عبدالرحيم التدلاوي - بعض القضايا الموضوعية والفنية في مجموعة "أنفاس تحاصرها الجدران" لعبد الله فراجي.

عن مطبعة ووراقة بلال، صدرت مجموعة "أنفاس تحاصرها الجدران" للشاعر عبد الله فراجي، في طبعتها الأولى، سنة 2020، وتشتمل، فضلا عن الإهداء، على 25 قصيدة، إضافة إلى قصيدة مترجة إلى اللغة الأنجليزية بقلم سعد الأشعري. وتتمدد على مدى 124 صفحة من القطع المتوسط.
العنوان:
عنوان العمل الشعري مكون اسمي يتضمن جملة فعلية هي خبره؛ وإذا كانت الجملة الاسمية هي الأساس؛ فإنها ترتبط بما هو ثابت نسبيا؛ أما خبرها فقد سار مخالفا لكونه يبعث على الأمل؛ فالحركة التي فيه تبغي التغيير؛ ولنقل إنها تكسر جمود الاسمية وتفتت ثباتها. ويمكن اعتبار تلك الجملة الفعلية نعتا لمبتدأ محذوف؛ أي أنفاس؛ وهو ما يمنح حركة للجملة الاسمية ويجعل روح الحياة تدب في أوصالها. وأنفاس التي تحمل معاني عدة؛ منها الريح التي تدخل كل ذي رئة؛ والهواء والسعة والأمل، جاءت جمع قلة تخنق تطلعاتها الجدران؛ والجدران إذ تحيل علي الحصار والسجن وكتم النفس؛ فإنها تستدعي فعل الخرق والتحطيم والتجاوز. فرغم أن جملة: تحاصرها الجدران تشي بالقمع لكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها الحرية؛ فكل جدار، بإرادة التغيير وحب الحياة، قابل لأن يتحطم.
لوحة الغلاف:
ولوحة الغلاف تعضد العنوان، إذ يتجلى بعد الحرية في ذلك البياض الموجود في الأعلى إلى اليسار؛ وكأنه في هذه الموقع يوحي بتلك الإرادة. مقابل هذا البياض في الأعلى نجد سوادا واخضرارا يعم باقي الصورة. إضافة إلي الشجرة العارية التي تبدو عجفاء عارية توحي بالموت، لكنها، في العمق، تحمل وعدا بالاخضرار والإثمار.
يمكن عد العنوان مستفزا للقارئ حيث يجعله يشعر بالاختناق ومن ثم الدفع به لنشدان الهواء؛ أي حثه على عشق الحرية بكره الجدران كرمز يخفي فاعل القمع.
انشغالات الشاعر من خلال المجموعة:
والمجموعة تعبر عن انشغالات الشاعر بما يمور به المجتمع وما يعرفه من اختلالات معبرا عن موقفه منها ساعيا إلى غد أفضل يستنهضه أو يحلم به أو يبشر به أو يرجوه؛ فكثيرة هي النصوص ذات المنحى الانتقادي للعديد من الظواهر السلبية، من ذلك قصيدته "موت فراشة"، وهي مهداة إلى حياة بلقاسم، تلك الفتاة التي أنهت رصاصة غادرة حلمها بالهجرة بعد ضاق بها الوطن، وقصيدة "أنا والبحر"، وهي قصيدة في رثاء محسن فكري الذي تم طحنه من دون شفقة ولا رحمة من طرف آلة السلطة المتجبرة.. وهكذا، نجد الشاعر واقفا إلى جانب من جهر بالحق أو تم طحنه أو اعتقاله. وفي الوقت نفسه نجد الشاعر وبنبرة إنسانية بناهض المحتل الذي سلب أرض الفلسطينيين مظهرا انتماءه إلى الحق ومطالب أهله. ولا يغرب عن البال المساحة المهمة التي تحتلها قضية الإبداع وعسر الكتابة ومحنة الحرف.
يستحضر الشاعر الأمكنة والأزمنة والشخصبات؛ يستدعيها مكونا منها منافذ يطل منها علي الواقع راصدا التحولات والتغيرات؛ معلنا موقفه منها؛ فنراه يقف إلى جانب الجمال ضد القبح؛ وإلي جانب الحرية ضد مصادرة حق التعبير؛ وإلى جانب الخير ضد الشر. وموقفه هذا تمليه قناعته بأن سر الحياة يكمن في حب الإنسان والذود عن كرامته وحريته وحياته.
أجمالا، نجد أن الديوان وعلى مستوى تصور الشاعر وتمثله لهذا الواقع المادي يعبر عن تحول نظرة التفاؤل القديمة التي كان يحملها إلى شعور متناقض وغريب يجمع بين الحزن واليأس والغضب.
ولأنه مسكون بالبحث عن النور وعن مخرج من عنق الزجاجة، فإن نغمة الحزن واليأس الحاضرة بقوة في هذا العمل ما هي إلا وليدة استمرار الظلمة، واستمرار الطريق غارقا في أوحاله، وحيث أن النفق قد تمطط أكثر من المتوقع..
يستحضر الشاعر في قصيدته "على أثر القنديشة خطوي" ص56، شخصية تضاربت حولها الأقوال، بين من يراها شخصية حقيقية كانت مناضلة كبدت المستعمر خسائر فادحة، وبين من يراها شخصية خيالية لا تمت للواقع بصلة لكنها تمتلك قوى خارقة فرضت على الناس مهابتها كما فرضته الأولى... وشحنها بالكثير من الرمزية. جمع فيها الكثير من الصور الاستعارية، فهو حينا ينحتها من صورة الأم، وحينا من صورة المناضلة، وحينا من صورة البلاد، وغير ذلك من الصور التي نحت منها صور هذه المرأة الخيال. فهي شخصية جمعت المتخيل والواقعي في ذاتها.. لكنها صارت في النص شخصية مستقلة تمتلك أبعادها الخاصة وتحمل الكثير من تصورات وآراء ورغبات الشاعر. كل ذلك يدور في سياق تاريخي ومكاني هو الآن وهنا. إنها شخصية مركبة متعددة الأبعاد.
إن نص السابق يعد لب العمل نظرا لطوله ونظرا لاحتلاله قلب المجموعة؛ ثم لأنه يحمل هموم الشاعر المتكلم وهو يخاطب تلك المرأة. ويؤكد عنوانه هذا البعد بشكل صريح.
اللغة في المجموعة:
يقول صلاح بوسريف بجريدة القدس العربي:
الشعر هو اللغة وهي تتجدد، تغير قمصانها. هو الماء الذي يجعل اللغة حية لأنها اختراق واختلاق. لا يطمئن للثوابت والمسلمات، لذلك فاللغة فيه تستعيد وهجها، وتسمي. لا بما هو مسمى، بل بما لم يتسم بعد، أو بما لم يكن باديا في الأشياء من قبل، لأن عين الشاعر، من المفترض أن تكون عينا تخترق الطبيعة والأشياء، وتشعل ما كان كامنا فيها من صمت.
تنهل لغة الديوان من مفردات الفلسفة والتصوف، إذ لا تكتفي بالمنطوق من عبارات دالة، بل تميل إلى المفاهيم العميقة ذات البعد المجرد، كما أنها لا تستسيغ الكلمات التي تحيل في معناها على الملموس المتعارف بين الناس. وهذا النهل ما هو إلا تعبير عن عشق للغة في أبهى صورها، وأجمل معانيها وكلماتها الرفيعة.
ففي القاموس اللغوي للديوان تتردد كلمات عدة حسب موقعها من السياق العام، وحسب مدى تعبيرها عن الرؤية الشعرية للشاعر، من ذلك، على سبيل المثال: معجم الطبيعة من رياح وفصول وبخاصة الخريف، ومعجم مستمد من الصوفية كالعشق والتجلي والرؤيا والانبثاق..، الأمر الذي يسمو باللغة ويرسم صورها بكل دقة ومن خلال رمزية عميقة، تتقاطع مع تصوره للقصيدة في جديتها ومعانقتها لقضايا الناس والمجتمع..
تقنية تقسيم النص إلى مقاطع:
اعتمد الشاعر في ديوانه الجديد على تقنيّة القصيدة المقسَّمة إلى مقاطع قصيرة لما لها من قدرة على النمو والتكامل داخل القصيدة. وهذه التقنيّة يمكن العثور عليها في عدد من القصائد سواء أتت تلك المقاطع مرقمة أم مفصولة بعلامة؛ فبالنسبة للمرقمة نجد القصائد التالية: "سقوط المرايا" وهي في سبعة مقاطع و"وهج الرؤيا" والتي أتت في ثمانية مقاطع، وبالنسبة لغير المرقمة، نجد قصيدة "خيول الأطلس" والمكونة من ثمانية مقاطع، وقصيدة "أنا والبحر" والمشكلة من خمسة مقاطع.
فكل مقطع من هذه المقاطع يسعى لخلق صورته الشعرية الخاصة به. حتى أنها لتبدو مقاطع مستقلّة، إلا أنها ترتبط فيما بينها ارتباطا عضويّا، وفي وحدة متكاملة موضوعيا ونفسيّا. فضلا عن كونها مبنيّة على مجموعة من الصور المتجانسة، تشكل ،في النهاية، صورة واحدة كليّة للقصيدة.
ونجد قصيدة "أنشودة فيها المرار" مقسمة الى مقاطع استخدم فيها الشاعر تقنيّة المزج بين ثلاثة مقاطع ذات الأسطر الثلاتة، والشبيهة بالومضة الشعرية، كقاعدة لتأثيث الصورة الشعريّة المشهديّة. واعتمد على ظرف المكان المسبوق بحرف الجر "في" كتكرار بدئي وكلاحم بين تلك المقاطع: في المدى، في ميادين، في دروب.. وهذا الانتقال اعتمد صيغة أخرى وهي صيغة التدرج من الأكبر إلى الأصغر.
وهذا التقسيم لم يكن مجانيا بل كان بغرض التحكم في النفس الشعري،وضبط وتدقيق الصور الشعرية من خلال بناء عام يظهر القصيدة كوحدة متكاملة، تنتظمها إيقاعات المقاطع لتفصح عن حمولتها الفكرية، وعن تصوراتها العامة بتلاحم ودقة وتكامل في المعنى والدلالة.
تمثل هذه المجموعة تجربة متميزة في أفقها الشعري الجمالي، وفي رؤيتها المختلفة، بما تؤسس له من مغايرة على التجارب السابقة للشاعر، لأنها اشتغال شعري جمالي، بوعي نظري جديد ومختلف.
**
تمت الاستفادة من حوار أجريته مع الشاعر عبد الله فراجي، ومن مقال لفرج الحطاب حول ديوان "النوم في محطة الباص" لعبد الله كيطان، بعنوان "البحث عن الذات المحضة".



1605458286748.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى