ألـــُوبْ
حوْل المتاهَةِ .. والمتاهةُ غابةٌ وسهـــوبُ
مُلْقًى لِهَبِّ الرِّيح فيها .. شَمَالاً وجَنـــوبْ
***
الأرضُ أضْيَقُ ما تكُونً ، إذا نَأَتْ عنها سماكْ
والدَّربً أوحَش ما يكونُ، إذا خَلَتْ منه خُطــاكْ
ماذا تَبَقَّى يا صديقُ ، سوى اللقاء وأن أراكْ
: وسنحاول فيما يلي تقديم عرض أولي مقتضب لهذا الديوان الشعري المتميز
يقع الديوان في 377 صفحة من القطع المتوسط ، وقد عني فيه الشاعر بضبطِ معظمِ كلماتِ أبيات قصائده عناية تنم عن حرصه على إخراج ديوانه للناس في حلة لائقة إحساساً منه بالمسؤولية إزاء متلقيه. ويشتمل على 24 قصيدة ، أربع عشرة منها على الشكل العمودي ، وعشر تنتمي إلى الشعر القائم على التفعيلة أو الشعر المقطوعي . وهذه هي التي كتبها في مرحلة الصبا والتي ألمحنا إليها آنفاً. والأربع عشرة قصيدة العمودية هي كالتالي : 1 ـ كلمات وكلمات ؛ 2 ـ في وادي الأشجان ؛ 3 ـ قصيدة القدس ؛ 4 ـ إفادة مواطن عربي في قضية السيدة " ف " ؛ 5 ـ جيم الجمال ؛ 6 ـ كمنجة الآشواق ؛ 7 ـ كونشرتو الشجارات ؛ 8 ـ زهرة الرميم ؛ 9 ـ ثلاثية المبتدأ والمنتهى أو " وجوه حميمة من سيرة الأنا " ، وتنضوي تحت هذا العنوان ثلاثة مقاطع هي : " أنا وحيد " ، و"غريب " ـ و"قتيل " ؛ 10 ـ ياساري البرق 11 ـ بالناي والعود؛ 12 ـ " الصواب والخطأ " ؛ 13 ـ " قصيدة الموت " ، وهذه القصيدة مهداة إلى زوجته الراحلة " أنيسة الناصر " التي وافاها الأجل بتاريخ ( 12 ـ 9 ـ 2016 م ) ؛ 14 ـ " حتى الثمالة .. ". أما القصائد العشر التي جعلها الشاعر تحت عنوان " من أشعار الصبا " ، ص : 345 ، فتحمل العناوين التالية : 1 ـ "حُلمي" ؛ 2 ـ " تذكَّريني " ، ؛ 3 ـ " بكائية " ، ؛ 4 ـ "عند السرير " ؛ 5 ـ " غريب هناك "؛ 6 ـ " طائر الشتاء " ؛ 7 ـ " وقت لليأس"؛ 8 ـ " وقت للتيه " ؛ 9 ـ " رسالة إلى صديق " ؛ 10 ـ " مرفأ الأحباب ". ومن الجدير بالملاحظة أن القصائد العمودية كتبت بعد أشعار الصبا بعقود عديدة. فتاريخ كتابتها يبتدئ من سنة 2002 م. إلى سنة 2016 م. وقد كتبها الشاعر مابين الرباط وتطوان في فترات متباعدة . وتتميز القصائد العمودية بطول النَّفَس الشّعْري الذي لم نعد نصادفه في دواوين شعرائنا العرب المعاصرين الذين يكتبون القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة. ويبدو أن الشاعر أحمد تسوكي أحرميم لم يكن غيابه الطويل عن ساحة النشر إلا ليستكمل أدواته الفنية وثقافته الشعرية العميقة التي بدأها في صباه في أواسط الستينيات مع قصيدته الرائعة « المرسى » التي نشرها له د. سهيل إدريس في مجلته الذائعة الصيت «الآداب » ، وغيرها من درر شعرية كانت حقا تعد بشاعر متمكن . وإذا كانت قصائد الصبا تتجه اتجاها وجوديا يتناغم وطبيعة تلك المرحلة ، فإن المنحى الذي نلمسه في ديوان " أزهار الرميم " ، هو منحى يتجه نحو عوالم الروح والتصوف. والحقيقة أن هذا الديوان عملة نادرة من طراز نفيس يعيد للشعر العمودي روعته وصولته وفخامته، وللغته قوتَها وجزالتَها ورونقَها ، ويؤكد لنا أن الشِّعرَ شِعْرٌ في أي شكل من الأشكال.
هذا وصف أَوَّلي للديوان . والحقيقة أنه جدير بالدراسة الأكاديمية الرصينة، والتحليل النصي الذي يقف عند كل مكونات الخطاب الشعري وسبر أغوار دلالاته العميقة. وأتمنى أن يتاح لي أو لغيري من الباحثين المهتمين بالشعر المغربي المعاصر ، الجهدُ والوقت لتحقيق هذه الغاية النبيلة ، وتعريف الأجيال بشاعر من طراز رفيع إبداعاً وأخلاقاً.




- المنشورة يومه الخميس 12 نوفمبر 2020 بالملحق الثقافي الأغر لجريدة العَلَم.








1607017218009.png 1607017256913.png 1607017340812.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى