ماريو فارغاس يوسا - كيف تغلبت على خوفي من الطيران.. ت: عبدالله الزمّاي

إن القراءة هي العلاج الذي لم يخذلني أبدًا منذ ذلك الوقت, ما دمت أختار لكل رحلة التحفة التي تستغرق كل المدة التي أواجه فيه المعنى الحقيقي لقانون الجاذبية حتى نهايته. لم يكن اختيار العمل المناسب سهلًا بطبيعة الحال, من حيث الجودة والحجم لكل رحلة. لكنني مع الممارسة طورت نوعًا من الغريزة في اختيار الرواية أو القصة الصحيحة (الشعر أو المسرحيات أو المقالات لم تكن غنية وقوية ضد مخاوفي من الطيران). اكتشفت أيضًا انه ليس من الضروري أن تكون أعمالًا جديدة, يمكن لإعادة القراءة أن تكون فعالة ومنعشة بالنحو الذي يقدمه العمل محل الاختيار

إن القراءة هي العلاج الذي لم يخذلني أبدًا منذ ذلك الوقت, ما دمت أختار لكل رحلة التحفة التي تستغرق كل المدة التي أواجه فيه المعنى الحقيقي لقانون الجاذبية حتى نهايته. لم يكن اختيار العمل المناسب سهلًا بطبيعة الحال, من حيث الجودة والحجم لكل رحلة. لكنني مع الممارسة طورت نوعًا من الغريزة في اختيار الرواية أو القصة الصحيحة (الشعر أو المسرحيات أو المقالات لم تكن غنية وقوية ضد مخاوفي من الطيران). اكتشفت أيضًا انه ليس من الضروري أن تكون أعمالًا جديدة, يمكن لإعادة القراءة أن تكون فعالة ومنعشة بالنحو الذي يقدمه العمل محل الاختيار

ثمة بعض السذج الذين يظنون أن الخوف من الطيران هو –أو يمكن تفسيره- بالخوف من الموت. إنهم مخطئون، الخوف من الطيران هو خوف من الطيران فحسب، ليس من الموت، الخوف بالشكل الخاص والدقيق كما الخوف من العناكب أو الفراغ أو القطط، ثلاثة أمثلة شائعة تشكل غطاء واقيًا لمخاوف البشرية. الخوف من الطيران يحدث فجأة، عندما يدرك الأشخاص الذين لا ينقصهم الخيال والحساسية أنهم على ارتفاع 30 الف قدم في الجو، مسافرون عبر السحب بسرعة ثمانمئة ميل في الساعة ويتساءلون “ماذا أفعل هنا بحق الجحيم؟”، ويبدأون بالارتعاش.

هذا ما حدث معي، بعد سنوات عديدة من ركوب الطائرة والنزول منها بقدر ما اعتدت تبديل قمصاني. واصلت امتطاء هذه الصواريخ المحمولة جوًا، لكن لفترة طويلة، كانت دلاء من العرق تتصبب مني في كل رحلة خصوصًا حينما نواجه مطبات جوية . حاولت صديقتي الأكثر بهجة المضيفة الجوية “ساسو” التي تشعر بأمان أكثر فوق الغيم منها على اليابسة، والتي كانت تقهقه ساخرة من حالة الذعر التي انتابتني في الجو، حاولت أن تعالجني بمعاونتي بالإحصاءات. أثبتت لي ما يعرفه كل شخص. أن السفر بالطائرة أكثر أمانًا بكثير من السفر بالسيارة أو القارب أو القطار أو الدراجة أو حتى على الزلاجة، لأنه كثير من الأشخاص يتعرضون لحوادث كل عام باستخدام تلك الأشكال من النقل أكثر. حتى المشي سيرًا على الأقدام في نزهة لطيفة وغير ضارة أكثر خطورة من الناحية الإحصائية من الذهاب بالطائرة. لكن في حالتي؛ لم تكن الإحصاءات وحدها قادرة على إثارة عواطفي وتبديد مخاوفي، لذا على الرغم من كوني مقتنعًا بشكل عقلاني بالأرقام التي حرثت من خلال السماء داخل الطائرة أكثر أمانًا من غرفتي، استمر وقتي العصيب في كل رحلة.

رافقني صديقي الروائي الأوروغواياني الراحل “كارلوس مارتينيز مورينيو” ذات مرة بالطائرة، قضى الرحلة كلها ممسكًا بنسخة بالية ورثة من كثرة التداول من رواية “مدام بوفاري”، التي لم يقرأها، لكنه داعبها باستمرار. كانت التميمة التي ضمنت له رحلة سليمة وآمنة. قال إنه أخذ هذا الكتاب في أول رحلة له ثم اتخذه لاحقًا رفيقًا في جميع الرحلات الأخرى، لأن الحدس والخيال والجنون أخبروه أن هذا الطلسم الروائي، وليس دوران المحركات السلس ولا مهارة الطيارين ما يحافظ على الطائرات التي يستقلها في السفر سالمة من أية مكروه أو حادث. لكن علاج “مارتينيز مورينو” لم يكن مجديًا لي، بسبب شكوكي القوية بأي شكل من أشكال السحر (خصوصًا الحديثة)، أو ببساطة لأنها لم تأت بعد التعويذة التي تدفعني وترغمني على الإيمان بالسحر.

كشفت لي صديقتي البورتوريكوية أرملة ثرية تسافر حول العالم أنها قد شفيت من خوفها من الطيران بواسطة “الويسكي”، دائمًا ما تأخذ إمدادات جيدة معها على متن الطائرة، مخبأة في حقيبة صغيرة، وبرشفتين أو ثلاث يمكن أن تشقلب السفينة أو تلقي بها الرياح بينما هي ضاحكة وسعيدة ومنيعة على كل شيء. حاولت أن أطبق طريقتها لكنها لم تكن مجدية بالنسبة لي. أنا أعاني من الحساسية تجاه “الكحول”، وجريعات الويسكي لن تقوى على إزالة مخاوفي من الطيران، بل ستزيده وتصيبني بالصداع والغثيان والرجفان. ربما كنت بحاجة إلى أن أكون عربيدًا، أرى الرجال صغارًا خضرًا، لأكون لامباليًا من الطيران مثلما تفعل صديقتي صديقتي البورتوريكوية برشفات قليلة من “الكحول”. ربما يكون الدواء أكبر ضررًا من الداء.

على النقيض من صديقتي البورتوريكوية، يزعم بعض المتشددين أن الخوف من الطيران هو نتيجة لوجبات الطعام الثقيلة والتناول المفرط للمشروبات الروحية “النبيذ والكحول” على متن الرحلة. و لأجل راحتي النفسية في الجو, أوصوني بالامتناع عن تناول الطعام وشرب الخمر في الرحلات الجوية، والاكتفاء بشرب كؤوس كبيرة من الماء يرونها مسكنة. إلا أن ذلك لم يجد معي أيضًا. بل على العكس، إرغامي لنفسي على تناول هذه الوجبات جعلني بائسًا جدًا، وأضاف لمخاوفي عذاب الجوع والذهاب إلى الحمام.

“سيكونال ” و”زاناكس” وكل تلك الحبوب الأخرى التي اخترعت لعلاج الأرق، لم يجدِ أي منها معي. ثمة أشخاص رائعون (استحقوا إعجابي وغبطتي) يتخدرون على الفور على متن الطائرة، وينامون بشكل طبيعي طوال الرحلة كلهاويركنون بواسطة أزيز المحركات. وغيرهم ممن-لأجل الوصول إلى تلك الحالة نفسها- يحشون بطونهم بالحبوب التي تذهلهم وتخدرهم. لكن الحبوب المنومة سببت لي الخفقان أو الكوابيس الأكثر ترويعًا التي رأيت فيها نفسي متعرقًا من الخوف داخل الطائرة. لذا النوم الاصطناعي النسبي الناجم عن الأدوية لم يزل خوفي، لكن بدلًا من ذلك استبدله بطائرة في اللاوعي والحلم. كما كان له أثر جانبي آخر، فقد أدخلني في حالة من اللاحياة المتلبسة بالاكتئاب في نهاية الرحلة.

جاء الحل بطريقة مفاجئة في رحلة بين “بيونس آيرس” و”مدريد”، ذكرتني بالصدفة بأول رحلة لي بين هاتين المدينتين (بواسطة خطوط الطيران الآيبيرية، دوغلاس DC4) في الثاني والعشرين من سبتمبر لعام 1946م. اشتريت من مطار “إيزيزا” رواية قصيرة لأليخو كاربنتييه التي لم أكن قد قرأتها “مملكة هذا العالم”. لاشيء أعدني للمفاجأة. من الأسطر الأولى للرواية،التي تعيد خلق حياة الهلوسة التي يعيشها “هنري كريستوف” وبناء القلعة الشهيرة في “هاييتي”. كان هذا مكتوبًا بطريقة رائعة، وحتى الرواية قد بنيت بشكل رائع كما هو الحال في جميع الروائع الأدبية، لا شيء يمكن أن يضاف أو يحذف. لقد امتصتني جسدًا وروحًا واقتادتني بعيدًا عما يحيط بي ونقلتني لعشر ساعات أو نحو ذلك هي مدة الرحلة، بعيدًا عن الليل المتجمد ذي النجوم المتلألئة إلى ملحمة مذهلة عن “هاييتي” في القرن الماضي؛ حيث العنف الأكثر شراسة يتداخل مع الخيال الأكثر حميمية، حيث المعجزات والأساطير وصمت الحياة اليومية وأحداثها التافهة. انتهت السطور الأخيرة عند هبوط الطائرة في “باراخاس”، كان الكتاب قد استغرق الرحلةوأخذني بعيدًا عن مخاوفي طوال الرحلة.

إنه العلاج الذي لم يخذلني أبدًا منذ ذلك الوقت، ما دمت أختار لكل رحلة التحفة التي تستغرق كل المدة التي أواجه فيه المعنى الحقيقي لقانون الجاذبية حتى نهايته. لم يكن اختيار العمل المناسب سهلًا بطبيعة الحال، من حيث الجودة والحجم لكل رحلة. لكنني مع الممارسة طورت نوعًا من الغريزة في اختيار الرواية أو القصة الصحيحة (الشعر أو المسرحيات أو المقالات لم تكن غنية وقوية ضد مخاوفي من الطيران). اكتشفت أيضًا أنه ليس من الضروري أن تكون أعمالًا جديدة، يمكن لإعادة القراءة أن تكون فعالة ومنعشة بالنحو الذي يقدمه العمل محل الاختيار في القراءة الثالثة أو الرابعة كما كانت عليه في المرة الأولى. هنا قائمة (عربون تقدير) لهؤلاء الأصدقاء الموثوقين الذين كانوا كإيكاروس أثناء محاولاتي الأخيرة الناجحة، وساعدوني في التغلب على مخاوفي من الطيران:

“بارتبلي و”بينيتو سيرينو ” لهيرمان ميلفيل. و”مطلع برغي” لهنري جيمس، و”المطارد” لخوليو كورتاثار، و”الدكتور جيكل ومستر هايد” لروبرت لويس ستيفنسون، و”الشيخ والبحر” لهمنجواي، و”القرد” لإسحاق دينيسين، و”بيدرو بارامو” لخوان رولفو، و”الأعمال الكاملة وقصص أخرى” لمونتيروسو، و”وردة لأميلي” و”الدب” لوليام فوكنر، و”أورلاندو” لفيرجيينا وولف. لحسن حظي أن مخزن الصيدلية الأدبية يمتلك احتياطات لا حدود لها من هذه الأدوية، لذلك لا يزال لدي الكثير من رحلات الطيران و”القراءة الجيدة” في القادم من الأيام.



ماريو فارغاس يوسا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى