حاتم عبدالهادى السيد - واصفات السرد السيموطيقى في رواية " بيتنا القديم" للروائى الجميل د.رضا صالح / السويس

يحيلنا الروائى المصرى الشاهق د. / رضا صالح - منذ البداية إلى التاريخ، والواقع المصرى المتشاكل، عبر شكاوى " الفلاح الفصيح " ، وعبر الإهداء الإشراقى : " إلى أبى الذى أراد أن يبتسم في وجه الدنيا .. أهدى هذه الرواية " ، ثم تأتى المفارقة بعدذلك باقتباسه من سورة الأنبياء في القرآن الكريم :" وأيوب إذ نادى ربه أنى مسَّنٍى الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين " الأنبياء 183" صدق الله العظيم .
ثم نراه يردف ذلك بمثل حكيم : " من عرف بلاء غيره ، هان عليه بلاؤه .. يجب أن تكون مثلاً أعلى للناس ، لكن المحيط حولك كله فاسد " . " من شكاوى الفلاح الفصيح في الأدب الفرعونى".
وبداية: فإن ربط هذه الواصفات المتباينة عبر سيموطيقا السرد؛يكشف لنا عن دلالات عميقة للحزن الذى يسيطر على الكاتب / الرواية؛ كما يشير إلى تراجيديا حزينة تعزف دراماتيكية أحداث مأساوية متعاقبة ، فالإهداء الجميل إلى والده الذى أراد أن يبتسم؛ لكنه لم يكمل الإبتسام، ثم الإشاريات السياقية لتضمين الآية القرآنية ومدلولاتها عبر تأويل – الواصفات السردية – لقصة سيدنا أيوب وصبره على البلاء، بما يشير إلى ذاته الحزينة التى تجرعت وستتجرع – ربما – خبيئات مستقبلية يتوقعها، لذا رأيناه يأتى بواصفات دالة عبر تضمينه جزء من شكاوى الفلاح المصرى الفصيح،في البرديات الفرعونية،والتى تدعو إلى التماسك والقوة؛وأن يكون الفرد مثلاً أعلى للناس، فهو مبتلى لكن لكلٍ بلواه، خاصة وإن الكل من حوله فاسد، وتلك لعمرى – واصفات تهيأ لنا فك شيفرات النص –بداءة-، ولعل مصطلح " الواصفات السردية " – كما أعنى– هو أبلغ كثيراً من الإشاريات للدوال والمدلولات عبر الدرس السيمولوجى الذى ننتهجه بداية، حيث تحدد الواصفة الزمان والمكان وتشرح تفاصيل السرد – عبر تضمينات ، وإحالات – تشى بكثير من مضمونيات موضوعة الرواية؛ كما أنها تكشف عن سمات الشخصيات النفسية ، وحالات ومواقف كلها تؤدى إلى الحزن،إذ الكاتب – هنا - لم يضع كل تلك الواصفات/ الإشاريات اعتباطاً، وقد جاءت بداية الرواية لِتُقٍرّ تلك الواصفات، بوصفها المكان والحدث، والشخصية المأزومة بداية، والتي تخشى النوم واليقظة، وتترقب معرفة ما حدث للمنزل الذى تركه بعد أن سافر، وأحوال الأهل والأسرة وواقعه المحيط الذى استعار عبارة الفلاح الفصيح : " المحيط الذى يدور بالفساد" ، ويقينى إن هذا المدخل السيمولوجى الواصف،الدال قد رأيناه متحققاً منذ السطور الأولى للرواية لحالته النفسيه،وقلقه الفيزيائى، والذى انعكس ليرسم شخصية:" خالد أيوب عمران " ومنزله الذى تدور حوله الرواية، والذى يذكرنا على الفور ؛ عبر التساوق المخيالى برواية " عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسوانى ؛ وغيرها كذلك، مع الإختلافبالطبع بينهما، وتقاربهما كذلك ؛في رصد المواقف والظلم الإنسانى ، بل والفساد المحيط ،يقول في السطور الأولى للرواية: "هبطت الطائرة إلى مدرج مطار القاهرة ...غادر الركاب مقاعدهم،وبدأوا في دخول الأنبوب الموصل إلى الصالة الرئيسة، بالرغم أن عودته إلى مصر كانت نهائية هذه المرة، إلا إنه لم يحمل أى بضائع أو هدايا، لم يحمل سوى حقيبة يد،والحقيبة الأخرى التى في مخزن البضائع بالطائرة، ظل خالد أيوب عمران شاراداً يتلفت هنا وهناك؛ كأنما لا يع ما حوله، تحرك كما فعل باقى الركاب، شعر ببارقة أمل لجمعه المال من الخليج،المال هو الذى سيحل له مشاكله،سيحول الأعداء إلى أصدقاء، أو على الأقل ينهى عداوتهم ، كلما تواجد في مكان ما يشعر بمن يتربص به؛ صار يفكر فيما حدث، ويفكر فى كيفية حدوثه .... كان يخشى النوم، كما كان يخشى ساعات اليقظة، يفكر فيما آل إليه المنزل، ويفكر كيف يحل تلك المشاكل الرهيبة التى خلفتها له الأفكار البالية !!" .
لقد خَشَّ كاتبنا – مباشرة – إلى الأحداث، ولم يسرد لنا شيئاً عن تفاصيل سفره سوى جمع المال وعودته ليحل المشاكل العالقة بمنزله، منزل العائلة،الحى،القرية، المدينة، مصر،وكأنه يجسد الواقع المصرى بمشكلاته وظلامية المحيطين به من جشع ، وعدم لا مبالاة لمشاعر الآخرين، وعدم اعطاء الحقوق لأصحابها، فالأخ - كحالة ، أيوب يصبر على أخيه الذى يريد تجريده من نصيبه في المنزل فيوافق على زواج خالد ابنه من بنت أخيه، ثم نراه يضيق على أخيه في نفقات الزواج، ويطلب منه – بخبث –أن يبيع نصيبه في المنزل ليجهز ابنته، ويوافق الأخ بعد مضض ، وبحرقة – على بيع نصف نصيبه، ثم نصيبه كله، بعد ذلك لتزويج الإبنة الثانية، وتتأزم الحكايات عبر واصفات السرد وشخوصه، وحالاتهم النفسية، ليتحول المنزل تارة إلى مكان عام، مخزن لخردة الدكان الذى في أسفل البيت المؤجر، ولمأساة لصاحب المنزل الذى طالته الشروخ، وتهرأت سلالمه، ولا عناية من أحد من السكان لترميمه، وربما أراد بالمنزل : " الواقع المصرى الكبير " عبر الحكايات المثيرة منذ عهد الجد عمران حتى الأحفاد، وقصص الظلم والجشع الإنسانى، والحرمان من الميراث كذلك، ثم ضياع المنزل على أيدى الغرباء، اخوة زوج أختهم؛ جدة خالد، التى أجرت المنزل لزوجها ليقف في وجه خالد، فلا يستطيع ارجاع ميراث ومجوهرات والدته من الجدة، وتتوالى قصص المأساة، والتراجيديا الإنسانية عبر الواصفات الرامزة ، وعلاقات أفراد المجتمع ببعضهم داخل العمارة / التى تمثل أنموذجاً مصغراً لجوانب من الواقع المصرى، أو لشرائح متعددة تمارس البلطجة والفساد، فهذا مأمور القسم يسكن بشقة فيتواطأ معه الجميع : خوفاً ورغبة، ولا يعلى من قيمة الإيجار، بل لا يترك الشقة حتى بعد خروجه للمعاش ، وتركه المكان للعيش بمصر الجديدة لتنهى الواصفات السردية بإدهاشية في النهاية لإقتياد المأمور صاحب العقار إلى المحكمة ليرفع دعوة ضده، ولقد جاء خصيصاً من القاهرة لهذا الغرض ليستولى على الشقة إلى الأبد .
كما تعكس الرواية العديد من الممارسات السيئة، عبر الفساد، والقوانين الظالمة للمبانى والعقارات التى تضر بالمالك تجاه المستأجرين، والتي مثلت مأساة في عمر المصريين قبل صدور قانون الإيجار الجديد .
إذن هى رواية مجتمعية تعكس العديد من المشاكل من خلال تلك الشرائح التى تعيش في هذه العمارة، فلايجد الولد شقة في ملكه ليتزوج فيها، فيضطر لأن يؤجر شقة أخرى، بينما يتحسر وهو يشاهد باقى الشقق المؤجرة مغلقة، فهذه شقة لشركة قطاع عام – بما يذكرنا بالقطاع العام، قبل الخصخصة، وبيع شركات القطاع العام بعد ذلك ، فنرى الشركة قدأغلقت أبوابها ؛لكنها ترفض أن تترك الشقة، وهذا رجل جشع يأكل ارث زوجته والورثة، وذاك يخطط لإيذاء الآخر، بينما نجد صوراً كذلك للإنسانية الدافقة، والحب، والقيم المصرية الأصيلة في شهامة " الجدعان " وغير ذلك .
ورواية " بيتنا القديم " ؛هى رواية تدور حول المجتمع المحيط به؛ كراوٍ ، وسارد مولع بتفاصيل التفاصيل،فيعرض للجميع :الفاسد –والصالح، القوى والضعيف، كما ذكر الفلاح الفصيح – وعليه أن يقدم القوة، مع وجود المغريات : " المال الذى يحيل الأعداء إلى أصدقاء، ويغير الواقع القديم عبر عنوان الرواية " بيتنا القديم " لتتنامى هارمونية السرد للعنوان الدال/ عبر واصفات السرد: " أو المقدمات التمهيدية لفك شيفرات النص من خلال التضمينات الإشارية الواصفة، والإقتباسات ذات العمق ، والتي قد تلخص موضوعة الرواية ، وتفكك بنائيتها، ومرموزاتها، وشيفراتها الملغزة كذلك " .
ولنا أن نرى الرواية من جانب تاريخى، من خلال الأرقام والتواريخ الدالة والتي تشير إلى المجتمع المصرى خلال قرن او ما يزيد لهذه الأسرة التى نزحت من الصعيدإلى بورسعيد ثم السويس، ليقدم لنا مجتمع " القناة " – قناة الويس – بمشهدياته عبر لقطات تاريخية واصفة، وعبر احالات لوقائع تعكس الحالة المصرية وواقعها على مر العصور ، بداية من عام 1914م حيث يرتبط تاريخ مولد " فتنة " بالحرب العالمية الأولى، ثم ولد " زكى " مع احداث1923مولم يكمل تعليمه وعمل بالتجارة، ثم ولد لعمران بعد ذكى " أيوب"1925م، والذى عمل في الحجر الصحى " الكارنتينا"،ثممحمود 1927م" والذى نال الحظ الكبير من التعليم ، عايدة" 1930م والتي أكملت التعليم الثانوىن وكانت تعشق حكايات والدها ليحدثها عن البحر والدلافين ورحلاته البحرية حيث كان يعمل على زورق في البحر، وتزوج من ابنة صاحبة المركب، وانجب منها فتنة؛ إلا ان زوجته ماتت مبكراً ، فتزوج أخرى وأنجب منها هؤلاء الأولاد، وعايدة عاشقة الحكايات البحرية للحيتان والعواصف وانقلاب الزوارق وقصص البحارة المثيرة ، كما يحدد الزمنة والتواريخ لكل فرد يحدد الأحداث المرتبطة بها، وبعض ملامح وسمات كل فترة عقدية ، في قرية السليمانية التابعة لمحافظة السويس والقريبة من مقام " سيدى الغريب" وحكايات سكان " عمارة عمران" وعقبه، وعشيرته عبر قرن كامل، وولادات عدة.
أيوب ومحمود يعملان في مصفاة البترول برأس الخليج مع مجىء ثورة يوليو 1952م ، ويعرض لحكايات الخواجات، المهندس مانولى، مستر وورد، الخواخة برناسوس، ومنذ ظهور هذه الشخصيات في الرواية تتغير مسيرة السرد الوصفى إلى الدراما عبر حوارية اللهجة للخواجات، وعبر اختفاء " الراوى / المؤلف، ليظهر الراوى العليم_ على استحياء – لكن الكاتب يقحم الذات في تسيير ووصف مسروديات الأحداث، وكانه يعايشها، او لربما حكيت له، فهو قريب جداً منها، وعبر حكايات منطقة " رأس خليج السويس" يعرض لنكسة عام 1967م، وانتصارات 1973م، وثورات الربيع العربى، وحكم الإخوان والخلاص منهم، ليصل إلى حاضرنا الآن، فهو يحكى " حكاية مصر" ، ويؤرخ لأحداثها من واقع تاريخ الولادات، وتلك لعمرى جمالية مثيرة، وتجديدية، وطرافة، ومهارة لم أرها في روايات تحمل هذا السمت التاريخى، بينما الرواية ليست تاريخية بالمعنى التاريخى المتعارف ، بل تحمل كم الواصفات السردية لتاريخ سكان العمارة، الحى، كذلك. كما إنها رواية " مذكرات"، أو " سيرة حياتية لتاريخ حياة الجد عمران وعائلته الكبيرة " ،عشيرته، أحفاده وأحفاد أحفاده، وشخصيات أخرى ثانوية كذلك ، كما أنها " ذاكرة للعصر " ولسير أحداث بعينها، وانتقاد لعدم تحديث الدساتير والقوانين القديمة- آنذاك - كقانون الملكيات؛ والمؤجرين والمستأجرين، دون أن يشير بشكل مباشر إلى انتقادات للمجتمع ، كما أن شخصيات رواياته – غير ثورية – فلم نر أحداً ثار وهاج وقتل لإحساسه بالظلم المهيب الواقع عليه، فالكل يتحمل معاناة وقسوة الحياة والفقر والأمية ، كحياة غالبية المصريين : " الذين يأكلون الزلط ...ولا يثورون كما كان يقال، ولا يزل " .
إنها رواية " مصر " ؛ واقعها الإجتماعى – بإمتياز، عبرأيديولوجيات الفكر وعلاقات السكان، وفكرة التعايش، والنزوع إلى السلام الإجتماعى؛ لا الشجار، وإلى تحمل الآخر الظالم، والصبر على جار السوء، والخوف من سلطة المأمور وسطوته، بل وزوجته وأولاده، عبر طرائق الحياة في المجتمع الريفى المصرى، وفى المدينة كذلك " مدينة السويس الباسلة " وحكاياتها البطولية لمناهضة المحتل الغاشم، وقصصأهلها الطيبين كذلك .
إنها رواية الحكى، التفاصيل الدقيقة، والوصف المرسوم بعناية ودقة، وتراتبية قد تصل بنا إلى حد التجاوز، لكن الكاتب يصر علي دقائق الأمور، وقد رأينا توثيق التواريخ للوقائع، واتخذناها واصفات سيميائية، جديدة، تغايرية،كعلامات لتفكيك شيفرات النص، عبر ما ورائيات السرد الماتع، الشاهق الجميل، والواقعى كذلك .
إن رواية د. / رضا صالح تعرى الواقع، لتضعنا أمام ذواتنا عبر شخصيات مأزومة، ومخاتلات للسرد المكتنز، عبر راوٍ عليم؛ وتدخلات كذلك من جانب المؤلف لضبط مسيرة السرد المتنامى عبر هارمونية الواقع المجتمعى الممتد . كما انها رواية تصلح لأن تكون " فيلماً سينمائياً "، او مسرحية بزيادة رقعة الجمل الحوارية عبر الدراما الوصفية الشاهقة، والسرد الماتع، واللغة التى تنم عن معرفة كاتب بتفاصيل الرواية ، ومسرودياتها ، معنى ومبنى، ومعمارية شاهقة، وجماليات لوصف واقعى سيميائى، مثير وجميل كذلك.
سيظل د. / رضا صالح يقدم الجديد، ولعله في هذه الرواية التى ترك النهاية بها مفتوحة؛ ليفتح باب التساؤلات عن امتداد مسيرة الفساد والظلم إلى يومنا هذا، علَل واقعاً يتغير، عبر نقد هادىء، غير مباشر، ويمكن أن نلحظ إلماحاته خلف ما ورائيات السرد الهادر الماتع، الشاهق، والجميل أيضاً.
حاتم عبدالهادى السيد
رئيس رابطة النقاد العرب



1605628996143.png



1605628971293.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى