كاظم جهاد - فلسفة قصيدة النثر

في الصّفحات التالية، سأتناول قصيدة النثر الفرنسيّة، لا بغاية تعليم المستمعين والقرّاء ما تكون عليه قصيدة النثر، بل لإتاحة المقارنة مع قصيدة النثر العربيّة، التي سأتناولها بالمراجعة والتّحليل في بقيّة بحثي الذي سيُنشَر كاملاً في كتاب أعمال مؤتمرنا هذا. تركّز مداخلتي على فلسفة قصيدة النثر، بمعنى جماليّتها الخاصّة وشعريّتها الضمنيّة، والموقف النقديّ من اللّغة والعالَم والكائن الذي تنطوي هي عليه بالضرورة. والبدء باستعراض الصّيغة الفرنسيّة وتحوّلاتها يجد تبريره في كون هذه القصيدة نشأت وتميّزت وتطوّرت في هذه اللّغة، ومنها انتشرتْ في بعض لغات أوروبا الغربيّة والشرقيّة واليابان، حيثما بقيتْ، خلافاً لما يعتقده الكثيرون، مهمّشة في الثقافة الأنغلو سكسونيّة. من هنا، فإنّ احتفاء الشعر العربيّ بقصيدة النثر وممارسة بعض الشعراء العرب لها منذ خمسين سنة ونيّف، هما علامة عنفوان شعريّ وحيويّة ثقافيّة.
يُعتبر شارل بودلير مؤسّس قصيدة النثر بالمعنى الذي به يُقال إنّ القدّيس بولس هو مؤسّس المسيحيّة وبانيها كمؤسّسة وكيان تاريخيّ، فيما كان عيسى المسيح هو البادئ إليها وواضع ناموسها وشرْعتها. في مجموعته الشعريّة "سويداء باريس"، الصادرة في ,1869 أي بعد وفاته بعامين، وكان قد نشر بعض محتوياتها في المجلاّت الأدبية، أسّس بودلير لقصيدة النثر، وكانت مقدّمته الموجزة لهذه المجموعة، التي هي في الحقيقة رسالة لمدير تحرير صحيفة أدبيّة (أرسين أوساي)، بمثابة بيان لهذا الجنس الأدبي الجديد. جنس سبقه إلى تصّوره واستحداثه مجموعة ممّن يُدعَون بالرومنطيقيّين الهامشيّين، وعلى رأسهم ألوزيوس برتران وألفونس راب وموريس دو غيران وإكزافييه فورنيريه. والعنوان الثانوي الذي وضعه بودلير لمجموعته هذه: "قصائد نثر صغيرة"، يحمل بحدّ ذاته دلالة تقنيّة أو فنيّة مشخّصة. فهو لا ينعتها بالصغيرة عن تواضع، ولا للإشارة إلى وجازتها، بل ليُميّز بينها وبين ما كان يُدعى، في القرن الثامن عشر وطوال النصف الأول من القرن التاسع عشر، بقصائد النثر الطويلة أو الكبيرة، وهي التسمية التي أطلقها سانت بوف وبوالو وآخرون على بعض الأعمال الروائيّة والسرديّة بعامّة، المتميّزة بنثرها الفنيّ أو الشعريّ، والتي اعتُبرتْ بهذه الصّفة أناشيد طويلة. من هذه الأعمال، على سبيل التمثيل، "مذكّرات ممّا وراء القبر" لشاتوبريان، و"مغامرات تيليماك" لفينلون، وكان هدف هذا الأخير المعلن هو تقديم معادل نثريّ لأودّيسة هوميروس.

(يهمّني هنا الإشارة إلى أنّ قصيدة النثر، إلى جانب هذا الحفز الآتي من بعض الرّوايات العاملة بالنثر الشعريّ، وجدت حافزاً آخر في ترجمات الشعر الأجنبيّ غير الموزونة. وهكذا، ففيما يرى بعض خصوم قصيدة النثر العربيّة في هذا الجنس محاكاة محضاً لترجمات الشعر غير المنظومة، لاحظ الشعراء الفرنسيّون أنفسهم في ترجمة الشّعر بلا وزنٍ مناسبةً لإبداع شعر خارج العروض، بل حتّى خارج البيت الشعريّ).
لا شكّ في أنّ قصيدة النثر الفرنسيّة لم تبقَ عند الإطار الأوّليّ، ولكن الغنيّ بإرهاصات البدايات الجادّة والمكتنزة بالوعد، الذي رسمه لها بودلير. فمع رامبو ومالارمه وشعراء القرن العشرين، ستشهد قصيدة النثر نموّاً وتوسّعاً هائلين، وسيعمد العديد من ممارسيها إلى خرق المحرّمات التي وُضعت لهذا الجنس في بداياته، ضمن الحرص الطبيعيّ على تجذير الفارق بينه وبين ألوان الشّعر والأدب الأخرى. هذا التطّور دفع ولا يزال يدفع الباحثين إلى محاولة تعريف قصيدة النثر ورسم حدّها واكتناه "هويّتها". ولقد تلقّت هذه القصيدة في العقود الأخيرة معالجات خصبة تقدّم بها محلّلون شكلانيّون وغير شكلانيّين لا أجد لدراساتهم الجادّة كبيرَ أثرٍ في التفكير العربيّ الذي ما برح يقارب قصيدة النثر من خلال مقولات سوزان برنار في كتابها "قصيدة النثر من بودلير إلى أيّامنا"، هذا الكتاب الضخم، المتناقض غالباً و"الثرثار" في جميع الأحوال، الذي سبقَ بعقود عديدة ثورة النقد البنيويّ والسّيميولوجيّ للشعر والكتابة بعامّة. والحال، فإنّ هذه الثورة، وإن تكن شهدتْ في السنوات الأخيرة انحساراً ملحوظاً، طبعتْ إدراكنا للنصّ الأدبيّ وتلقّيه بآثارها العميقة، وأكسبتنا في النظر في اللّغة والأشكال الفنيّة طرائقَ وعاداتٍ يمكن القول إنّه لا رجوع عنها.

ما الشعر وما النثر


أوّل ما يفترَض القيام به لتحديد لون شعريّ ولتمييزه عن اللاّشعر هو التساؤل عمّا هو الشعر وعمّا هو النثر. ولقد وضع عالم الألسنيّات والشعريّة الشكلانيّ الرّوسيّ رومان ياكوبسون تفريقاً بين الاثنين شهيراً، ويمكن الأخذ به لا سيّما أنّه وجيز ومكثّف. بموجب هذا التفريق يكون شعراً كلّ إنشاء يحتفي بالدّوال أكثر ممّا بالمداليل وتكتسب فيه الكلمات قيمتها من رنينها وشكلها واكتنازها بالإيحاء، ومن مجموع علاقاتها التجاوريّة. فهي، أي الكلمات، تُنتقى وتُحَبّ انطلاقاً من موسيقاها وممّا تتيحه من لعب على الكلام ومناورات بلاغيّة وأسلوبيّة. وبالمقابل، يكون نثراً كلّ نصّ يُصار فيه إلى تغليب المعنى وتُمنح فيه الأولويّة للمدلولات. بالطبع هذا لا يعني أنّ الشعر يضحّي بطاقته المعنويّة أو الدلاليّة، ولا أنّ النثر يستغني عن كلّ مسعى أسلوبيّ وعناية موسيقيّة. فالمسألة معايرة وغلبة معقودة لهذه الشاكلة أو تلك في معالجة اللّغة داخل نصّ بذاته.
قصيدة النثر، وهنا امتيازها الفريد وطبيعتها "الخلاسيّة"، جاءت لتجمع بين فضائل كلا النّوعَين. من الشعر أخذتْ احتفاله العالي بلعب الدوالّ، وأنعشته بقدرات النثر على قول ما لا يقوله الشعر "المحض". فمع تجاوز الرّومنطيقيّة والإيغال في زمن الحداثة، أصبح الشاعر يضيق ذرعاً بحدود البيت الشعريّ من جهة، وبعجز الشعر "المحض" أو"الصّافي" عن احتواء كامل التجربة الإنسانيّة. ثمّة دائما "مناطق" من التجربة وظلال من المعاني لا تُقال إلاّ نثراً، وما تطمح إليه قصيدة النثر هو توسيع النصّ الشعريّ بحيث يستقبل هذه "المناطق"، ولكنْ بالعمل دائماً تحت سيادة الشّعر وهيمنته شبه الكليّة. من هنا الطبيعة المتوتّرة التي تميّز النماذج الجيّدة من قصيدة النثر. توتّر تجد سوزان برنار أنّه يقوم بين عنصرَي الفوضى والنّظام (قصيدة تبدو ذاهبة في كلّ اتّجاه، ولكنّ نظاماً يزيد سريّة أو يقلّ يتكفّل بلمّ خيوطها العديدة)، ولكنّ تزفيتان تودوروف، في دراسته الحاملة عنوان "الشعر بدون البيت" يرى أنّه يجب تنويع نظرتنا إليه. فهو لدى بودلير توتّر بين الشعر والنثر بصريح العبارة، أي بين كلّ من الغناء والسّرد تارة، وبين الغناء والفكر تارةً أخرى. وهو، في "إشراقات" رامبو، توتّر بين المعنى واللاّمعنى. والأخير يأتي لدى رامبو من مراس دائم، وبالتالي مقصود، يقوم على إلغاء المرجع وعلى معاملة أشياء وعناصر مجهولة النّوعية والمصدر كما لو كانت معروفة، وكذلك على مراكمة عناصر معدولة، أي يلغي بعضها البعض، كما في قوله: "صالوناتُ أنديةٍ حديثة أو صالاتٌ من الشّرق القديم>، "الوحل أحمر أو أسوَد"، <هنا أو في أيّ مكان".

طوال ما يقرب من القرن ونصف القرن استوعبتْ قصيدة النثر شتّى أشكال الخطاب النثريّ وعملتْ على تذويبها في مصهرها الشعريّ. مع بيير ريفردي (ومن أسفٍ أنّ ضيق المجال يمنعنا من الإكثار من القبسات الدالّة) هو احتفال بالواقعة، وبالمنظر أو المشهد، مع نهايات دائمة الانفتاح أو منقلبة على المنطق البدئيّ للحكاية. ومع ماكس جاكوب، نكون، بالعكس، أمام سعي إلى النهاية المغلقة واستلهام لحكاية مشظّاة وحافلة بالفراغات، أو لسلسلة حكايات متضاربة ومختزلة إلى مزيج من المعقول واللاّمعقول تغلّفه سخرية صاحية. مع فرانسيس بونج، انفتحت قصيدة النثر على عالم الأشياء، لا لتُفرغ الشعر من الوعي الإنسانيّ، بل للكشف عن المسافة المأساويّة التي تفصلنا عن الشيء، قواميسنا تعجز عن تعريفه كما هو، وإنشاءاتنا الأدبيّة لا تقدر على مقاربته دون أن تسقط عليه هواجسنا الجوّانيّة وتمثّلاتنا الذهنيّة. ومع هنري ميشو، انفتحت قصيدة النثر على ابتكار كائنات فنطاسيّة أو شائقة تسمح باتّخاذ مسافة من الألم الإنسانيّ وتهبه في خاتمة المطاف نصاعة كريستاليّة. كما انفتحتْ على الغناء، على أنّه، هو أيضاً، غناء موضوع على مسافة، ويمرّ بجملة سياقات "تغريبيّة". هكذا كتب ميشو في واحدة من قصائد الحِداد بُعَيد رحيل زوجته في حريق مروّع: <جاءني صحبةَ الأمطار رفيقي، هذا الذي يقال إنّه يظلّ لاصقاً بكلّ واحد (...) أبداً لم أفلحْ في تشتيت كآبته. الآنَ تعبتُ (...) معطفه المبلو أم هو يا ترى معطفي؟ يبعث القشعريرة في بدني. صارَ ينبغي أن أدلفَ إلى البيت". فمن الواضح هنا، كما التفتَ إليه ميشيل ساندراس في كتابه "قراءة قصيدة النثر"، أنّ ميشو يبتكر قريناً أو أنا أخرى "يلقي" عليها بثقل الحِداد، ويجترح مسافة يعبّر فيها عن شجنه خارج مباشريّة الغناء. ومع رنيه شار، اتّسعت قصيدة النثر لتشمل الحكاية الموجّهة غنائيّاً والأمثولة الفلسفيّة وشذرات الحكمة ("أفوريزمات"، وهو ما كانت العرب تدعوه بالتّوقيعات)، سوى أنّها حكمة مضادّة، خارجة عن العُرف، مصحوبة بعمل على الصّورة به تفلت من فخاخ الخطاب، أو منحوتة بوجازة تمنحها صيغة الأمثال المكثّفة بل "الباترة"، كما عندما يكتب: "إرثنا ليس مسبوقاً بوصيّة"، أو " لا مناصَ من أن تتّحد بما لا فكاك لك منه". إلى هذا كلّه، اغتنت قصيدة النثر بلغة الإعلام والصحافة والنقد التشكيليّ، بل بلغ بها الأمر (لدى ميشو مثلاً) إلى محاكاة لغة التقرير الطبيّ.

الحالة الخصوصية


تبقى الحالة الشديدة الخصوصيّة، حالة سان جون بيرس. لقد توهّم مَن عرفوه عبرَ ترجمته العربيّة أنّه شاعر قصيدة نثر. والحقّ أنّه بعيد عن هذا الجنس الأدبيّ. هو نفسه كان يسمّي قصيدته قصيدة غير موزونة أو قصيدة اللاّنظم أو اللاّبيت (poeme non versifie). فقصائده أناشيد طويلة يسودها نبر احتفاليّ وتعداد غنائيّ لعناصر العالَم وأحداثه، فلا تجد فيها السّمات الفنيّة الغالبة على قصيدة النثر. ثمّ إنّ محلّلي موسيقى أشعاره، هنري ميشونيك مثلاً، لاحظوا أنّ عبارته الشعريّة الطويلة (verset) تتجاور فيها أبيات موزونة متلاحقة، من ثمانيّ المقاطع وعشاريّها إلى الألكسندريّ وسواه، أبيات مذوّبة في "منطوق" شعريّ واسع بالغ القرب من القصيدة "المدوّرة" العربيّة. وفي منطقة قريبة من هذه تتموقع أناشيد بول كلوديل، العامل هو أيضاً بالأبيات المدوَّرة الطويلة أو الأبيات المقاطع، وإن يكن هو أيضاً صاحب قصائد نثر عديدة، كهذه التي عالجَ فيها مشاهداته في الشّرق الأقصى، والمتضمَّنة في مجموعته الضخمة "معرفة الشّرق". اللاّفت للنظر أنّ الاعتقاد بصدور بيرس عن قصيدة النثر أوهمَ بعض الشعراء العرب بإمكان كتابة قصيدة نثر طويلة. والحقّ، فإنّ الوجازة والتكثيف يظلاّن من السّمات الأساسيّة لقصيدة النثر، لكنّ هذا لا يمنع من إنشاء لوحات أو قطع متوالية تشكّل كلّ منها بحدّ ذاتها قصيدة نثر مرتبطة بالقطع الأخرى بناظم ضمنيّ أو ظاهر. وهذا ما عمل به ميشو في قصائد عديدة، ونجح عبّاس بيضون في تحقيقه في "صور" كما في "لا أحد في بيت السيكلوب". فالقصيدة الأخيرة تضمّ أكثر من ثلاثين قطعة مستقلّة تجمعها بالأخريات صورة "حاضنة" هي تارةً صورة عين السيكلوب (كناية عن أثر الرّصاصة) وطوراً صورة "زاد"، الفقيد الذي يُزجى له نشيد الحِداد هذا.

هذه هي قصيدة النثر في تجلّياتها الكبرى المعروفة: وجازة وتشظّ وغناء مضادّ أو آتٍ من على بُعد، وسرد تكسيريّ عن عمد، ومجازفة بالمعنى تقذف بنا مراراً في أقاليم اللاّمعنى أو المعنى المُفارق، وتُخرجنا من العالَم المعهود لنكون في غمار عالَم آخر أو لاعالَم. فقصيدة النثر، وهذه سِمة هامّة، لم تقمْ لترفع النثر إلى مصاف الشعر كما يتوهّم البعض، بل لتفتح الشعر على ضدّه الحيويّ ولتشحنه بطاقات لا يتوفّر عليها هو وحده. وعلى هذا النّحو يكون لقصيدة النثر فلسفة فعّالة وجماليّة ضمنيّة، فهي تتطلّب من مُمارسها القدرة على تشظية التجربة واتّخاذ مسافة منها، وعلى مضاعفة أناه الدّاخليّة وتحويل الزمن إلى فضاء. قصيدة كهذه، كما قال عبّاس بيضون، تحمل في داخلها مرجعيّتها النقديّة ومَصادرها المعرفيّة. يمكن أن يكون البعض قادراً على ممارسة قصيدة الأبيات (موزونة كانت أم لم تكن، ولنا إلى هذا عودة، فمَن عالجوه لم يشبعوه في اعتقادنا بحثاً) وأن "يعجز" في الأوان ذاته عن كتابة قصيدة نثر متكاملة و"مرصوصة". ولن يكون من عيبٍ في ذلك، فهي مسألة استعداد لا مسألة ذكاء أو شاعريّة.

(باريس)

كاظم جهاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى