لقمان ديركي - سهرة أدبية في اللاتيرنا

دخل أبو سعاد العراقي وهو شاعر بالضرورة إلى مطعم اللاتيرنا ولكن بصحبة امرأة هذه المرة , و لم يلتفت أبو سعاد لا يميناًَ و لا شمالا كي لا يضطر إلى الجلوس مع أحد بصحبة صيده النادر , إلا أن التفاتة لا إرادية بدرت منه إلى الطرف الأيمن سببت وقوف عشرين شاعراً من مختلف الجنسيات الشرق أوسطية احتراماً لأبي سعاد و " ضيوفه" ، وبادر الشعراء إلى الترحيب بصديقهم بحرارة لا متناهية , بل إن بعضهم هرع إليه وقبله ثم عانقه على الرغم من أنه كان يتمنى عدم حضوره قبل دقائق , وجلس أبو سعاد رغماً عنه بعد أن أجلس صديقته , و بلمح البصر كان " لورانس" قد أحضر كأسين فارغتين و صب بنفسه النبيذ الأبيض وقال : " أهلاًَ و سهلاًَ مدموزيل"، و انسحب ضاحكاَ بعد أن رأى الجميع سنه الذهبي ملتمعاً في فمه.

اتخذ أبو سعاد وضعية قائد الجلسة و رفع كأسه :" أصدقائي الأدباء جلستنا هذه ..... أدبية .... و معنا أختكم الآنسة ختام و هي شاعرة من القطر العربي السوري من الساحل الجميل" ، و قبل أن يتم جملته ارتطمت الكؤوس ببعضها البعض، و أحس أبو سعاد بانتصار جزئي كونه أكد أن الآنسة ختام هي " أختهم " مستثنياً نفسه من هذه الأخوة , ومع ذلك فقد تسابق الجالسون إلى الترحيب بأختهم الآنسة ختام التي انتشت، فأفرغت كأس النبيذ كاملاً في جوفها , و سرعان ما امتلأ الكأس من جديد، فافتر ثغر الآنسة ختام عن أسنان صفراء , و فجأة و دون سابق إنذار افتتح أحد الشعراء من الأشقاء السوريين الجلسة الأدبية قائلاًً" إن السياب كأحد الشعراء الرومانسيين ....

الشعر العربي بهذه الطريقة, معقولة تقول عنه رومانسي ... شنو هوة .. خََوَل ؟!!!"

و تبع الجميع أبا سعاد، و انهالوا بالشتائم على رأس السوري الشقيق بمن فيهم أشقاؤه السوريون , أما الفلسطينيون الجالسون على الطاولة، فلم يحركوا ساكناً لأن الموضوع لا يمس محمود درويش لا من قريب ولا من بعيد .

و بعد انهيار الشاعر السوري الشقيق انتشى أبو سعاد مما استدعى الجالسين أن يطلبوا منه قراءة قصيدة من تأليفه , ارتشف أبو سعاد قليلاً من النبيذ و تأمل الحاضرين ثم جاد : " لنخلة شاردة في غياهب السماء ... ", وتعالت الأصوات، و ارتطمت الكؤوس ببعضها البعض، و أجهش أحد العراقيين بالبكاء، و تحدث بشكل مبهم عن النخيل و الرمز الذي تحمله هذه الكلمة و هو يسترق النظر إلى الآنسة ختام , ثم أكمل أبو سعاد منتشياً : لنخلة شاردة في غياهب السماء/ لدماء دجلة وهي تتدفق عالياً ..." , هنا أجهش الجميع بالبكاء .بمن فيهم السوريون لأن دجلة يمر بالأراضي السورية أيضاً , أما الفلسطينيون، فلم تهتز شعرة في رؤوسهم لأن دجلة لا يصب في البحر الميت , ثم أكمل أبو سعاد واقفاً و بحماسة منقطعة النظير :" لدماء دجلة وهي تتدفق عالياً / تجش الحقيقة في صدري/و أجهش../ " و هنا أجهش الجميع بالبكاء بمن فيهم عمال المطعم الواقفين بعيداً , و تابع أبو سعاد : " وأجهش.. / لا مكان للجواسيس بيننا ..."

تبادل الجميع نظرات الشك و الريبة , تخيل كل منهم أن الأخر جاسوس يكتب فيه التقارير ليلاً ونهاراً , و لكن صوتاً مرتجفاً ظهر : " سنشرب حتى الثمالة يا أصدقاء على شرف هذه القصيدة العظيمة "، فانبرى أبو سعاد للموضوع مباشرة و صرخ : " لورانس... هات ثلاث زجاجات نبيذ أبيض ... و سجلها على البخاري ..." و البخاري ... , محمد ... موريتاني يعيش في دمشق منذ أكثر من عشرين عاماً , وهو يحاول قدر الأمكان عدم استفزاز أ؟حد لهول ما يشعر به من رعب العودة إلى نواكشوط , وهو_ أي محمد البخاري _ يتواجد في كل الأماكن العامة و الخاصة إلى درجة أنه كان جالساً معنا ذات يوم في اللاتيرنا و نهض الحلاج إلى التليفون وخابر كافيتريا الشام طالباً محمد البخاري، فرد عليه البخاري من هناك.

و دخل الحلاج و ناصر نعساني، و جلسا معي بالقرب من طاولة السهرة الأدبية، و سرعان ما انضم البخاري إلينا و هو يدخل مترنحاً من الخوف و ليس من السكر، و بدأنا بممارسة هواية شرب البيرة، و كان الحلاج يحدثني عن مغامرته في اليابان.

نظر أبو سعاد إلى طاولتنا، ورفع لنا كأسه ثم التفت إلى جلسائه، و طالبهم بالاستماع إلى قصيدة من تأليف الآنسة ختام و إلقائها , فساد صمت رهيب .

بدأت الآنسة ختام بالقراءة :" أيها الجسد المتعمشق / على حورة اللانهاية / تعملق / تجنس/ تناسل..."

ارتطمت الكؤوس ببعضها البعض، و طارت مفردات في الهواء واختلط بعضها ببعض مثل " جميل ... جرأة ضخمة ... شعر حقيقي ... تفجير لغوي هائل .. تجديد.. استخدام رائع للغة ... أحساس فريد بالجسد ... الخ...".

كادت الآنسة ختام أن تبكي لهذا النجاح الباهر، و تابعت :

"تعملق ... تجنس... تناسل/ أيها الجسد المتساقط / على هذايات الروح/ اضمر ... و اختبئ / في ركام اللغة اللازوردية / و في ثنايا ... الكلام"

وعلى الفور نهض الجميع و بحركة مسرحية موحدة رفعوا نخب الآنسة ختام : " ثورة على الجنس .. تحرر من التقاليد المجتمع ... تمرد على عبودية الجسد ... الخ"، وعندما سألوها أين كانت مختفية فيما مضى هي و شعرها بدأت الآنسة ختام بالحديث عن زوجها الظالم والتافه الذي كان يمنعها من كتابة الشعر و يحاصر أفكارها، فطلقته من أجل التفرغ للكتابة، و عندما عرف الجميع بأنها مطلقة وأن الآنسة ختام ليست بآنسة فعلاً دخل السرور إلى قلوبهم، وأصبحت محاولاتهم في التودد إليها أقوى وأكثر على الرغم من أن أبا سعاد كان قد حرمها عليهم جميعاً عندما اعتبرها " أختهم " و حللها لنفسه فقط.

وبطريقة عاصفة .. دخل الشاعر العراقي فايز العراقي وعرف عن نفسه للآنسة ختام، ووضع كيساً أسود على الطاولة وجلس , ثم بدأ يعدد دواوينه للآنسة ختام بما فيها التي لم تصدر بعد على اعتبار أن أجمل القصائد هي التي لم نكتبها بعد كما يقول ناظم حكمت , و فايز العراقي اسم مستعار كي لا يناله زبانية صدام حسين من الشاعر. وقد طبع ديوانه الأول بهذا الاسم المستعار، ووضع صورته على الغلاف الأول.

أخرج فايز العراقي ديوانه الجديد الذي خرج من المطبعة للتو وهو بعنوان " كريفونة الغياب"،و بدأ يقرأ منه بعض المختارات بشكل وقور، ثم بدأ يشرح للجالسين عن الكريفون :" الكريفون فاكهة جميلة تنبت على الساحل السوري الجميل وهي تنتمي إلى حزب الحمضيات و هي مرة وحامضة وحلوة في آن معاً ولها دور فعال في القضاء على أذناب وزرابية الكريب و الأنفلونزا"، و بعد أن انتهى من الشرح سحب الكيس الأسود، وأشار إلى فاكهة ضخمة هرت من تحته : " هذه هي كريفونة الغياب ".

لم يكمل جملته تماماً عندما دخل عنايت عطار، وجلس معنا , ولكن عنايت عطار نهض، و قال للجالسين مشيراً إلى الفاكهة التي على الطاولة :" هذه ليست كريفونة".

فامتقع وجه فايز العراقي صاحب ديوان " كريفونة الغياب"، وقال :" ماذا تقصد ؟" .ضحك عنايت عطار و قال له : " لاشيء .. فقط أحببت أن أبارك لك بصدور ديوانك كريفونة الغياب أولاً"، فنظر إليه فايز العراقي غاضباً وقال :" و ثانياً ؟! ".

أجاب عنايت عطار :" ثانياً هذه الفاكهة التي على الطاولة ليست " كر يفونا". هذه ... بوملي ".

بينما كان بقية الشعراء الشرق أوسطيين قد غرقوا في حالة سكر رومانسي على إيقاع قصائد الآنسة ختام التي طلّقت زوجها الحقير كي تتفرغ للأدب، حاول أبو سعاد أن يقرأ قصيدة جديدة بعد نجاح قصيدته الأولى، لكن الجالسين امتعضوا من الفكرة، وأصروا على أن تبقى الآنسة ختام وحدها شاعرة هذه السهرة على الرغم من كونها جاءت أصلاً مع أبي سعاد. تابع الجالسون تعليقاتهم المدائحية لكل قصيدة من قصائد الآنسة ختام، وتباروا في ابتكار المصطلحات ما بعد الحداثوية في توصيف قصائدها، وكان كل من يتحدث عن قصائدها ينظر إليها نظرات ثاقبة علّها تقع في غرامه، وتمضي من ثم معه إلى "مأواه". وهكذا فقد تحدث أحد الشعراء السوريين عن التحرر الجنسي في قصائدها، وتساءل عما إذا كانت صادقة أم أنه مجرد تأليف. ولم ينتظرها حتى تجيب، بل أجاب بنفسه معتبراً قصائدها صادقة وتحررها الجنسي في القصيدة يعبر عن أفكارها وممارساتها في الحياة، وقال في نفسه: إنها حتماً ستذهب معه رغماً عن أنف الجميع، أما الشاعر الفلسطيني، فقد ربط بين قصيدتها والقضية الفلسطينية وكيف أنها تحولت من الخاص إلى العام بسهولة لا متناهية وبطريقة رمزية شفافة، ولم ينس أن ينال من "أبي سعاد" ومحاولاته في الوصاية عليها على الرغم من كونها هاربة من وصاية الزوج السابق الحقير، وبعد ذلك نظر إلى الآنسة ختام، وحيّا فيها روح الحرية المتوثبة في أعماقها ثم حدّث نفسه بأن الآنسة ختام ستمضي معه إلى مخيم اليرموك في نهاية السهرة حتماً.

وما إن انتهى من مداخلته حتى أثنى عليها الشاعر اللبناني الذي سيعود إلى بيروت بعد يومين، وقال "برافو.. مش هي ختام تركت زوجها منشان تخلص من سماه وتصير حرّة؟!.. طيب ليش يا أبو سعاد عم تعمل وصي عليها؟!.. حلّ عنها يا خيّي.. اتركها تعيش لحالها بدون وصاية. يا خيّي أنتو السوريين كتير بتحبو الوصاية.. خلو العالم بحالها". هنا انقض عليه أبو سعاد قائلاً: "آني عراقي.. مين قلك إنّي سوري؟!". رد الشاعر اللبناني بهدوء: "مش مهم يا خيي.. المهم إنو شعرها كتير موديرن و بالتالي حياتها كمان موديرن.. مش هيك يا خيي أبو سعاد!". ثم صمت وهو يفكر في أعماقه أن الآنسة ختام ستمضي معه آخر السهرة إلى بيت عمه في باب توما غصباً عن اللي خلّف أبو سعاد.

وعندما لاحظ فايز العراقي أن الأجواء متوترة حمل كتبه وأوراقه ومضى إلى طاولة أخرى بعيدة، وقال لنا وهو يمر بجانبنا إن الجو مكهرب ولا علاقة له بالأدب على الإطلاق. وبالطبع لم نسأله شيئاً.

وقبل أن يستفيق أبو سعاد من صدمة الخيانات المتتالية، تدخل شاعر سوري، وحلّل قصائد الآنسة ختام بنيوياً، ثم حللها نفسياً، وخَلُص إلى أن عدم ارتوائها من الحب هو وراء الكآبة في قصائدها، وأنها الآن بحاجة إلى الحب كما تشي قصائدها الجريئة بذلك. وعقب بأن الرجل الذي تبحث عنه "ختام" متحرراً من الألقاب للمرة الأولى، ليس رجلاً عادياً، ولم ينسَ الشاعر السوري أن يفهمها في أثناء الحديث أنه يجلس في اللاتيرنا ظهراً ومساءً، وأنه يعيش وحيداً وحزيناً في منزل ذي إطلالة رائعة، وفكر بعد ذلك في أنها حتماً ستطلب منه المبيت عنده.

أشار أبو سعاد إلى لورانس أن يأتيه بزجاجتي نبيذ، وغمزه بعينه كي يسجلهما على الدفتر.

جاء النادل موسى بزجاجتين، وفتحهما ثم صب للآنسة ختام كأساً وقال: "أهلين بالأستاذة، شَعرك حلو كتير". ابتسمت الآنسة ختام، و رشفت رشفة من كأسها، وبدأت بقراءة قصيدة بعد أن استرقتْ نظرة وابتسامة إلى موسى:

"أخذتني أحزاني
إلى ما وراء اللغة
قذفتني الأعضاء
كنطفة وحيدة
تدور عمياء
في رحم الغياب.."

يا سلام.. ممتاز.. رائع.. قلق وجودي جميل.. ضياع الكائن.. إلخ. هتافات وكلمات من هنا وهناك حتى كادت الآنسة ختام أن تنفجر زهواً واعتزازاً.

نظر أبو سعاد إلى الآنسة ختام مبتسماً وفي عينيه حرمان أبدي، وطرق كأسه بكأسها وقال ملتفتاً إلى الآخرين: بصحة هذا الخراب الجميل، فرفع الآخرون الكؤوس، ووقف بعضهم الآخر، وفي هذه اللحظة مدّ أبو سعاد يده، ووضعها خلف ظهر الآنسة ختام من دون أن يلمسها إلا بمصادفات متعمدة.

قال شاعر: أنت جريئة في شعرك، فهل أنت كذلك في الحياة؟

ضحكت الآنسة ختام، وخفضت رأسها قليلاً دلالة الاستحياء، فقال الشاعر اللبناني: له شو مستحية يا ختام.. بحياتي ما شفت شاعر مستحي؟! أنتو السوريين شعب خجول.

ردّ عليه شاعر من طاولة أخرى يبدو أنه كان يستمع إلى الحديث: بلا تنظير على الشعوب يا أخي.
ردّ عليه الشاعر اللبناني بحنق: عم تتجسس على حديثنا يا أخ؟!
هنا انقض أبو سعاد عليه: تقول عن صديقي جاسوس.. ما أسمح لك.

هدّأت الآنسة ختام من روع أبي سعاد، ولكن شاعراً آخر تدخل، وبدأت الكلمات تتطاير من هنا وهناك إلى أن بدأت المعركة بصوت زجاجة انكسرت في الحال، فقلب أحدهم الطاولة مباشرة على اعتبار أنه لم يتحدث قط في هذه السهرة الأدبية. وجاء الجاسوس المفترض لحماية أبي سعاد، وتعالت القبضات وسط تدخل الناقمين بينما كنا نشرب البيرة بهدوء ونحن نستمع إلى إحدى مغامرات الفنان الحلاج في اليابان، صرخت الآنسة ختام وسمعناها تقول : "أوقفوا هذا الخراب الجميل". ثم اختفى صوتها وسط الأصوات المنددة، وارتفع عدد المتعاركين كما ازدادت مساحة أرض المعركة. تطايرت الكراسي في الهواء وصحون السجائر والملاعق بينما لم يمد أحد يديه إلى السكاكين، فكان المحارب يمد يده ليرمي شيئاً، فيجد سكيناً عندئذ يتركها ويأخذ ملعقة.. وهكذا.

وقف لورانس وسط المتعاركين وقال: جاءت الشرطة. فجلس الجميع كل في مكانه. ثياب الجميع ممزقة. وشعورهم مشعثة. طلب لورانس من عمّاله أن ينظفوا المكان بسرعة ثم رمى الفاتورة على الطاولة، ولكن أحداً لم يتصدَ للحساب. تبادل الجميع النظرات، ولاحظوا غياب الآنسة ختام، ولكنهم فكروا جميعاً في وقت واحد أنها بلا شك في الحمام..

وانتظروا، وانتظر لورانس أيضاً ريثما يحاسبه أحدهم.

أوقف النادل موسى سيارة أجرة، والتفت إلى الآنسة ختام، تفضلي، صعدت ختام، وصعد النادل موسى بجانبها، وقال للسائق: على دف الشوك لو سمحت.



لقمان ديركي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى