مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (3) حديث تاريخي!

(3)
حديث تاريخي !

خابرني يعقوب. اتفقنا على أن نلتقي في المكان نفسه في اليوم التالي. فكرت كثيرا في أمر البندقية هل أحملها أم أتركها ؟ حملها لن ينقذني إن أراد هو قتلي أو إن أرادت سلطته.. ففي مقدوره قنصي من بعيد بسلاح أكثر فتكا لن يصعب الحصول عليه . لا شك أنه أخبر سلطته بما جرى له، ولو أنهم قرروا قتلي أو اعتقالي لفعلوا. وطالما لم يحدث ذلك فإن يعقوب قد كلّف بمتابعة حواراته معي، لمعرفة كل ما يدور في دماغي. قد يسعون إلى معرفة عقل فلسطيني مختلف إن عرفوا عقلي .. وفي هذه الحال هل أكون حذراً في حواراتي معه أم أتحدث بصراحة .. لكن ماذا يفيد الحذر بعد أن أبديت ما أبديته في اللقاء الأول . أكيد سيحمل جهاز تسجيل مخفياً ، وربما يكتفي بالتسجيل على هاتفه الجوّال.

أقنعت نفسي بهذه الأفكار وانطلقت حاملا معي عصا معقوفة قد أحتاج إليها .. مررت بابن أخي (علي) يرعى قطيع أغنامه من المعز والنعاج في سفح جبل .. كان قد وعدني بخروف صغير للشواء يقدمه لي متى أردت. أراد ني أن أنتقي خروفا ليبقيه على ذمتي . رفضت قائلا:

- لا أحبذ ذلك يا عم فلا أريد أن أتذكر شكل الخروف الجميل كلما اقتطعت لقمة من الشواء!

فوجئ ابن أخي مع أنه يعرف عني بعض الأشياء .

*****

فكرت .. هل أصافح يعقوب هذه المرّة إذا ما مد يده ؟ لم أتخذ قرارا لكنّي صممت على أن لا أكون من يمد يده أولا !

سبقته إلى المكان . رأيته بعد لحظات ينحدر من السفح المواجه . كنت أقف إلى جانب الحائط . بقيت واقفا إلى أن وصل . تمهّل في سيره على بعد خطوات منّي. واضح أنّه يفكر في مدّ يده لمصافحتي.

توقف على ما يقرب من متر مني هاتفاً " سلام " متجنبا التحية ب " شلوم " وما لبث أن مدّ يده ببطء!

مددت يدي ببطء أيضاً. بدا وكأنّه ينتظر هذه اللحظة ، فسارع إلى مصافحة يدي . لم يضغط على يدي بقدر ما ضغطت أنا على يده خلال مدة قد لا تتجاوز الثانيتين .

جلسنا أحدنا في مواجهة الآخر. تساءل مبتسما :

- هل أصبحنا عديقين ؟

- ممكن ! ..عديقين سلودين !

قلت ذلك وأنا أبتسم . فاجأته المفردة الجديدة . تساءل بدهشة:

- سلودين ؟

- أجل !

- ماذا تعني ؟

- .. المسالمين اللدودين ! مفردة مشتقه من السلام واللّدد (الخصومة الشديدة )!

راح يضحك :

- لماذا لم تحمل البندقية ؟

- لن يفيدني حملها في شيء . ثم إنني لست من هوات الصيد وقتل الطيور والحيوانات .

- ألم تفكر في أننا قد نقدم على قتلك ؟

- بل فكرت كأي فلسطيني تحت احتلالكم ، في مقدوركم أن تقتلوه متى تريدون ، حتى لو كان لديه ما هو أهم من بندقية صيد !

تساءل بعد لحظات من الصمت:

- عن ماذا تحب أن نتحدث هذا اليوم ؟

- عمّا تريده أنت ؟

بدا وكأنّه حضّر للأمر من قبل ، فقد سارع إلى القول :

- ألا ترى أن أصل اليهود من هذه المنطقة المسمّاة عربية اليوم ؟

- لم أقل غير ذلك، وهذا ما لا تعترفون به أنتم، تريدون الأرض لكم وحدكم . فهذه الأرض التي تتحدث عنها والمسمّاة أيضا الشرق الأوسط ، أنتجت عشرات الديانات إن لم يكن مئات ، والديانات ليست أعراقا وقوميات ، فلا يصح أن نعتبر اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية عرقا أو قومية ، فهؤلاء جميعا ينتمون إلى أقوام انتهوا إلى ما يعرف بالقومية العربية أو العرق العربي. أنتم عملتم من هذا الدين البائد قومية واعتبرتم أن الأرض كانت لكم وحدكم دون الآخرين.

- لماذا تقول انتهوا إلى ما يعرف ، ألم يكونوا عربا من قبل ؟

- على الأغلب لم يكن معظمهم ! فمفردة عربي تكرست بعد اختراع اللغة العربية وتطورها في زمن قد لا يتجاوز خمسمائة وألف عام ! فالفراعنة والبابليون والسومريون وحتى ما عرف بالكنعانيين والفنيقيين والهكسوس وغيرهم كثيرون لم يعرفوا كعرب في زمنهم . كان هناك مناطق تدعى أربيا في جنوب ما يعرف اليوم ببلاد الشام والعراق، ورد ذكرها في النقوش البابلية والأشورية التي تتحدث عن الغزوات إليها . ومعظم الناس في الأزمنة القديمة كانوا ينتمون إلى أقطارهم أو مناطق نفوذهم أوأسماء قبائلهم وأجدادهم ، والعرب حسب المؤرخين كانوا يقطنون بادية الشام التي كانت تشمل شبه جزيرة العرب ودعيت خلال الحقبة الإغريقية باسم العربية ، وباللاتينية أربيا . وإذا ما اعتبرنا أن اسم كل قطر، أونسب كل جد يمكن أن يشكل قومية أوعرقأ فسيكون لدينا آلاف القوميات والأعراق . والأمم في هذا الزمن تنسب إلى أقطارها، وحتى قاراتها وليس إلى أعراقها أو دياناتها .. الوحيدون بين البشر الذين حوّلوا دينهم إلى قومية، هم أتباع الديانة اليهودية . المسيحية والإسلام كديانتين انتشرتا في العالم، ومع ذلك ليس هناك بلد في العالم يطلق عليه اسم أي من الديانتين ، أوأي ديانة أخرى من ديانات البشرية ، وهي كثيرة كما تعلم وتعد بالآلاف . قد أستثني إيران الحديثة التي أدخلت الإسلام في اسمها. ولوكان منشأ الديانة يشكل قومية ووطنا، لأصبح من حق المسلم الصيني أوالهندي أو الماليزي، أن يطالب بحقه في شبه جزيرة العرب، وفي مكّة والكعبة !

- وماذا عن العرق السامي الذي يرى العرب أيضا أنهم ينتمون إليه ؟

رحت أضحك ..

- تقصد عرق سام بن نوح الذي ينسب الساميون إليه ؟

- أكيد .

- ليس هناك نص أو تدوين تاريخي مكتشف ومؤكد حتى اليوم،غير كتاب التوراة ، يذكرأنّه وجد في التاريخ انسان اسمه نوح، نجا وأبناؤه وزوجاتهم من طوفان أغرق العالم ، وأن البشرية تناسلت من أبنائه الثلاثة ، سام وحام ويافث ؟ هذه الوقائع هي أساطير متخيّل أدبي، وليس لها أية علاقة بالتاريخ والتأريخ ، إلا بقدر ما هي متخيل اسطوري حسب زمن ما . هل يمكن لعاقل أن يقتنع بأن العالم قد غرق بطوفان؟! لوأنزلت السماء كل ما تحمله غيومها من أمطار، وفاضت البحاروالمحيطات كلّها، لما أغرقت الكرة الأرضية ، لأن المياه الهاطلة من السماء تشكلت من مياه تبخرت عن الأرض ، والمياه المتبخرة عن الأرض كانت تشغل حيزا محددا من مساحة الأرض ، وعند هطولها ثانية ، لن تشغل أكثر من الحيّز الذي كانت تشغله من قبل ... وهذه التسمية ( الساميون ) ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر، استنادا إلى التوراة ، ليتم تداولها فيما بعد دون أن يأخذ بها معظم شعوب الأرض. أخذ بها بعض المستشرقين ممن يجهلون التاريخ أو ممن يهمهم تزويرالتاريخ ليعزوه إلى اليهود.

- لكن ألا يمكن لله أن ينزل مطرا يغرق الأرض حتى لو لم يكن هناك تبخروغيم؟

- ألا يفترض وجود إله أوّلا وأنه قادرعلى أن يقول للأشياء كوني فتكون لكي تصبح الإمكانية قابلة للحدوث ؟

- أنت لا تعتقد بوجود إله كهذا ؟

- طبعا لا أعتقد !

- لماذا ؟

- لأن من أمضى 14 مليار سنة في خلق وجود لم يبلغ الكمال بعد، لن يكون قادرا على خلق ماء وإنزاله وإغراق الأرض بكلمة كن أو ليكن !

- هذا إله بمفهوم مختلف لديك !

- هذا قائم بالخلق كما أسلفت في لقائنا السابق، وليس بالضرورة أن يكون إلها، أو أنّه يعتبر نفسه كذلك !

- ماذا يمكن أن يكون ؟

- الطبيعة ممثلة في المادة والطاقة !

- دون أن تحمل صفة ألوهية؟ّ!

- البشرية هي من أعطتها صفة الألوهية بعد اختراع اللغات . وقبل ذلك لم يكن لها اسم أو صفة . وزمن اللغات لا يتجاوز بضعة آلاف من الأعوام، لا تتجاوز الستة آلاف حسب أبعد تقدير .

- إذن أنت لا تؤمن بوجود إله خلق الوجود في ستة أيام ؟

- أكيد لا أؤمن، وهذا الأمر واضح من كلامي، وخاصة بإله لم يوجد إلا في زمن تدجين المواشي واكتشاف الزراعة ! أي منذ قرابة عشرة آلاف عام على أبعد تقدير. وبعض الباحثين يحددون خلق آدم بما لا يزيد على ستة آلاف عام على الأكثر. ويحددون طوفان نوح بما لا يزيد على أربعة آلاف عام ! وإذا كانت البشرية قد انقرضت حسب الطوفان فإن عمرها لا يزيد على أربعة آلاف عام ، فهل يعقل هذا ؟

- كيف عرفت أنّ الله وجد في ذاك الزمن حسب التوراة؟

- ألم يقدم ابنا آدم قربانين له من ثمار الأرض وأبكارالغنم ، فقبل تقدمة هابيل وهي من أبكارالغنم، ورفض تقدمة قابيل ( قايين ) وهي من ثمارالأرض ؟!

- أجل !

- فالزمن واضح هنا كزمن رعوي زراعي.

- ليس من الضرورة أن يكون الإله قد وجد في ذاك الزمن!

- وجود خالق مرهون بوجود خلقه ، وطالما أن خلقه لم يعرف قبل ذاك الزمن فهو لم يعرف بدوره .

- لكنّ عدم معرفته لا يعني عدم وجوده !

- هذا يعني أنه كان موجودا في العدم ، لأن عملية الخلق لم تكن قد بدأت ، فألا يحتاج الخالق إلى حيّز مكاني يشغله ؟

- قد لا يحتاج إذا كان روحاً أو عقلاً!

ضحكت :

- بغض النظر عن وجود روح أو عدم ذلك، فهي تحتاج إلى حيّز مكاني حتى لو كان فراغاً! والأمر نفسه ينطبق على العقل ، وهذا الأخير سيحتاح أيضا إلى جسم مادي ينتجه ، والجسم يحتاج إلى حيّز يوجد فيه .

- يمكن أن تكون الأيام الستة ليست كأيامنا . يمكن أن يكون اليوم مليون عام مثلا!

ضحكت ثانية :

- هذا ما اجتهد بعض الكنسيين في قوله ، لكن حتى لو كانت الأيام كذلك فهي لن تكون أكثر من ستة ملايين عاما من أعوامنا ! وهذا رقم ضئيل جدا مقارنة بأربعة عشر مليار عام على بدء عملية الخلق. ثم إن الزمن محدد هنا حسب زمن اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات، ولا يمكن أن يحسب إلا بالزمن كما نعرفه وليس كما يريده هذا الإله المفترض أو كما يريده الكهنة !

أطرق قليلا ثم هتف:

- الحوار معك يقودنا إلى آفاق متعددة يحتاج كل منها إلى أيام وربما سنوات . وقد نضطر إلى الوقوف عند كل مسألة وحدها . سأعود إلى ما بدأناه .

- ليكن .

- إذن أنت ترى أننا ننتمي إلى المنطقة ، وخاصة اليهود القدامى الذين أنشأوا اليهودية ، لكن لا ترى أن لنا قوميتنا الخاصة وهي اليهودية أو الإسرائيلية أو بني اسرائيل !

قلت وأنا أضحك بسخرية :

- بنو اسرائيل حسب توراتكم، هم نسل يعقوب أوأتباعه، بعد أن تصارع يهوه معه ليلا بطوله، وأطلق عليه اسم اسرائيل، أي عبد الله ! وإيل هو كبيرآلهة شعوب هذه المنطقة في ذلك الزمن . فماذا عن البشر الذين وجدوا قبل ذلك ، من آدم حتى نوح وأولاده ، ومن نوح حتى ابراهيم وإسحق وإسماعيل، ففي هذه الحال لماذا لا تكونون بني قنيقاع، أو بني النضير، أو بني قريظة مثلا، فستحصلون على أكثر من قومية، إذا كانت القوميات تنسب إلى القبائل والأديان ؟! فهذه القبائل من القبائل التي اعتنقت اليهودية وكانت موجودة في شبه الجزيرة العربية منذ القدم ، وحتى صدرالإسلام، وفي الإمكان بناء على ذلك، أن تكون دولتكم دولة بني قنيقاع مثلا، بدلا من دولة بني اسرائيل!! ثمّ قل لي بإلهك! إذا كانت البشرية كلها من نسل آدم ، وآدم من خلْق يهوه ، فكيف يتخلى يهوه عن البشرية التي خلقها ويختار بني يعقوب ( اسرائيل ) دون غيرهم ؟

- لأن السابقين فسقوا وفسدوا وضلّوا فأنزل عليهم الطوفان !

- يا سلام ! وكأنّ بني اسرائيل لم يفسدوا ويضلّوا فيما بعد ، حتى سليمان نفسه ضلّ واتبع عبادة الآلهة الأخرى في المنطقة . وماذا عن بني نوح حتى اسحق أب يعقوب فهم لم يضلوا ، فلماذا تخلى يهوه عنهم، ولم تكن الدولة دولة بني نوح مثلا أو حتى بني ابراهيم ؟!

- أنت تحرجني وتضعني أمام أسئلة صعبة وحقائق أجهلها يا عارف! ماذا يكون أصلنا حسب رأيك ؟

- قلت لك . أنتم عرب يا عديقي، وأقصد يهود المنطقة القدامى، وليس الإشكناز أو من هم من يهود الخزر الاوروبيين وأمثالهم، ممن اعتنقوا اليهودية في أزمان لا حقة، هروبا من صراعات وحروب كانت رحاها تدور في العالم، بين امبراطورية اسلامية صاعدة وامبراطوريات أخرى تتهاوى . ومشكلتكم أنكم لا تريدون أن تروا ذلك ، ولا تريدون أن تعترفوا به !

- هل بإمكانك اثبات ذلك ؟

- طبعا بإمكاني وبأقصر الطرق !

كيف ؟

- لن أتبع منهج الباحثين الذين توصلوا إلى أن اليهود عرب، وأنّ اليهودية ديانة عربية نشأت في الجزيرة العربية . سأتبع المنطق فقط حتى لا أطيل عليك :

يتفق جميع المؤرخين على أن قبائل يهودية وجدت في اليمن وجنوب الجزيرة ووسطها ، منذ ما قبل التاريخ ، وقد تطرقت النقوش الأشورية والبابلية إلى ذلك، من ضمن تدوينها للغزوات والحروب . ومن هذه المناطق التي وجدوا فيها : بعض مناطق اليمن ويثرب وتيماء وخيبر ودوس واليمامة ونجران . ويرى المؤرخون أن هؤلاء كانوا ينحدرون من قبائل رئيسية كبني قنيقاع ، وبني اسماعيل، كيهود غطفان وكنانة، ويهود من قبائل سبأ وحمير .

ويتفق المؤرخون على أنه كان هناك الكثير من القبائل اليهودية عند فجر الإسلام في شبه الجزيرة ، ومنهم : بنوعوف وبنو النجار وبنو الحارث، وبنو ساعدة وبنو جشم وبنو الأوس، وبنو ثعلبة وبنو قنيقاع وبنوالنضير، وبنو قريظة ويهود خيبر !

ويتفقون أيضا على أن الهجرات كانت تتم من الجزيرة العربية إلى خارجها وخاصة إلى بلاد الشام ، وليس العكس ، نظرا لصحراوية الجزيرة وانهيارات سد مأرب في الجنوب .

السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه :

هل هاجرت كل هذه القبائل من بلاد الشام الخصبة، إلى الجزيرة العربية الصحراوية لتنعم بصحراويتها، أم أن العكس هو الذي حدث حسب رؤية المؤرخين ؟

أكيد وكما يقول المنطق إن العكس هو الذي حدث .. وربما كان آخرالهجرات إلى بلاد الشام بعد الإنهيار الأخير لسد مأرب في حوالي 500 م .

وبناء عليه فاليهودية دين عربي نشأ في الجزيرة العربية وانتقل إلى بلاد الشام ، وعند تدوين التوراة ( المتخيّلة ) قام المدونون بنقل الوقائع من أراضي الجزيرة العربية إلى أراضي بلاد الشام ، وأطلقوا عليها بعض أسماء مدنهم وقراهم وممالكهم ، ليجعلوا منها موطنا لهم بدلا من الجزيرة الصحراوية . واختلقوا شخصيات اسطورية وأمما وقبائل لم توجد في التاريخ . وحتى الشخصيات التي يمكن أن يكون لها وجود تاريخي حولت إلى شخصيات خارقة أسطورية، تتحكم حتى في الخلق كسليمان الذي تحكم بالجن والطيور وغيرهما !

- وماذا عن النقوش الأشورية ؟

- ألم تقتنع بما أوردته ؟

- أحتاج إلى التأكيد أكثر كي أقتنع . فربما هاجر هؤلاء مما كان يعرف بلاد الشام إلى الجزيرة واليمن نتيجة لحروب مع الأشوريين أو غيرهم واستقروا هناك .

أخرجت جوالي ورحت أبحث على جوجل وأنا أقول :

- ربما تعرف أن اسم القدس لم يرد في التوراة على الإطلاق . ما يرد هو مدينة تدعى اورشليم ، وليس هناك أي إشارة في التوراة إلى أن اورشليم هي القدس . وهذا الباحث فاضل الربيعي، وهو عربي عراقي، ألّف كتابا يحمل عنوان " القدس ليست اورشليم " يقول استنادا إلى نقوش أشورية:

" لقد سجلت هذه النقوش اسم "قدس- قدش" كاسم لجبل ضمن جغرافيا جبلية محددة، كما سجلت اسم أورشليم كمدينة دينية يهودية في جغرافيا أخرى مختلفة، وهذا يعني أننا أمام اسم جبل في مكان، وأمام اسم مدينة في مكان آخر؟ هذه النقوش تسجل أخبار الحملات الآشورية على اليمن وليس على فلسطين "

وهذا يعني أننا أمام جغرافيا يمنية ومدن يمنية . ويورد الربيعي نصاً لآسور ناصر بال (883- ق. م.859) مترجما إلى الإنكليزية، يتحدث عن جبل قدس في أرض ( بلاد ) قدش! لا يذكر أن هذا الجبل، هو مدينة اورشليم . ويورد نصأ آخر منسوبا إلى نبوخذ نصر ( 599 ق.م.) يسجل الاسم نفسه " قدس – قدش) خلال حملة له جاء فيه أن نبوخذ نصر " سار بجيشه وسيطر على حمت وربلة وقدس ، وداهم الصحراء القريبة بحملات متتالية ونهب كثيرا من القبائل العربية " ويضيف معلّقا :

"هذه النقوش تؤكد بشكل قاطع أن الآشوريين هاجموا القبائل اليمنية في مكان يدعى "جبل قدس"، وهو اليوم بالاسم نفسه "جبل قدس" في مديرية سامع بمحافظة
تعز (نحو ثمانين كلم غرب عدن)، وهذه المديرية ملاصقة وقريبة جدا من محافظة لحج، حيث خاض نبوخذ نصر معاركه ضد الكهنة اليهود، ثم قام فور انتهاء القتال بتنصيب كاهن موالٍ له يدعى في التوراة "شافان". وبالطبع، فإن نبوخذ نصر في نقوشه، لا يقول إن قدس هي أورشليم. من قال ذلك هم اللاهوتيون الذين ترجموا اسم قدس، حيث ورد إلى "أورشليم" (Jerusalem)، وبذلك دمجوا المكانين في اسم واحد، ثم سردوا لنا تاريخا مزيفا"

"إن أورشليم التي سجلتها النقوش الآشورية هي مدينة دينية وليست جبلا، ويتأكد لنا ذلك حين نقوم بمقاربة جديدة بين نصوص التوراة وهذه النقوش، ولنأخذ مثلا نقوش سنحاريب (705-816 ق.م)، فبعد أن أزاح سنحاريب الكاهن اليهودي حزقيا، أعطى جزءا من أراضيه لملك موالٍ له يدعى "الملك متنيا-متنية" ثم عين ابنه يهوقيم بدلا منه. ونقوش سنحاريب هذه، تروي كيف أنه أغلق كل المنافذ على الكهنة اليهود، حين هاجم أورشليم، وتمكن من إلقاء القبض على الفارين من المدينة المقدسة"

وفي نقوش أخرى تسجل حملات نبوخذ نصر، نجد أنه أخمد تمردا قبليا يمنيا في جبل قدس ، ثم اتجه في وقت لاحق من حملته صوب مدينة أورشليم لينصب هناك الكاهن جدلية بن شافان، وكيلا عليها " وثمة بلدة حسب الربيعي ، في محافظة لحج اليمنية تدعى حتى اليوم "قرية شافان "

يختتم الربيعي كلامه بالقول :

"إن التوراة في النص العبري، لا تذكر ولا تسجل ولا تلمح ،حتى مجرد تلميح، إلى أن القدس هي أورشليم كما يزعم اللاهوتيون والتوراتيون، هذه أكذوبة اختلقها الأوروبيون لتبرير اغتصاب فلسطين" وأنا أضيف إلى هؤلاء الحركة الصهيونية !

أغلقت الجوال وشرعت في تعبئة البايب بالتبغ لأخذ قليل من الراحة ، فيما أخرج يعقوب علبة سجائرة وأشعل سيجارة . قال وهو ينفث الدخان :

- أنت تدخلنا في متاهات التاريخ !

قلت بعد أن اشعلت البايب وسحبت نفسا عميقا:

- بل ادخلك في حقائقه . آن الأوان لأن نخلص من هذه المهزلة التاريخية ، ونضع النقاط على الحروف ، الإبقاء على العداء بيننا وبينكم ليس في صالح الطرفين ، وسيظل التوتر قائما إلى ما لا نهاية له ، واعتقادكم أننا سننسى تاريخنا، ونرضخ لكم، ونعيش تحت احتلالكم إلى الأبد اعتقاد خاطئ!

- لنأخذ مثلا الهنود الحمر في أمريكا ، استكانوا وخنعوا !

- الهنود الحمر أبيدو بعشرات الملايين ولم يستكينوا ولم يخنعوا! وأنتم لن تستطيعوا إبادتنا وإبادة الملايين من العرب، ومن يتعاطف معهم من المسلمين وحتى القوى المحبة للسلام .

أدرك يعقوب أنني عدت لأنكأ القلق الدفين في دخيلته .

- ما الحل إذن ؟

- قلته لك من قبل ولن أكرر ما قلته. لا بد من الإعتراف بحقوقنا كاملة .

- وحقوقنا ؟ هل نعود من جديد لنبحث عنها في اليمن والسعودية ؟

- من قال ذلك . العالم يتجه إلى الأنسنة والتقارب بين البشر، وقد يكون لكم علاقات مفيدة ومثمرة مع الأقطار العربية والعالم ، لن تتوفر لكم إذا ما بقيتم منعزلين ومحتلين لنا .

- ماذا تقصد بالأنسنة؟

- أقصد انسانية الإنسان دون قوميته أوعرقه ، انظر إلى أوروبا كيف توحدت بعد أن أنهكتها الحروب المدمرة . وهذا ما تسعى إليه الدول المتحضرة ..العداء بين الأمم لم يولّد إلا العدوانية والكوارث المدمرة ، والأمم في حاجة إلى التعاون لمواجهة تحديات المستقبل الطبيعية والإجتماعية والإقتصادية والإنسانية . لن يفتخر انسان المستقبل لكونه عربيا أو اوروبيا أوغير ذلك ، سيفتخر بكونه انسانا حقق انسانيته بانتمائه إلى الإنسانية . هذا ما قد يتحقق إذا ما تضافرت أمم الأرض لتصنع مستقبلا مشرقا لأجيالها .

- أحلام رومانسية يا عارف ليس ثمة إمكانية لتحقيقها.

- لا أظن أنها كذلك ، فتحقيقها أسهل من تحقيق أي حرب مهما صغرت .. لن يكون هناك دولة في المستقبل قادرة على أن تعيش في عزلة ولو محدودة عن العالم . انظر ماذا يجري اليوم ، ليس هناك دولة إلا وتسعى إلى اعتراف جميع دول العالم بها ، حتى اسرائيل نفسها تسعى إلى ذلك . ماذا لو صممت دول العالم على تنفيذ قراراتها المتعلقة بفلسطين وإسرائل ، هل ستحاربون العالم ؟ وفي المستقبل قد تتمكن دول العالم من تحقيق معجزات لم ولن تحققها الحروب، إذا ما كان لديها تصميم على ذلك .

ألقى نظرة على زركم القميص في يده اليمنى . تابعت نظراته ! توقعت أن يكون الزر جهاز تسجيل لغرابة شكله وحجمه. ابتسمت دون أن أبوح بما توقعته . لاحظ ابتسامتي دون أن يعرف لماذا ! تساءل :

- هل تعتقد أن البشرية في المستقبل ستتخلى عن معتقداتها وقومياتها؟

- المعتقدات ستنقرض كما انقرضت المعتقدات القديمة، فأين عبادة مردوخ ورع وزيوس وغيرهم من مئات الآلهة ؟ المعتقدات جميعها ستصبح مجرّد تراث للبشرية ، لتعرف كيف فكرأجدادها.. واليهودية ستكون من أول العقائد المنقرضة !!

- لماذا ؟

- لأنها من العقائد الأقدم وأتباعها قليلون في العالم.

- ألن يكون هناك دين في المستقبل ؟

- سيكون دين أقرب إلى العلم منه إلى الدين ، يمكن أن يسمى دين الإنسان . دين يقوم على فهم المادة والطاقة ودورهما في عملية الخلق. يمكن أن يكون الأقرب إلى وحدة الوجود الحديثة كما أفهمها أنا، أو كما طورتها بتعبيرأدق، تقوم على مبدأ قائم بالخلق ،استنادا إلى ما ذكرت .

- هل أنت فيلسوف ؟

- إذا لم أكن فيلسوفا ، فلدي فلسفة لا تخلو من تجديد وإفادة من فلسفات سابقة عليها، وخاصة مذهب وحدة الوجود!

- أرغب في معرفتها ، لكنها مسألة قد تحتاج إلى وقت قد لا يكون مناسبا الآن . ابنتي سارة درست الفلسفة وعلم الإجتماع وهي تدرسهما في كليّات ومعاهد خاصة ، وهي علمانية ، وقد تحب الإستماع إليك ..

- لعل علمانيتها مثل علمانيتك، علمانية عنصرية تعتقد بوجود خالق تقليدي!

- لا لا ! لا تعترف بوجود خالق على الإطلاق وخاصة حسب الأفكار الدينية المختلفة . وربما يكون فهمها أقرب إلى فهمك . ثم إنها تؤيد جماعة ( السلام الآن ) في اسرائيل ولها علاقات صداقة مع بعضهم .

- لكن فهمي يجتهد لأن يبتعد عن العلمانية الإلحادية، لاعتقادي بوجود قائم بالخلق قد يكون إلها ، أو يقبل أن يطلق عليه صفة الألوهية ، مع أنّه قد لا يرى ضرورة لذلك !

- قد تتفق معك إذا ما عرفت فلسفتك .

- آمل ذلك .

- طلبت أن ترافقني في رحلة صيد ذات يوم ، وعدتها بذلك ! هل لديك مانع في أن تلتقي بك ؟

- لا ! ليس لدي مانع ، وقد يهمني أمرها بقدر ما يهمني أمرك !

- ألا ترى أننا نقوم بما يشبه مفاوضات سريّة بعد أن أوقف الفلسطينيون مفاوضاتهم العلنية معنا !

- ممكن ! وقد تكون مفاوضاتنا مجدية أكثر من مفاوضاتهم . فنحن نتفاوض دون شروط مسبقة مع أخذ مصالحنا في الإعتبار!

- صحيح !

أشعلت بايبي ثانية . شعرت بالجوع . أخبرت يعقوب :

- لم أتناول سوى كأس لبن وبضع حبات من التمرعلى فطوري . أشعر بالجوع، لا بد من إنهاء اللقاء لهذا اليوم .

فاجأني يعقوب حين هتف قائلا:

- أدعوك لتناول الغداء معي .

رددت بعفوية " شكرا " ولم يلح هو في الأمر ، ربما لإدراكه أن الزمن ما يزال مبكّرا، على مثل هكذا دعوة .

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى