مجدي محروس - دموعُ الخَريفِ.. قصة

دقاتُ ساعةِ الحائطِ التي تواجه فراشَها صارت كمطارقَ من الصلبِ تدقُّ رأسَها بلا هوادةٍ، مزَّقتِ السكونَ القاتلَ الذي يُحيطُ بها، فتحتْ عينيها المُجهدتين اللتين لم تريا النومَ منذُ أوتْ لفراشِها عقبَ صلاةِ العشاءِ كما تعودتْ في السنواتِ الأخيرة..
توقفت الساعةُ التي أعلنتْ عقاربُها عن تمامِ الثانيةِ صباحاً عن صراخِها، فاعتدلت جالسةً فوقَ فراشِها، وعيناها المختنقتان بدمعةٍ طالما حاولت حبسَها في الفترةِ الأخيرةِ كلما صحتْ من نومِها تدوران في أركانِ حجرتِها التي بدتْ لها كئيبةً ..
الشعورُ بالوحدةِ يجثمُ فوقَ صدرِها..
يكتمُ أنفاسَها..
لا شيءَ سوى ذلك السكونِ القاتل..
لا أثرَ للحياةِ حولَها سوى دقاتِ تلك الساعةِ المزعجةِ، والتي صارت تنتظرها على مضض
؛ فقط لتشعر بأنَّ بعضَ حواسِها ما زالت تعملُ، وأنها متواجدة ولو على هامش الحياة ..
فوجئتْ بأعماقِها تصرخُ في ذهولٍ:
- الحياة!
وهل تسمى تلك حياة؟
ثم .. ثم ماذا لو هاجمني الموتُ الآنَ وأنا وحيدةٌ؟
وماذا في ذلك؟
فأين هي تلك الحياةُ التي سينتزعُها منِّي الموتُ؟!
ليتكَ تأتي أيُّها الموتُ؛ علَّ ملكَي الحِسابِ يُبددان وحدتي.
في تلك اللحظةِ خدعتها دمعتُها الحبيسة، وسالت على وجهِها المتغضنِ بالتجاعيد، وهي تتذكرُ يومَ أنْ كانت شقتُها تنبضُ بالحياةِ حتى سنوات قريبة مضت..
تنطلقُ من حلقِها تنهيدةٌ حارةٌ، وهي تجاهدُ لتغادرَ فراشَها وحجرتَها، لتقف في الصالةِ أمامَ صورةِ زوجِها الراحلِ الذي تركها وحيدةً منذُ ما يقربُ من ربعِ القرن..
تذكرت كم أعادَ على مسامعِها مراراً أمنيتَه بأنْ يكبر ابنهما خالد سريعاً، ويشتدَّ عودُه ليتولى الرايةَ من بعده، ويحافظ عليها وعلى أخته الوحيدة..
كانت تلك نظرته واعتقاده في الحياة، أنَّ الرجلَ الحقيقي خُلِقَ لصونِ عِرضِ مَنْ يُحب..
تنطلق من حلقِها تنهيدةٌ أخرى، وهي تستديرُ نحوَ حجرتين مغلقتين بخطى ثقيلةٍ مجهدةٍ أنهكتها سنون تخطتِ العِقدَ السابعَ بعامٍ وبضعةِ أشهر..
دلفتْ لإحدى الحجرتين، وأغلقت البابَ خلفَها كما تعودت، وكأنَّها ما زالت تضمُّ بداخلها جسدا ذا حرمةٍ يجبُ سترُه ..
أنفُها يحاولُ جاهداً التقاط بقايا عطرٍ قديمٍ طالما عبَّق أجواءَ تلك الحجرةِ بروائحه الفوَّاحة ..
تحسَّست الفراش.. الملاءة .. الوسادة ..
بدأ كلُّ شيء في مكانه منذُ سنواتٍ مرتباً نظيفاً..
علا شفتيها شبحُ ابتسامةٍ باهتةٍ، وهي تتذكرُ عددَ المراتِ التي تشاجرتْ فيها مع ابنها، كلما دخلت حجرتَه، ووجدت ملابسَه وكتبَه مبعثرةً في كلِّ مكانٍ بالغرفة..
تذكرت ابتسامته، وهو يُقبِّلُ يدَها واعداً إيَّاها بأنَّه لن يفعلَ ذلك ثانيةً، وبعدَ خروجِها تتبخرُ وعودُه وكأنَّها لم تكن..
تحركتْ نحوَ الصِوانِ، وفتحته لتقبض بأناملها على القليل الذي تبقى من ملابسِه..
تُقرِّبها لأنفِها..
تتنفسُ عبيرَها وكأنِّ به سرَّ الحياة..
أعقب دمعتها السابقة شلالٌ أغرقَ وجهَها، وهي تغادرُ للصالةِ مرةً أخرى، وعيناها على هاتفها ذي الأسلاكِ المنزوعة، والذي ربضَ فوقَ منضدةٍ مجاورةٍ للحائطِ كالجثة الهامدة:
- تُرى .. ما الذي منعك يا ولدي عن زيارتي طوال الفترةِ الماضية؟
مضى الآنَ ثلاثةُ أشهرٍ وسبعةُ أيامٍ منذُ آخر مرةٍ تكحلت فيها عيناي برؤيتِكَ..
هل أخطأتُ حينَ نزعتُ أسلاكَ ذلك الهاتفِ؟
وماذا كان بوسعي أن أفعلَ، وأنا لا يروي ظمأي تلك الاتصالاتُ الباردة؟
أليس من حقنا – نحن الآباء- أن نتدلل ونشعرَ بحنانِ وعطف أبنائنا وقد اشتعلَ الرأسُ شيبا؟
مسحتْ ما تبقى من آثارِ دموعِها، وبرؤية مشوشةٍ اتجهتْ صوبَ الحجرةِ الأخرى، وألقت بجسدِها المُجهَدِ فوقَ الفراشِ، وهي تتذكرُ ابنتها الوحيدة نهى حينَ عادتْ من مدرستها والهلع يكسو وجهها، لتحتضنُها مطمئنةً إياها بأنَّ زهرةَ أنوثتِها قد تفتحتِ اليوم، وأنَّه لا داعي للقلق، وتذكرتْ حينَ جاءها الفتى الذي تحبُّه ليطلبَ يدَها، ويعلنَ بأنَّهما سيقيمان بإحدى دول النفط حيث يعمل..
يُرفع في تلك اللحظةِ صوتُ أذانِ الفجرِ لتتوجه برأسَها للسماءِ داعيةً اللهَ بأنْ يُريحَ قلبَها المكلومَ قبلَ أن تتوضأ لتؤدي الصلاة ..
تستيقظُ من نومِها، وقد تسللتْ أشعةُ الشمسِ إلى وجهها عبرَ زجاجِ نافذةِ الصالةِ، لتكتشفَ أنَّها ما زالت في مكانها على السجادةِ منذُ أدَّتْ صلاةَ الفجر..
تنهَّدتْ للمرةِ الثالثةِ، وشفتاها تهمهمان بعباراتٍ غيرَ مفهومةٍ في اللحظةِ التي صكَّت أذنيها طرقاتٌ على بابِ الشقةِ بدتْ لها مألوفة..
تابعت الطرقاتِ التي تكررتْ بشكلٍ أكثرَ حدةٍ في شرود، قبل أن تنفضُ عنها ذهولَها، وتنهضُ في قوةٍ لا تدري من أين أتتها نحوَ بابِ الشقةِ، وقلبُها ينتفضُ بينَ ضلوعِها في أملٍ، ليصكَّ صوتُه الجامدُ أذنيها:
- ثمانون جنيهاً قيمةُ إيصالِ النور.

تمت بحمد الله




L’image contient peut-être : 2 personnes








تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى