عبد الرحيم التدلاوي - خط الشرق : البناء السردي بين الواقع والتخييل

رواية "خط الشرق" للمبدع محمد شيكي، صدرت عن مطبعة الوطن في طبعتها الأولى سنة 2020، وتشتمل على 31 فصلا، مبسوطة على مساحة 134 صفحة من القطع المتوسط.
عن العنوان:
جاء العنوان جملة اسمية محذوفة المبتدأ، تقديره: هذا، والخبر أتى مضافا إلى الشرق. والخط يقترب من الحد إذ كل منهما يحيل على الفاصل بين حدين، وتأتي كلمة الشرق لتظهر حدود هذا الخط أو هذا الحد. والعنوان يستدعي تعبيرا يرد في ثنايا النص وهو حد الشرط، ويوحي ضمنا بحد الشوق. والصيغة الصرفية "فعل" تجمع بين الكلمات المضاف إليها
. صورة الغلاف:
تحمل الرواية اسم المؤلف في وسط الأعلى، ومكتوب باللون الأسود، وفي وسط الغلاف أتى العنوان بلون ذهبي، تحته مباشرة جنس العمل. هذا عن الجانب اللغوي، أما عن الصورة، فاستأسدت صورة عين تطل من لباس "الحايك الأبيض"، هي بمثابة نافذة على العالم تقوم بمراقبته، ومتابعة تفاصيله. صورة استحوذت على الجزء الأكبر من الغلاف، وتعملقت مقابل تقزم الإنسان. وتحتها قلعة لثكنة ما يجلس قرب بوابتها ثلاثة رجال وكأنهم مسنون غير محددي الملامح ، وبجوارها تجمع سكني، تعبر أحياءه أسلاك الكهرباء، وتمربه امرأتان تتدثران بلباس الحايك التقليدي. في حين، جاء ظهر الغلاف مؤثثا بعلامتين، لغوية وأيقونية؛ فاللغوية مقتطف من الرواية ذو أهمية، وأما الأيقونية فهي صورة للمؤلف الذي ورد اسمه في الواجهة، هي الصورة التي تحملها البطاقة الوطنية والمعبرة عن هوية الرجل؛ وبذلك يتم الجمع بين الصورة والاسم حتى لا يقع أي التباس. وهذا نوع من التعبير عن الملكية الخاصة التي لا يمكن تزويرها أو انتحالها.
. في العتبة الداخلية:
في عتبة التقديم رام الراوي التملص من العمل بدفع القارئ إلى الواجهة بإيهامه أنه المؤلف الحقيقي؛ بيد أن القارئ وهو يُخاطب يصير جزءا من النص ويدخل ضمن غابة السرد وطرفا فيه. يصير قارئا متخيلا تناط نه مهمة القراءة ويسند إليه فعل الكتابة. أنا لست سوى أنت في لحظة التلقي. ويتوارى الراوي مفسحا المجال للمتلقي وتاركا له حرية التأويل الذي يناسبه: "أنت الروائي إذن، فخذ من خطوطي الشكل الذي يناسب دمك عندما يتدفق في عروقك..." ص5.
عن المتن:
توظف الرواية أحداثا ووقائع ومحكيات من أجل طرح قضايا تخص طبيعة الوجود الفردي في تفاعل مع الآخر والمحيط السوسيولوجي، وهي السياقات التي تحتم على الفرد اتخاذ القرارات، وبناء الرؤية تجاه العالم، والتصرف إزاء الآخرين. هي رواية تنصت لإيقاع نبض المجتمع، وتسعى إلى خلخلة السياقات المتجذرة التي تسهم في استمرار الوضع، ولو من باب التخييل. تنهل الرواية من موارد الذاكرة لتشكيل الواقع الحي الهارب من سلطة القهر، كتجربة تاريخية اجتماعية عاشتها شخصيات "الدوار" بمستويات متباينة في الفهم والوعي والممارسة.
خط الشرق، إذن، سيرة تخييلية يسترجع الكاتب أحداثها من خلال تقنية التذكر عبر ذاكرة صديقين قضيا طفولتهما معا ثم فرقت بينهما سبل الحياة ليلتقيا بعد أربعبن سنة في رحلة مشتركة ليتفقدا “الدوار” حيث نشآ وترعرعا باعتبارهما من أبناء الجنود الذين رابطوا على الحدود الشرقية قبل أن يلتحقوا بالصحراء المغربية. تاركين أسرهم وأبناءهم يعانون الفقر والحرمان والضياع..وينفتح الحكي في فصول هذا العمل السردي على فضاءات متعددة يتقاطع فيها الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي كما يحتل فيه البعد العاطفي حيزا مهما ومحركا للتنامي الدرامي بأسلوب شيق ومثير يترجم مرحلة السبعينيات وأوضاع فئة اجتماعية ساهمت في رسم معالم فترة من تاريخ المغرب الحديث حيث كرست حياتها وحياة أبنائها ليعيش الوطن في سلام دون أن تلقى مقابل ذلك ما تستحقه من عناية واهتمام.
انطلاقا من الذاكرة تحاول الكتابة خلق عالم روائي يضج بالحياة بكل فضائحها وإسرارها ورغباتها وأوهامها، وعيونها التي لا تنام ليل نهار في الشوارع وداخل الأقبية. كتابة تعيد الخلق وتضيف حلقات متخيلة إلى سيرورة مصائر الشخصيات وهي تشهد بالعين وبكل حواسها على التحولات التي عاشتها بعض شخصيات الرواية مثل ” البوري” و ” ولد يزة” ، ايطو، حياة، …، تحولات كانت تطل برأسها منذ الطفولة، دون أن يستثني "محماد الشاعر" نفسه أو صديقة الدكتور " ولد بوشتى".
قضية القهر:
تتحدث الرواية عن جماعة قدر لها أن تنزل، بحكم الفاقة والحاجة ولقمة البقاء، في جحيم التهميش والقهر من بلدة لأخرى وصولا إلى دوار خط الشرق حيث الدرك الأسفل من النار، حياة وقيمة ومعاشا، دون أن تقوى على لغة الكلام تجاه موت يترصدها بعد أن أحرقت سفن العودة من حيث أتت، فالسلطة من ورائها والعدو أمامها، وليس لها إلا أن تموت في العراء، أو تدفن أحلامها في أقبية الدوار. تنتقم الكتابة لنفسها، تحاول إعادة الاعتبار لفيضها اللغوي المقموع بين أقبية الدوار، و شوارع المدينة، حيث عصا القوات المساعدة تطارد الأبناء للسطو على عرباتهم المهترئة كباعة متجولين. إن الكتابة الآن هنا ؛تعري ظلام الليل وتنتصر لنورها الوهاج في إعلان خلق حياة الدوار من جديد، مُزيحة كل الظلال الوارفة لسلطة العسس. " كفرت برأيك في سحر لغتي. وآمنت بألا سلطة إلا سلطة العسس الذين يحرسون الشوارع كي لا تفيض فيها اللغة وتخرج عن سياقها الزائد. اليوم فهمت يا صديقي أن خالتي "امهاني" كانت هي الأخرى مثلي ومثل أغلب الناس خارج سياق الحقيقة.”48 هكذا تفرض الكتابة/اللغة سلطتها باعتماد التخييل وسيلة أساسية في استخراج ما ترسب في قاع الذاكرة من جراح حياة عارية من الشرط الإنساني، وتعمل على فك طلاسمها المستورة بتخيل يجهد في امتلاك واقع كان في حالة طوارئ قصوى بفعل وطأة القهر الذي كانت تمتد يده، وتحيط شوارع المدينة بسوط القوات المساعدة، وتطلق العنان من عل لعيون موحى وحماد، الجندي المكلف بمراقبة الدوار، و تفاصيل حياة الأقبية فيه. بهذا المعنى تعيد الكتابة الاعتبار لنفسها وتنتصر لقوة اللغة في إعادة الخلق من جديد." لم تدرك خالتي امهاني ولا حتى البركادي أن الليل يحرسه الظلام وأن نور اللغة يخبو تحت وطأة العسس." 48 .
التفاوت الطبقي:
يقوم الراوي بتعرية التفاوت المجالي في الدوار، بين دور الضباط ودور الجنود، وهو تفاوت يعكس التباين الصارخ بين الأغنياء والفقراء، فاضحا تناقضاته. فمن جهة ،هناك ذل الجنود ومهانتهم وقهرهم ، حيث تمعن السياسة المتبعة في تعميق معاناة هؤلاء وتمعن في نبذهم والزج بهم في أقبية التهميش، عوض أن يكون الدوار بلسما ولمسة اجتماعية اقتصادية إنسانية تخفف وطأة عنف الحرمان والتهميش والفقر الذي اكتوت بناره كل ساكنة الدوار في مناطق مختلفة من بلدات المغرب المنسي . ومن جهة أخرى، ينعم الضباط بمساكن مريحة وحياة رغيدة. ومن رحم هذا التفاوت يولد تفاوت آخر بين أصحاب الريع والجنود المقاتلين في الصفوف الأمامية دفاعا عن حوزة البلاد. الفئة الأولى استحوذت على خيرات البلاد بحرها وبرها وجوها دون أن تقوم بالدفاع عن الوطن، فيما لم تحصل الفئة الثانية سوى على الفتات، مضحية بأرواحها لينعم هذا الوطن بأمنه وأمانه، ووحدته واستقلاله.
قضية المرأة:
من خلال قصة يطو، يتم تسليط الضوء على الكوارث التي تنجم عن الجهل والأمية وتزويج القاصرات. يطو الطفلة الصغيرة، ستغتصب براءتها بتزويجها، وهي في سن اللعب، لتحمل كشجرة إلى تربة جديدة لن تجد فيها نفسها فيجف عودها أو يكاد، ستشعر بالغربة وبعدها بالوحدة بعد أن غادر زوجها المنزل ليلتحق بالصحراء لمواجهة العدو، ثم لتصيرشبه أرملة بعدما أسر امبارك زوجها. يطو التي سيحرك فيها الزموري أنوثتها، ورغباتها المشروعة، وفي لحظة النشوة يفضح بصَّاصُ الدوار المشهد لتمطرها اللعنات
. تنمو حبكة الحكي أكثر بعد الصاعقة التي نزلت على الدوار كالفاجعة بموت الرجال وضياع الأبناء، وتمزق إنسانية النساء بين قيم القهر والنبذ والفضيلة الرفيعة؛ وسط هذه الاجواء طفت قصة يطوكجرح في جسد الدوار وتصدرت علنا أحاديث النسوة ما بين شامتات يأكلن لحمها جهارا باسم العفة والطهارة وبين ممسكات عن أكل لحمها رحمة بها، كانت ألسن نساء الدوار تلوك همسا علاقة يطو بالزموري. يتبادلن الغمز واللمز كلما أخذت يطو مكانها بينهن في جلساتهن بعد العصر أو حتى وهن واقفات في الطابور الصباحي بالمرحاض الوحيد الخاص بهن.” يطو هي نقيض الطبيبة الأجنبية المفعمة بالحياة والممتلكة لزمام أمرها، ونقيض حياة نفسها، في نظر الطبيب. غير أن هذه المقارنة مجحفة في حق يطو وحياة معا؛ فيطو ضحية مجتمع متسلط لا يسمح للمرأة بالتعلم والاستقلال بالذات، بل يراها امرأة للإنجاب والتربية، وحتى إذا تعلمت، عليها ألا تفقد هذا الدور، كما في منظور ميمون الذي رأى حياة الإنسانة المؤهلة لمنحه أطفالا. ثم هي مقارنة مجحفة بين الطبيبة وحياة؛ فحياة هي التي منحت حياته معنى، ومن أجلها ثابر ونجح إلى أن تخرج. ليس غريبا أن تكون حياه رمزا يشبه الشجرة العظيمة خضراء باخضرارها، وعجفاء عارية بعريها: "قال صاحبي حين وطئنا تربة الدوار: مالي أرى المدينة باردة وشاحبة كالموت تستقبلنا بلا شهوة ولا رغبة في العناق؟ ! الدوار موحش كقلعة منسية مهملة، لم يعد غير طلل شاهد على طفولة غابت لكنها شاخت في دواخلنا بلا وجه ولا ملامح ! فقد احتفت الرواية بالشجرة العظيمة كشاهدة على المرحلة كما كانت حياة شاهدة عليها. هما معا عنوان الدوار وما نبتت حوله من أحلام وكيف صار هذا الدوار عدائيا. وإذا شعر الدكتور ببرودة الدوار فقد كان بشكل من الأشكال سببا فيه هو الذي هجره وما مده بأي أسباب الحياة، كما هجر حياة لصالح الطبيبة الفرنسية، واقعا في غرام الغرب كما سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، وبطل رواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس.
شخصيات الرواية:
يزخر عالم الرواية بشخصياته الكثيرة والمتعددة، سواء أكانت إنسانا أو نباتا أو مكانا، وسنقف عند أربع شخصيات مهمة، كان لها دور كبير في تنامي الأحداث، وتطور وعي الشخصيات وما تبنته من مواقف، أما الراوي، فيمكن القول إنه قريب من شخصيتي ولد بوشتى، ولد يزة وإن بشكل أقل، وهذه الشخصيات هي:
: 1_ ولد يزة :وقد أصبح قاضيا يحاكم بقساوة تاريخه الشخصي؛ هو الذي كان " شديد الإعجاب بجورج حبش ومنظمته، وكثيرا ما كان يستشهد بأقوال تشي غيفارا ويدافع عن مواقفه"23، وفي الوقت نفسه يحاكم تاريخ ذاكرة شعب منسي في الأقبية التي ولدت في أعماقه نوعا من الغضب المفعم بالحقد إلى حد الاضطهاد للآخر الشبيه ؛تخلصا من الحقد الدفين الذي يعذب الأعماق:" إذا مشى بين مسالك "الدوار" تحمله قامته القصيرة ويمضي في تثاقل لا يخلو من زهو وكبرياء. كأنه مؤمن بأنه لم يخلق ليعيش هنا بين جحور هذا الدوار العفن الوسخ" 28. لقد أحكم السارد صنعة الخطاب في كيفية ترتيبه وصياغته للوقائع التي تجعل ولد يزة منسجما مع نفسه كمشروع أداة سلطة قهرية " أنت مستبد وديكتاتوري… من تكون أنت حتى تبيح لنفسك معاملتنا كالعبيد." 27 لهذا كان واضحا للسارد أن يجد ولد يزة في هذا الوضع النقيض لما كان يتبجح به من قناعات ووعي فكري سياسي، ليس أكثر من هروب إلى الأمام يمليه الاستعلاء النابع من الشعور بالاضطهاد إزاء حياة الدوار الحقير كما استبطنته نفسيته." ما الغريب في أمره؟ ألم يكن مهيأ للسلطة؟ لو لم يمارس سلطة القضاء لكان في أسوأ الأحوال أحد رموزها الجاثمين على نفوسنا." ص27 كان ولد يزة يبحث عن التميز، وقد حقق جزءا من ذلك بصنع حفرة خاصة به تبعده عن الوقوف في طابور مع بقية الساكنة، كما كان يؤمن بالعنف الثوري للوصول إلى السلطة، لم يكن سوى إيمان سطحي يضمر رغبته في الوصول إلى مراتب تسمح له بالهروب من وضعه البئيس، وحقق ذلك بأن صار خادما للسلطة القائمة.
2 ولد بوشتى: الذي كان يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وبقيم العدل والمساواة، وتقوى لديه هذا الإيمان حين كان يتردد على أوربا صيفا للعمل بغاية تحصيل مصاريف الدراسة في المغرب، ثم وهو يلتقي بالطبيبة الفرنسية المؤمنة بالتضحية كقيمة نبيلة من أجل الإنسان، وإنقاذه من كل مقومات الموت.
. 3_ السلطة ممثلة في شخصية موحى وحمادي: هي العين الساهرة التي تراقب كل صغيرة وكبيرة، وتعرف ما يجري، وإن أخطأت حساباتها فيما يتعلق بالمجلة التلاميذية. فأميته لم تسمح له بمعرفة كوامن خطاباتها وما تحمله من أسئلة، وتحبل به من أحلام. هذه الشخصية التي تفشي الأسرار، وتفضح المخفي بجعله علنا، وهي مساهمة بقوة في تطور الأحداث وما تعرفه من منعرجات بفضل ذلك الإفشاء والفضح.
لقد تمت مناقشة هذا الرقيب الذي يجثم على الأنفاس في مواضيع كثيرة، مناقشة تنم عن رفض تقييد الحرية. هذا الرقيب متعدد الأشكال والأنواع؛ فهو نادل المقهى، وهو صاحب المقهى، وهو الشخصية المتوارية التي تحس ولا ترى، وبالنتيجة، نحصل على تركيبة من الرقباء تنطلق من الأكبر إلى الاصغر، مما يقوي دلالة المقارنة بين الدوار والمدينة القريبة منه، وأمستردام التي يغيب فيها هذا الرقيب الخارجي.
4_ الإسلامي: الذي يظهر كصوت نشاز آنذاك.. لكنه كان نبتة تنمو في صمت حتى اجتاحت أوراقها وجذوعها اليوم على الواقع فارضة سطوتها وتصوراتها الماضوية.
عن الدوار:
أما الدوار كمكان رئيس فهو جزء من المدينة الحدودية. لكنه مستقل بنظامه العسكري. باعتباره ثكنة عسكرية يتواجد به العسكر وتقطن عائلاتهم بجناح خاص بهذا الدوار. "وكان الجناح سابقا مستودعا للأسلحة والسيارات العسكرية.قبل أن يصبح أقبية للسكن. وبه مرحاضان؛ واحد للذكور وآخر للإناث. يصطفون كل صباح في انتظار وصول الدور. " يشمل الدوار جناحين يتمايزان حسب رتب الجنود القاطنين. ينفصل عنهما جزء آخر محاط بأشجار الكليبتوس، يقطنه الضباط ويبدو أكثر فسحة وملاءمة لشروط السكن، يغطي سقوف منازله قرميد أحمر وتضم المنازل فيه غرفتين وبهوا وشرفتين تطل إحداهما على الإدارة العسكرية، وتنتهي الى حديقة صغيرة.”10 كما تصوغ الكتابة مختلف التناقضات التي يمكن أن تسود في العلاقات الاجتماعية بين ساكنة الدوار كصورة واضحة للتركيب الاجتماعي الاقتصادي السائد في المجتمع بشكل عام. نشأ الدوار وظيفيا ملتصقا بالثكنة لينفصل عنها مستقلا بذاته. الدوار ملتقى العلامات؛ ملتقى شخصيات مختلفة ثقافيا واجتماعيا وإثنيا. انصهر فيه الجميع بفعل الظروف ولحظة المواجهة. وبالرغم من تشبيهه بالحظيرة لكنه كان مشتلا لنخب. ومصهرا للتعايش. وهذا بعض رهان الرواية. لا قيمة للمكان من دون الإنسان؛ هو الثروة الحقيقية. والزاد الذي يمكن الاعتماد عليه لحراسة الوطن من الداخل/ الجهل؛ ومن الخارج/ العدو. كما أن قسوة الظروف قد تكون محفزا على النجاح ورفع التحدي. وهذه من المفارقة التي تحضر بقوة. لتنزاح بسوسيولوجيا المكان الى ابستيمولوجيا المعنى..
الزمن الروائي:
تنقسم الرواية من حيث الزمن قسمين؛ الزمن الحاضر المرتبط برحلة العودة؛ وهو زمن طولي لا يستغرق سوى سويعات. تنتهي بالوصول إلى الدوار الذي بدا عدائيا ومختلفا. هجرته حياة المرأة والرمز. وزمن عمودي يرتبط بالذاكرة ويعتمد الاسترجاع؛ وهو زمن عميق وضارب في التاريخ. إذ هناك محطات تاريخية تخبر بتعدد الأحداث وكثرتها. هو زمن غني منح للرواية زخما من حيث الشخصيات والأحداث. كما أغنته القصص الفرعية وغير المنفصلة. والزمن الأول تم اختراقه بالزمن الثاني وصيره زمنا متشظيا كما القصة. هذا الزمن الذي أوقف لفترات انسيابية الزمن الأول مثلما فعل الوصف والحوار الداخلي؛ والأغاني المسترجعة والقصيدة الشعرية التي ألقاها الشاعر على مسامع زملائه بإذن من الأستاذ. إن الانتقال من الحاضر؛ حاضر الأحداث؛ إلي الماضي كان بطريقة سلسة. وهو ما يسمى في الشعر قديما؛ حسن التخلص. فالسارد يعتمد على التشابه لتحقيق هذا الانتقال. وكمثال؛ إحراق أم هاني للنفايات كان فرصة للحديث عن قلوب بعض نسوة الدوار التي احترقت وهن يتلقين نعي أزواجهن. استثمار تقنيات السينما والمسرح: وتبدو اللقطة من الخارج إلي الداخل؛ أو من البعيد إلي القريب في مشهد تلقي أخبار النعي إذ يعد من المشاهد الدالة على استثمار تقنية السينيما. فقد انتقلت الكاميرا من البعيد إلى الداخل وبخاصة حين انتقل الضمير من الغائب إلى المتكلم. ثم أصبح أكثر خصوصية لحظة كتابة يافعي الدوار رسائل الأزواج. كما استثمرت الرواية البعد المسرحي؛ ويتمثل في تقيم المشهد باقتضاب ثم التعريف بالشخصية. فمشهد خيانة يطو قاد السارد إلى التعريف بها لتنوير المتلقي. هذا فضلا عن الحوار، ومسرحة بعد المشاهد كمسرحة النقاش الدائر بين ولد يزة وولد بوشتى ومحند، حيث كل شخصية تبسط رأيها وموقفها مما يجري هنا وهناك، ثم نجد هذا التمسرح في الصفحة 124
. الضمائر:
اعتمدت الرواية التنويع في توظيف الضمائر بتشغيل ضمير الغائب كسارد عليم وغير مشارك يراقب الأحداث والشخصيات وينقل مجرياتها بشكل موضوعي؛ وضمير المتكلم المفرد حين يكون القول عن شخصية الشاعر وهي تتحدث عن نفسها ومشاعرها ومواقفها من الأحداث والشخصيات والزمكان. ويقترب هذا التوظيف من جنس السيرة الذاتية. ثم ضمير المتكلم الجمع حين يكون الحديث عن الجماعة سواء أكانت مكونة من فردين أم أكثر. وهذا التنويع يقرب العمل من الفيلم السينمائي حيث الضمائر كاميرات تنقل الأحداث وسيروراتها والشخصيات وأفعالها والأمكنة وخصوصياتها من زوايا متعددة. مرة بلقطة قريبة ومرة بعيدة ومرة من أعلى وأخرى من أسفل؛ تبغي الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه. ولعل الوصف من بين مكونات هذه الحركات يتضافر معها لتحقيق البعدين الفني والجمالي مع خلق متعة لدى القارئ وجعله طرفا مشاركا أو على الأقل شاهدا على مرحلة متميزة من حياة الشخصيات بزخمها وعنفوانها وحدتها...
ضمير المتكلم المفرد:
يسعى العمل من خلال توظيف ضمير المتكلم إلى الإيهام بواقعية الأحداث، وإقناع القارئ بذلك، كون الضمير يوحي أن الحديث عن الذات هو بسط لسيرتها؛ أي أن النص سيرة ذاتية، وككل سيرة ذاتية فهي حقيقية، والبين أن هذا التوظيف كان بغاية توريط القارئ في العمل، وجعله يقتنع بصدق أحداثها، ولا يدرك أنها لعبة أدبية إلا حين ينتهي من قراءة الرواية؛ فقد يكون جزء مما في الرواية حقيقيا لكن جوهر العمل تخييلي. فلا ينبغي الانزلاق في تحديد هوية النص ونوعه الأجناسي انطلاقا من ذلك الجانب؛ فالعمل كان صريحا من خلال بث مجموعة من المؤشرات التي تحمي من مثل هذا الانزلاق؛ فالميثاق الأجناسي المحدد على وجه الغلاف يقول إن النص روائي، وأنه عمل تخييلي حتى وهو يستثمر الجانب السيري للمبدع الذي ذاب في التخييلي وانصهر فيه وصار جزءا منه. قيمة الراوي الداخل في العملية السردية مهمة لأنها تجعل القارئ جزءا من الفاعلية السردية ولا يبقى خارجها إذ يوهم القارئ أن الحديث عن الراوي؛ وهو ما ينتج عنه التباس أجناسي ترومه الرواية كنوع من اللعبة الأدبية المرجوة.ثم إن الرواية جنس مفتوح يتجدد باستمرار، وهي لدى البعض جنس أمبريالي يلتهم كل الأجناس الأخرى، ويهضمها ويخضعها لتركيبته الخاصة. ومعماره الفني. والأهم أنه يستحيل الفصل الحاد بين السيري والتخييلي في العمل الروائي، إذ وضع الحدود بينهما لن يكون سوى وهم، ومضيعة للوقت.
. تعدد الرواة:
ويتجلى ذلك في اعتماد الرواية على التناوب الديمقراطي، أي في منح الشخصيات وظيفة السرد بعيدًا عن هيمنة السارد الواحد، إذ نجد مهمة السرد يتناوب عليها كل من الدكتور والشاعر، مع اانفتاح على أصوات أخرى كساندرا الطبيبة التي استحوذت على قلب الطبيب. تعدد السجلات اللغوية: ولأن الرواية زاخرة بشخصياتها، فليس غريبا أن تكون مقاماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية مختلفة، وهكذا، نجد اللغة المحكية واللغة الأمازيغية، واللغة الفرنسية، واللغة الشعرية والطبية والتاريخية والتسجيلية، فضلا عن لغة المشهد المسرحي ولغة الوصف؛ سجلات تدل على التنوع الخصيب حيث كل شخصية فيه تعبر عن وعيها ورؤيتها للعالم باستعمال لغتها الخاصة.
التوالد السردي:
تتوالد الحكايات وتتناسل كأننا أمام صندوق الدمى الروسي، إذ نجد على سبيل الذكر لا الحصر: قصة يطو، وقصة ساندرا، وقصة عدجو، وقصة أم هاني، وغير ذلك من القصص التي تحبل بها الرواية والتي لعبت دورا في تنوير القارئ والتعريف بالشخصيات، والسعي إلى إبعاد الأحكام والإدانات المسبقة، وبخاصة فيما يتعلق بقصة خيانة يطو. إنها قصص صغرى ترتبط بالقصة الإطار ارتباطا قويا، وتدخل في نسيجه.
عن الوصف في الرواية:
يلعب الوصف دورا مهما في الكتابة الروائية، يؤدي وظيفة فنية تتمثل في تقليص زمن السرد وتمديد زمن الخطاب. فالواصف يسعى إلى إضفاء لمسة جمالية ذات إحساس ومشاعر تعبر عن أهمية الموصوف، سواء أكانت مشاعر حب أو مشاعر كره، أو مشاعر استقباح أو ذم.
والوصف في الرواية كان ذا وظائف متعددة؛ منها:
1_ الاستقباح حين وصف قصر الثري، فرغم أن الكلمات الموظفة في وصفه تحملنا على الاعتقاد بحيادية الواصف، ولد بوشتى، لكن ما يوحي به، يعبر عن الاستقباح، خاصة وأن الواصف قد عبر قبلا عن موقفه من الطبقة المخملية التي خبر خفاياها، يقول:
كان المكان قصرا فخما يمتد على مساحة شاسعة. يطل مباشرة على البحر، ويحيط به العسس من كل جانب، يمسكون بأحزمة ربطت بأعناق كلاب مدربة. ص 110. والبين أن هذه الحراسة تعبر عن خوف صاحب القصر المزمن، لأنه يعلم أن ثروته استمدها من منصبه وسلطته.
ثم يضيف: اتجه بي يسارا نحو مدخل كبير، بابه من نحاس أصفر مسجور، نقشت عليه أشكال هندسية مختلفة...الصفحة نفسها.
وحين نعلم أن الدكتور جاء من الدوار، فلابد أن نستنتج أن الاستقباح وليد التفاوت الطبقي، المتولد من سطو فئة قليلة على خيرات البلاد، وترك الفتاة للآخرين، ومن سشاعة القصر مقابل ضيق الدوار، ومساكن أهله. ويتقوى الاستقباح بمعرفة ما يجول بداخله من فحش، كشرب الكحول، والتعاطي للمخدرات القوية.
2_ التقزيم والذم، وهو قريب من الاستقباح، بل يمكن القول إنه من نتائجه، من ذلك وصف ولد يزة وصفا لا يمكن إلا أن يكون كذلك، نظرا لتسلطه، واستفراده بالرأي، وعدم قبوله النقد، وانقلابه على مبادئه التي كان يؤمن بها سطحيا بمجرد توليه منصب القضاء حيث تولى تصفية حسابه مع ماضيه بأحكام جائرة في حق محبي الوطن والمدافعين عن الحرية والكرامة..فقد كان مهيئا للسلطة. فلو لم يمارس القضاء لكان في أسوأ الأحوال أحد رموزها الجاثمين على نفوسنا..ص27.
وعن صفاته الجسدية التي تقوي بعد الاستقباح يقول الشاعر: ..تحمله قامته القصيرة ويمضي في تثاقل لا يخلو من زهو وكبرياء..الصفحة نفسها.
3_ الاستحسان: كما في وصف الطبيبة الفرنسية "ساندرا"، يقول عنها: ساندرا زهرة تعبق بعطر "المارسليز"، تنضح فكرا ينير الجلسات التي جمعتنا على طول ايام مؤتمرنا الطبي. في عينيها الزرقاوين تختزل عمق أنوار حضارتها. وكلما حدقت فيها مليا أزداد يقينا بصدق إصرارها على دعم مناطق العالم الأكثر توترا...ص128.
إن الوصف هنا، كما في ما قبله، ليس حياديا، بل للذات حضور فيه، فالدكتور وهو يصف ساندرا كان مفتتنا بها، عشق جمالها الخارجي، ومواقفها وذكاءها، وبفعل هذه المشاعر لن يكون الواصف حياديا بل معبرا عن استحسانه..
كما نجد وصفا آخر يبغي تقريب صورة الموصوف كما حين الحديث عن الدوار...
على سبيل الختم:
تقوم رواية "خط الشرق" بالغوص العميق في تاريخ مغربنا المعاصر المغرب، بنفس ملحمي يتميز بعمق الرؤية، عمق يستمده من التاريخ والذاكرة، فكان من نتائجه هذا العالم الروائي المنسوج بطريقة تغري القارئ بقراءته وفك خيوطه المتشابكة، وجمع أشتات حكايته المتشظية تشظي الواقع الذي نبعت منه، مع رصد تحولات شخصياته. لقد كتبت الرواية تاريخ منطقة من المغرب المنسي وتفْتح نوافذ لإجراء حوار مع الذات التاريخية، بغية فهم أسباب التراجعات التي شهدها المغرب من خلال الدوار المنسي والمهمش، مع ضرورة استحضار الصراع السياسي-الاجتماعي الذي شهدته البلاد. وقد استثمرت الرواية العديد من التقنيات جعلتها تنزاح عن الرواية الكلاسية، بفعل تشظي الحكاية، واستثمار التقنيات السينمائية والمسرحية، وتنويع الضمائر، وإفساح المجال لأكثر من صوت ليحكي، مما يمنح للرواية بعدا بوليفونيا يكسر سطوة السارد الوحيد.
**
تمت الاستفادة من:
1_ حديث للكاتب أدلى به في حوار له مع أحد الصحافيين.
2_ "خط الشرق: حرقة السرد الموشوم في الذاكرة"، لحسن أوزين، والمنشور بجريدة "رأي اليوم".




التدلاوي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى