عزيز الحدادي - الروح والحرية هما الشيء نفسه

«أنا أفكر إذا أنا حر»

عندما أتخذ من الفكر موضوعا لي أشعر بأنني في بيتي ومع نفسي، مبتهجا بالوجود ومنصتا لنداء الحقيقة، أما البقاء داخل ضوضاء الجسد، فإنه يسبب القلق من جراء البحث الدائم عن اللذات الحسية، لكن بأي أرض يتم تشييد هذا البيت؟ هل بأرض العقل؟، أم بأرض الوجدان والعاطفة؟
لقد ظلت حقيقة الفكر محجوبة على الإنسان عندنا، ولذلك أصبح يدير ظهره لما ينبغي التفكير فيه، خاصة وضعه السياسي في المجتمع، مما جعله ينعم بحرية تنام في حضن العبودية، ويقدم نفسه كجسد طيع لهيمنة السلطة القهرية، هكذا تأخر موعد الإنسان في هذا الفضاء المقهور مع الضرورة التاريخية، مما حرمه من نعمة العقد الاجتماعي، وأبعده عن مباهج التنوير وخيرات التقدم وسعادة الديمقراطية؛ الإنسان الحر والتنوير، أين هما في هذا الليل الهيجلي الذي تبدو فيه كل الأبقار سوداء؟
كانت فلسفة الروح مقبلة على اختراق فضاءات الفكر التنويري، وإيقاظ هذا الإنسان الشقي من سباته الدوغمائي، بيد أن قطاع الطرق سلبوها حريتها، حين تم اعتقالها، ونفيها إلى الضفة الأخرى، ولم يعد لها الحق في الكلام. لأنها فشلت في البحث عن الذات الفاعلة التي استهلكها المجتمع المقدس، مجتمع العدمية، الذي يحرم الإنسان من كل فعالياته ويقذف به خارج ذاته: «تدمير الأنا في مجتمع عدمي»، ولذلك فإن حاجة هذا المجتمع إلى نقد شمولي أصبحت ملحة كالمواد الأولية، من أجل بناء الرؤية العقلانية للعالم كتمهيد لبناء الدولة المدنية؛ دولة الفكر والحرية والضامن على نجاحها هو العقل، باعتباره غاية الإنسان في الوجود، ينقله من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، بفضل أنوار العقل، فبتحريرها للفرد، تضعه في قلب التقدم.
لا أمل إذن يلوح في الأفق، مادامت هذه الفوضى السياسية، وعنف المجتمع، قد عجلت باختزال الأفراد في الاستهلاك المستسلم وفي الاستقطاب الخاضع لأولئك الذين يتحدثون باسم التاريخ والله. صيرورة جعلت من التشاؤم العميق سياسة للطبقة المقصية، وتحولوا إلى مقاومة لتعفن المجتمع. فمن خلال نضالهم، يظل الأمل حيا وممكنا ولو في صورة المستقبل اليائس. كم هي رائعة هذه الثقة في العقل، لأنه يقاتل من أجل الدفاع عن حياته في النقد الثقافي الذي سينقذ الفكر من الغرق في العماء، ويمكث أبديا في الظل. فما قيمة الإنسان بدون عقل يفكر في مستقبله، ويشعر بالحرية في مجتمعه؟
لا نملك إلا أن نرفض هذه المجتمعات التقليدية التي تختزل أفراد المجتمع في قواعد وطقوس، من أجل إخضاعه للهيمنة السياسية، ليعلن عن تدمره من الديمقراطية، هكذا تحاكم الديمقراطية في المجتمعات التي تغيب فيها الذات الفاعلة. وما يهمنا في هذه القراءة التائهة في شاعرية الأحلام، هو أن نعثر على جماعة من الأصفياء تقتسم معنا حرقة التغيير، حتى نتمكن من الانزياح عن التهكم الماركسي الذي يقول: لم يفعل الفلاسفة سوى تفسير العالم، بل الأمر يقتضي تغييره، ولنا أمل كبير أن نساهم في هذا التغيير، بواسطة نشر فلسفة الأنوار، ولكن كيف يكون ذلك ممكنا؟ ألا يتعلق الأمر بالتشبث بمثالية سياسية لا علاقة لها بواقع ميت؟ ألا يكون الفيلسوف في هذا الواقع مثله مثل النـزلاء، والغرباء لا أحد يسمعه؟
في ظل هذا الفيض التنويري، يكبر الأمل بالزمن، على الرغم من شراسته، بيد أنه من طبيعته أن ينحاز إلى الضرورة التاريخية، وحدها تحكمت في كتابة العقد الاجتماعي وحرضت الإنسان على الانعتاق من العبودية، ولم يكن دور الفلاسفة يقتصر على الشهادة، بل كانوا يبدعون مجتمعا عقلانيا يحمي حقوقه ويرعى حريته. وتتشوق إرادته لإسقاط السلطة المطلقة، وبناء النظام العقلاني، وكانت دعوتهم تمزج بين الجمالي والسياسي، بين الفكر والفعل الاجتماعي. هكذا أصبحت كل الآمال النقدية على العقل بعد إخضاعه للنظرية النقدية كركيزة ثقافية للمجتمع، تمنح الإنسان القدرة على الارتفاع من الحياة المادية إلى حياة الفكر، أي ينتقل من القصور إلى الرشد بلغة كانط. لكن لماذا هذا التركيز على الإنسان من أجل بناء مجتمع التنوير؟ وكيف يمكن للتجربة الجمالية أن تتحول إلى دعوة سياسية تمزق المجتمع؟ التي أحدثتها شراسة التكنوقراطية التي حولت المجتمع إلى إدارة تراقب وتعاقب الفكر والحريات ويسود القمع السياسي، ويتحول المجتمع إلى أسطورة، لا يمكن تدميرها إلا بتناقضاتها حين تفرز حركات اجتماعية مقاومة للسلطة البيروقراطية، مطالبة بالديمقراطية، إما عن طريق الثورة، وإما بالاحتجاجات السلمية: «وإذا كانت الفكرة الثورية تستند إلى القناعة بأن السلطة لا يمكن تدميرها إلا عن طريق تناقضاتها الخاصة، وليس عن طريق حركة اجتماعية، أو كما يقول ماركيوز بأن الأزمة الثورية غريبة عن الديمقراطية، لأنه كلما كان النظام ديمقراطيا، قلت الثورات. لأن الديمقراطية تجعل السلطة غير مرئية ومتسامحة، ولا تخضع سلوك الأفراد إلى تصور اجتماعي للحقيقة، ولذلك نجد: «فوكو يرفض فكرة سلطة مركزية قائمة كالعنكبوت وسط شبكة من الموظفين ووكلاء الدعاية». إنها توجد في كل مكان ولا مكان تقوم بسن القوانين وأن المجتمع يطبقها. والمدهش في تفكيك فوكو للسلطة أنه استنتج أن الذات الفاعلة مصنوعة من طرف السلطة، ولكن هل معنى ذلك أن السلطة تستعمل الإخضاع من أجل إنتاج ذات طيعة؟ وكيف تشتغل تكنولوجية السلطة؟
جاء في المراقبة والمعاقبة أن المجتمع الذي يضع المجرمين في السجن والتلاميذ في الداخلية، والمرضى في المستشفى ويسجن العمال في المصانع، والجيش في الثكنات، ليس سوى ميكانيزمات الضبط التي تحول المجتمع إلى مصنع محكوم سلطويا، ذلك أن الضبط يتطلب القمع. والقمع يتم عبر عنف الدولة التي تحتكر شرعية استعماله، والخال: «أن شغف فوكو بالسلطة قاده إلى إلغاء الرؤية المثالية للذات الفاعلة والتاريخ.. في «الكلمات والأشياء» يحتل مفهوم السلطة مكانة مركزية، وبإمكانها أن تكسر الذات الفاعلة»، يقول فوكو: «توجد بين علاقة السلطة والحركة النضالية دعوة متبادلة، ترابط غير محدد وانقلاب دائم». إنها علاقات تمازج، عبارة عن سلسلة لا بداية لها ولا نهاية، ولا أحد يملكها. والواقع أن فوكو يشبه ذلك الرسام المتدين، والذي لا يكون فنه مبهرا إلا حين يرسم الكفار والمرتدين وهم في الجحيم، ذلك أن الحديث عن الهيمنة وعزل الحمقى، وتحويل المعرفة إلى سلطة كلها اكتشافات رائعة، بيد أن صاحبها لا يقترح ثورة للتخلص منها، لأنه يعتبر أن الليبرالية هي أسمى نظام يمكن العيش فيه، لأن الدولة تصير فيها إنسانية، تحكم بالحرية، ولكن مع ذلك نتساءل؛ كيف يمكن الوصول إلى الليبرالية في المجتمعات المحرومة من مشروعه الفلسفي؟ ألا تكون هذه النزعة هي نفسها النزعة الاستشراقية التي حكمت على الشرق بالسكون في الزمان؟
ربما تكون هذه الفوضى، وهذا التيه الميتافيزيقي، خاضعا لتأملات لا تعرف إلى أين تتجه، وعلى كل حال فإنها تتجه نحو اللامكان، لأنها هي أيضا تسعى إلى التحرر، مادامت قد وجدت مثلها الأعلى في العقل، ولذلك تصعب مراقبتها أو معاقبتها، لأنها لا تخضع للسلطة، ولكنها تنتج خطابا قابلا للاستثمار في المقاومة ضد السلطة القهرية، وتدافع عن الذات الفاعلة ضد الدولة، إلى درجة أنه باستطاعتنا أن نلبي نداء هذا التمرد على جميع أشكال الإخضاع والقمع: «إذا ما دمرنا المثلث المتشكل من طرف الخصوم ورهان معركتهم فإننا نتأذى بنقد متطرف، إلى الرؤية نفسها التي تملكها السلطة المهيمنة».
هكذا ينبغي الانتقال من الرغبة إلى المواطن، ثم إلى الذات الفاعلة، باعتبارها حرية وفكرا: «والاعتراف بأن الذات الفاعلة، التي صمدت في وجه كل الهجومات مثلما قاومت كل السلطات، هي الفكرة الوحيدة التي تمكن من تحرير الشعوب وبناء الحداثة والتقدم». وبدون الذات الفاعلة يحصل التصدع في المجتمع، ويصبح محروما من الرعاية الأبوية، يسهل اختراقه من قبل التكنوقراطيين والسياسيين المأجورين، ويفقد الفعل الجمالي للثقافة، بل وتنهار السياسة المدنية، والأخلاق الاجتماعية، وفي ظل هذا الصراع ينبثق مجتمعا فقيرا روحيا واقتصاديا، ويشكل غياب المثقفين سبب مأساة هذا المجتمع: «ويكاد المثقفون النقديون أن يكونوا بلا صوت في العالم الإسلامي أمام صعود الحركات الإسلامية التي سوف تدمر الحياة الثقافية حينما تصل إلى السلطة». وينبغي الاعتراف بأن المثقفين ليسوا وحدهم المسؤولين عن الوضع الذي هم ضحاياه، والحياة الثقافية لا تنمو في مجتمع يتحكم فيه أبناء الأعيان، ويفتقد إلى الحرية، ويحطم الطبقة الوسطى بنفيها مع الطبقة الكادحة، ولذلك فإن هذا المجتمع الذي يسير نحو الحداثة لن يصل، لأنه قام باغتيال الذات الفاعلة وتدمير أهل الفكر والثقافة: «لأن تاريخ الحداثة هو تاريخ انبثاق الفاعلين الاجتماعيين والمثقفين». لأنه لا تكفى ثقافة المقاولات الكبرى التي تحول المجتمع إلى سوق الاستهلاك والشعب إلى جماهير، يتم تخديرها بالخطابة المقدسة، من أجل إبعادها عن العقل. وتربيتها على الخرافة والشعوذة. ولعل هذا ما يعجل بتصدع هذا المجتمع، الذي أراد أن يهدم نفسه، ويستمتع بانهياره، لأنه أضحى يشعر بالاغتراب، بعدما هجره أولئك الذين استجابوا لندائه حين كان مستعمرا. والحال أن الذين يولدون في الوطن نفسه، ويتربون في الأمة نفسها يصبحون واحدا في الروح والحب، ومن حقهم التمتع والفرح بالحياة في الأرض قبل السماء.


د. عزيز الحدادي
القدس العربي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى