وفاء عبد الرزاق - الجثثُ تشرب العصير

يلوح في الأفق شكلٌ جديد، بل شيءٌ مغايرٌ لما ألفناه، يحتاج إلى شجاعة منـِّا لمسايرته أو التآلف معه، السطحيون جداً وبخاصة مَن لهم استعداد تام لمشاركة خلاَّط العصير سيعتبرونه أمراً عاديـَّاً وباعثاً للسعادة .

هذا الضرب من الكائنات أكثر المخلوقات خبثاً وأكثر حيوانية من حيوان واسع الحيلة، أكثر الوجوه تشوهاً، أكثر العيون شرراً، أكثر القلوب حقداً وأكثر مَن يثير استغرابي .

استخدمتُ لوصفه كلمة "أكثر" لذلك سأعطيه اسم "أكثر" لأنه أكثر المنتشرين في الشارع وأكثر المألوفين للمارين العابرين المتوجهين إلى محل " أبو فرَج " بائع عصير التمر.
في خلاَّط أبو فرَج تمرٌ فقط، فهو لا يبيع غير عصيره ذلك لأن التمر لا يحتاج إلى سُكـَّر بل يحتاج ماءً فقط وكهرباءً لتشغيل الخلاَّط وثلجاً، مما يجعل السعر رخيصاً على المشترين من العمـَّال والطلبة والكادحين والذين تخرَّمت جيوبهم، الجيوب التي خرمها الدهر والقـِدم وليس كثرة التبذير .
" أكثر " له خلاّطه الخاص لكن لا أدري لمَ أُطلقُ عليه اسم " عورة "
خلاّطٌ عورة، ربما اسم الشركة المصنِّعة أو الخلاَّط أعور، لكن العم " أكثر " لا يجد مبرراً لستر العورة ، ربـَّما المجرب حكيم والمثل قال : اسأل المجرب ولا تسأل الحكيم . هذا يعني أنـّني أكمل اسمه وأدعوه السيد " أكثر مجرِّب " .
اسم العائلة ناقص لابد من إيجاد اسم جدٍّ له ، خطرت لي فكرة عظيمة:
" أكثر بن مجرِّب بن ناقص " .
العم " أكثر " مزواج خلّف اثني عشر ولداً، كل ولد بمثل الأب، كنزٌ نابغ، ولأنه نابغ العقل والقلب علَّم عشيرته بني أكثر مدَّ اليد لتصبح خرقاء متهورة، هذا سر نبوغ بني أكثر .
الحفيد " كثيـِّر " ورث خلاَّط أبيه ، أقول سراً : كثيِّر فيلسوف، نعم فيلسوف قحّ وأكثر الرؤوس حكمة وله استنتاجات لا تخطر ببال، يعني هو فوق البشرية لا يأتي إلا بالأمور الخارقة .
تهافت كل مَن في المدينة إلى محل " كثيِّر " لشراء العصير المخلوط من فاكهة متنوعة وبثلج وسُكَّر ورمـَّان .
لائحة الأسعار مختلفة بلغة غير مفهومة ربما إفرنجيَّة لا يفهمها عامة الشعب مما اضطره التعامل مع زبائنه بالإشارة، كل نوع من أنواع العصير يضع عليه عصير الرمـَّان بدل الماء ولا أحد يعترض، وأيضاً على المشتري أن يغمس يده اليمنى بقدح من عصير الرمـَّان ليتكرم عليه " كثيـِّر " بأكواب العصير، بعدها يسجل اسمه في دفتر كبير وبعد التسجيل ينال مكرمة خاصة (عصير بلاش طول العمر)، لكن على الموقعين الاعتراف بأن الإنسان لم يُخلـَق من أجل الإنسان بل من أجل أن يصبح وحشاً .
بطريقة رديئة فكر المشترون وتهامسوا وتوافقوا واتفقوا على رأي واحد : كل فرد في العائلة عصيره بلاش إلى نهاية العمر، توصلوا إلى نتيجة مهمة جداً، يسجـِّـلون اسم الأموات من الأسرة ويغيِّرون من شكلهم أو يتنكرون أثناء غمس اليد بالعصير ليكثر نصيبهم ويسبحون بالرمـَّان .
غريب هذا الإنسان به حاجة إلى العبوديـَّة حتى ولو لرمـَّان وبه طمع وجشَع يتصارعان أو يعتاش كل منهما على الآخر .
لكن الأموات أكثر جشعاً منهم لم يتركوا الفرصة تضيع منهم ،خرجوا من قبورهم هياكل عظمية تدور حول عربة الأخ "كثيـِّر " وتلعق ثم لحقت بهم الجثث الطازجة الطريـَّة مادة ألسنتها بتعطــِّش .
الأخ " كثيِّر " له مرتبة عالية، كونه بعين واحدة في وسط جبينه وهو يذكرني بقصص الجدَّات عن الأعور الدجـَّال، أما العم " أبو فرج " تركه الوقت محبوساً لذا تقرفص المسكين بقدح عصير فارغ صفنَ وتحنـَّط .
خلاصة القول : إن هذه القصة هي الأكثر حقيقة من قصصي الباقية، لأنني أكثر وثوقاً بمعرفتي لغزها خاصة حين رأيتُ عدد الهياكل العظمية والجثث المنتشرة في الشارع ، والهوَّة الأكثر بؤساً، أنني ثـنيتُ ركبتيَّ بعيداً عنهم ، وجلستُ قرب دكان " أبو فرج " ألعن كلمة أكثر التي حاصرتني أكثر وكتبتُ عنها أكثر من أكثر أعمالي .
أشارت إحدى الجثث متسائلة عني : مَن تلك ؟
أجابتها جثــَّة أخرى : هي تلك .

أنا تلك ابنة ذلك بن ذاكَ مازلتُ أجلس القرفصاء عند دكان العم السجين أنتظر أن ينهض " أبو فرج"


*(القصة الفائزة بالقصة الذهبية في موقع الادباء والمبدعين العرب)




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى