حاتم عبدالهادى السيد - قيم السرد المجتمعية وقضايا العصر قراءة في : "مقاطع من حديث البنفسج" خالد بن أحمد اليوسف / السعودية

تحيلنا مجموعة : " مقاطع من حديث البنفسج " – منذ البداية- إلى اغواء السرد المخاتل، عبر اللغة المحايثة، الأكثر اشراقاً وجمالية، وسموقاً ، وإلى الموضوعات الأكثر غرائبية وإدهاشاً كذلك، وتلك لعمرى جدليات السرد الفطرى الذى يجذب القارىء عبر موضوعة الأحداث، فموضوعات السرد جديدة، واقعية، تخاطب الواقع التخييلى، وتزيد عليه واصفات السرد الدرامى لنقف أمام سرد يتعانق فيه الوصف، مع مهارة الحكى، مع جمال أسلوبية تخاتلنا حتى نهاية القصص، ليقوم بإحداث مفارقة تغير مسار المسرودية السياقية لتحيلنا إلى ذواتنا ، وبواطن وكوامن الذات ، بل تجتذب القارىء عبر رحلة ممتدة لتراجيديا الأحداث .
وبالنظر إلى سيمولوجيا العناوين الغريبة، والجديدة، إلا أنها عناوين دالة لكل قصة، وتحاول أن تخاتلنا تلك العناوين، لتماهينا عبر الإحالة إلى مضمونيات الرسالة التى تحملها كل قصة على حدة، والتي تنشد الكمال الذاتى، عبر " قصص نفسية "، ذاتية، واقعية، تكتسب خيالاتها عبر اللغة ومواقف الشخوص داخل الحبكة السردية – الكلاسيكية- والتي يحاول الولوج إليها ؛ليترك للقارىء حرية التأمل، فمرة نجد النهاية مفتوحة لكثير من قصصه، ومرة ينهيها بجملة غير مباشرة، أو بموقف إنسانى ماتع، عبر واقعية سرد يحاول الإلتزام، لتبرز لنا قضية : " الإلتزام في الأدب " ، وهى وإن كانت قضية أخلاقية تعلى من شأن القيم وتتحرى السرد الواصف إلا أنها قد لا تشبع نهم القارىء، لكنه " الأدب الملتزم " الذى لا يخرج عن السياق، وعن مسروديات الحكاية، ولعل البيئة السعودية المحافظة، هى ما دعته ليساير الواقع ، ولا يخرج عن مألوفية السرد الواقعى، الرومانتيكى، السيمولوجى الجميل .
وعبر سيمولوجيا العناوين الإدهاشية، المخاتلة للقارىء، والملغزة، يماهينا القاص السعودى السامق / خالد اليوسف ليصل إلى القارىء عبر إلغازية العناوين ، ولنقرأ بداية عناوين قصصه : "معانقة فوق ذوابل المواقف" ، وهو عنوان ملغز، غير كاشف عن الإحداث إلا في نهاية القصة ، وربما أراد ذلك ليجذب القارىء في تشاركية معه لفك شيفرات العناوين، وعبر الموضوعات التى تخاطب النفس، وكأنه عليم ببواطن النفس، أو أحد أطباء القلوب، ففى هذه القصة نشاهد سلبية المحب" فلاح "، أمام محاولات العاشقة المتكررة لإجتياز الصعاب، بعد رفض الأسرة له، لكنه لا يبال ، ونراه مكتفياً بالصمت، الهروب، الإنسحاب، لنكتشف في النهاية أنه يتذكر عبر الرسالة، وهى " قصة الرسالة " التى خاتلنا معها، لنكتشف أنه كان يتذكر عبر رسالتها له بالتحرك ليكتمل عش سعادتهما الجميل . عبر عاشقة ترسل له رسالة تخبره بحبها الكبير،فقد فعلت المستحيل من أجله، لكنه كان سلبياً في كل الأحوال .
وفى قصته :" جنون في زن الإحتراف " نلمح العنوان الملغز كذلك،كما نلحظ مأزومية شخوص السرد، واجتراحاتها، وكأننا أمام تشابكات حزينة لمواقف مأساوية،تفضل الجنون على العيش في واقع ضيق، لا يتسق مع طموحاته، فهو ينشد الحرية، وتجديد العالم الذى آثر أن يجتر حاضره بلا تغيير، يقول : " حينما كنت عاقلاً ،كانت رجلاى فوق رأسى .. أسير عليهما" ،فالشخصية هنا تعبر عن حالة مرتبكة ممزقة ، فهو غنى ،يمتلك السيارات، لكنه لا يستعملها ويستأجر ليركب .. وهو ليس بخيلاً كذلك، لكنه ينشد أن يكون مغايراً ، يعيش بأمل جديد لتغيير من حوله، والعالم، لذا وصفوه بأنه مضطرب نفسىاً .. يفضل الجنون على ألا يحيا مثلهم،يقول : "سأبقى أكتب برجلى، أسير خلفى ، أكرر وضع رجلى فوق رأسى فهذا أصرف لى وللمهن التى أزاولها .. للإفلاس.. ستغنى بأشعار الأصدقاء ذرات من أرض النفوذ .. ريح الصبا"، أنها حرفة الجنون الأخيرة ،ثم أمام المعالج النفسانى نراه يقر بأنه انسان غير عادى، لتنته القصة بالسؤال: هلى هو غير عادى أى أنه مختلف، أم انه لازال في نظرهم والمعالج المجنون، او المريض النفسى ؟! .
وفى قصة "الدَّلاَلَةْ"؛ التى تبيع القماش ،وتشعر بالوحدة والعزلة مع جمالها الفاتن، نلمح تلك المأزومية للشخصيات لدوافع : الحاجة .. المرض .. السقوط .. العفن .. التجارة .. البحث عن العوض .. الخوف المبالاة العنيفة .. الجوع .. المارة .. التأنيب ..الطرقات .. الأزقة .. دار المسنين العاجزين؛ العفن يطاردها وحلمها في الخروج للبيع للحرية، وغير ذلك.
ولعلنا نلمح مخاتلة السرد وتخالفية الرؤى ، والإيهام هنا ، فهو – عبر الإزاحة – نقلنا من موضوع البائعة التى تبيع القماش، إلى حالة من التَّذَكَّر لتلك المسنة التى تتذكر حالها سابقاً ، وهى قابعة بدار المسنين، في الغرفة العفنة ،ولعل انتقال الحكى هنا يصنع إدهاشية عجائبية عبر السرد السيميائى الماتع، والجميل، والمثير حقاً .
وتبدو جماليات اللغة السامقة في قصته : " حديث البنفسج" – عنوان المجموعة؛ والتي تحكى قصة عجوز مغرم بفتاة جميلة ولا ينظر لسنه، فحقاص الفاتنة فتن بها، وظن نفسه شاباً فبدأ يلاحقها، إلى ان تنبه في النهاية لحاله فوجدوه في النهاية جالساً أمام جذع شجرة ومحتضناً كمية كبيرة من الورود دليل الحب والصفاء، وليقول للعالم : " إن الحب لا يعترف بسن، ولكن قلبه الأخضر مازال ينبض بالدفء، ويتحرق لحب جديد " .
وفى قصته : " فصول تنازع الحرف" نرى جماليات متبداة، واشكاليات لا تنته ؛ إلا أننا نلمح جماليات السرد الإنسانى في قصته: "
أبو حمد حبيب الأطفال"، فقد ساءه ما يقوم به الآباء في المدينة من العمل يوماً ، وأخذ اجازة يوماً آخر، وهو العطوف على الأطفال، ينظر لمستقبلهم، فنراه في النهاية يمرض، ويطالب الآباء بالعمل الجاد من أجل صنع مستقبل أفضل للجيل القادم .يعملون يوما ويجازة يوم وهو يحثهم على إنها رؤية انسانية، وقصة تحمل عدة مضامينيات ممتدة .
وتتنامى القصص التعليمية، والتي تحمل قيماً لتعديل سلوكيات خاطئة للآباء تجاه أبنائهم ، فقصة "خامس الحيطان"، نرى سامى الذى أدمن السرقة والمخدرات نتيجة سلوك الأب والأم المنحرف ، فنراه يعترف أمام ضابط المخفر بتعاطيه السرقة، لكنه يلقى اللوم على الأب، وسوء معاملة الأم له، مما جعله أبكماً لا يتكلم، ولعل الرمزية هنا قد نسقطها على المجتمع كذلك، والذى يخاف الجميع أن يتكلموا رغم قسوة القائمين على الأمور، وهى رمزية مغلفة بالجمال، وبالسرد الحكائى الجميل .
وفى قصته : " ذاكرة الليل " يفارق العريس عروسه في صباح يوم الزفاف، ليقوم بمهمة عسكرية ، لكنه لا يعودن وكانت الليلة الأولى التى علقت منه، وتلد ويكبر الولد ،ويحلم بعودة الأب ليدافع عنه وعن أمه التى يراها مهددة في الحياة – عبر أحلام الصغير - وتتوالى ذكرياتها مع احتضان صغيرها في الليل، وأسئلة وهروب وانسحاب من أجل نسيان الماضى
وعبر قصته النفسية:" ليل لنا .. وللمدينة نهاراتها"، نلحظ مأساوية الحكى، الشجن الحزن ، فهويحاول الهرب من دوى الانفجارات ، ويخرج من ليل المدينة ليصطدم بالانفجارات والهلع والخوف والحالة الخطرة لهم باستقبال الجنود لهم بمدافعهم ، وهى تشير إلى حكمة : " انه لا مهرب من القدر إلا إليه" .
وتبدو مرموزات القصص حكيمة، ذات فلسفة توجيهية ، وموضوعات هادفة تعليمة، وقضايا ذاتية واجتماعية انسانية فيشتبك فيها الخاص مع العام ، ليشكل جماليات عبر السياق السردى، وهارمونى الدراما الناتجة عن الحواريات التى تندغم في لغة السرد فتحدث تبادلية في التلقى، وإشراكية للقارىء مع النص ،كذلك .
ولعلنا نقف مبهورين أمام القصة الدراماتيكية، الرومانتيكية/ المأساوية / التصادمية، والإدهاشية لجماليات السرد، ودراما الحكى البديع، والسرد الذى يجعلك تريق الدموع أمام قصة الزوجين في قصته : " قلبها يثير الأسئلة " فالزوج يريد أن يخبرها بأنه يحب غيرها وسيتزوج، فتفاجأه بأنها حامل، لتبدأ ديمومة من الدراما الحزينة / السعيدة/ المحزنة والمفرحة لكليهما في نفس الوقت، فنراه يعيدها للبيت وتدور رأسه مع الثانية التى وعدها بالزواج.
وتتدافع القصص الإنسانية الجميلة لدى كاتبنا الرائع / خالد اليوسف والتي تنم عن كاتب شاهق، يحمل قلبه قضايا مجتمعه وأمته، ويحمل فوق قبضته قضايا الإنسانية المتشابكة ليقدمها لنا عبر سرد بسيط، غير معقد، رامز وجمالى، وأثير أيضاً ، ويتبدى ذلم في قصته : " " الوراق وخاتنة الطباعات " حيث يماهينا بقصة رائعة، لرجل ترك تعليمه من أجل أن يعمل كاتباً يكتب الشكاوى للمطلقات وأصحاب المشاكل؛ وقد جمع ثروة وتزوج وطلق امرأته بعد ذلك،وجاءته واحدة ليعرض عليها زواجه بعد أن اشتكت من زوجها الذى طلقها لعلة في الإنجاب، لكنه تزوج من أخت صديق له لأنه يريد الزواج بامرأة مختلفة أكثر عقلانية ونضجاً ، فاذ بها تطلب الطلاق وتهرب للقراءة فقد استصغرت عقله ، ورأته أصغر من احلامها .
وتاتى آخر قصص المجموعة لتحدثنا عن الشقوق، الشحوب، الموت، حيث ينهيها بأن يدفن الجثث في اللحد ويجلس فوقها . دليل انسانيته،وأنه مختلف كذلك عنهم، وتلك لعمرى نهاية منطقية لقصصه الباذخة التى أخذتنا إلى عوالم شتى عبر موضوعات السرد المختلفة، والحكايات المجتمعية التى تعلى من الإيجابيات، وتنتقد السلبيات، وتقدم الجميل على القبيح، لتتقدم الشمس على الظلام، ويتقدم النور والحب ليعم الكون والعالم والحياة .
وفى النهاية : نحن نثمن انتاجية السرد الجميل لدى الكاتب السعودى الباذخ الشاهق أ/ خالد اليوسف، والذى يماهى بالسرد ليأخذنا إلى ذواتنا، ومجتمعاتنا ، وعوالمنا، عبر الكون والعالم والحياة .

حاتم عبدالهادى السيد
رئيس رابطة الأدباء العرب



1605454637861.png


1605454652121.png


1605454569987.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى