مختار الخلفاوي - فيما يرى النائم: حواريّة الأحلام

يتّضح من مقدّمة الصفديّ أنّ فكرة المنام بشخص بعد موته تدخل ضمن خطّة الكتاب “..لأنّ المطّلع على أخبار من درج [ ...] يعود وكأنّه عاصر أولئك وجلس معهم على نمارق الأسرّة واتّكأ بينهم على وسايد الأرايك، واستجلى أقمار وجوههم إمّا في هالات الطيالس أو في دارات الترايك، وشاهد من أشرارهم شرر الشياطين وفضّ له فضل أخيارهم في ملإ الملايك [...] فكأنّما أولئك لداته وأترابه، ومن ساءه منهم أعداؤه ومن سرّه أحبابه، لكنّهم وجدوا من قبله وأتى هو في الساقة على مهله.” (الوافي، ج 1 ص 4 )

إنّ المؤلّف، حين أنشأ تراجمه، استهدف في القارئ إحدى غايتيْن، فسيرةٌ يحسّنها ويحثّ، ضمنًا، على الاقتداء بها، وسيرةٌ يقبّحها داعيًا إلى تجنّب مشاركتها في صفاتها. وإنّ الأحلام التي تُساق ثني هذه التراجم تعتبر أحد تجلّيات المظاهر المختلفة للحياة في الثقافة الإسلاميّة عبرها تنتقل الأفكار وتُطلب الشرعيّة. من هذه الزاوية التعليميّة تريد الأحلام أنْ تكون أداة للتهذيب والحثّ على الفضيلة: تعلّم المرء أيّ سلوك ينهج وأيّ تصرّف يتّبع وأيّ معاشٍ يتّخذ، وتبيّن كيف أنّ أفعال الإنسان في حياته اليوميّة وفي معاشه تتناسب مع وضعه في معاده. يتعلّق الأمر، حينئذ، بتعيين طريق الحقّ للأحياء، أي لمخاطَبي الحالم وراوي الحلم على حدّ السواء، ويُستخدم الميّت للتأثير في الحيّ، ودعوته إلى هذا المذهب وإلى هجر ذاك. على أنّ بعض الأحلام يجيب عن أسئلة شغلت الخاصّة من متكلّمين وأصولييّن وفلاسفة عن عالم الغيب وما وراء الحسّ والعقل، ولذلك فإنّ الأحلام تعدّ وسيلة للتعليل وأداة للجدل الدينيّ والمذهبيّ وفضاءً للتصارع السياسيّ والخصومة الأدبيّة.
أحلام المذاهب والجدل الدينيّ
نتبيّن من قراءة بعض تراجم الأعلام أنّها ساحة متحرّكة للصراع المذهبيّ والفكريّ الأيديولوجيّ. ثمّة صراع فكريّ عام يهمّ أنساق المعرفة والسلوك ونلمحه في موقف يزدري بعض المتصوّفين ويقرّظ الزهّاد والقرّاء والأولياء. وثمّة صراع مذهبيّ خاصّ يهمّ المفاضلة بين المذاهب الفقهيّة الكبرى. وثمّة في هذه الأحلام أصداء لخصومات ثقافيّة وأدبيّة.

تنبئ بعض التراجم عن موقف من التصوّف سلبيّ، فقد أضمر ابن خلّكان موقفًا من أحد رموز التصوّف الإسلاميّ هو الحلاّج ( قتله المقتدر وأحرق جثّته سنة 309 هـ في وفيات، عدد الترجمة 189 ج2.) حين ساق في ترجمته قصّة حيلة عقدها صاحب الترجمة مع أحد أصحابه كي يقنعَا الناس بمذهبهما. ادّعى صاحب الحلاّج العمى والزمانة (الشلل) وأخبر الناس أنّه رأى في نومه الرسول يقول: إنّه يطرق هذا البلدَ صالحٌ مجاب الدعوة، تكون عافيتك على يديه. ويُحْضَر له الحلاّج، فيردّ عماه بصَرًا وزمانته صحّةً. ويختم المؤلّف الترجمة بخبر تواطؤ الرجلين (الحلاّج وصاحبه) على أخذ أموال الناس وتقاسمها.

الدليل الثاني على هذا الموقف السلبيّ من التصوّف ما نقرأه في ترجمة الجنيد (وفيات، مج 1 144 ) إذ رآه محمّد بن إبراهيم “في المنام، فقلت له ما فعل اللّه بك؟ فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلاّ ركعات كنّا نركعها في الأسحار..” يتّضح من هذه المحاورة في المنام باطل التصوّف (إشارات، عبارات، علوم، رسوم) في مقابل الإسلام الصافي من الغلوّ أو البدع بعبارة أهل السنّة، فما شفع له إلاّ قيام اللّيل. أمّا خير النسّاج الصوفيّ (وفيات، ج 2 / 222) فيجيب من يسأله في المنام عمّا فعل اللّه به، بعد موته، بالقول: “..لا تسلني عن هذا ولكنّي استرحت من دنياكم المضرّة”.

على أنّ ابن خلّكان يصرّح بموقفه من بعض أعلام التصوّف في ترجمة الحارث المحاسبيّ ( تـ 243 هـ في وفيات، مج 2 ص 58 ) قائلاً “كان ابن حنبل يكرهه لنظره في علم الكلام وتضييقه فيه، وهجره فاستخفى من العامّة فلمّا مات لم يصلّ عليه إلاّ أربعة نفر، وله مع الجنيد بن محمّد حكايات مشهورة.”. وتظهر انتقائيّة ابن خلّكان في إيراده ما يخدم عقيدته المذهبيّة في استدلاله بموقف ابن حنبل من المحاسبيّ وفي إيراده خبرا عن جنازته، وهذا الخبر تأكيدٌ للصورة السلبيّة التي يرسمها لصاحب الترجمة، وهو يصدر في ذلك عمّا قاله أحمد بن حنبل على ما يرويه صاحب “المستطرف” (الإبشيهيّ، المستطرف منشورات دار الجيل ( د. ت) ج 1 صص. 145 – 146 ) “بيننا وبينهم الجنائز، يريد بذلك اجتماع الناس عليهم يوم وفاتهم”.

ويفهم هذا الموقف ضمن الاتجاه العامّ المناوئ للـ“بدعة وللأدبيّات البدعويّة” عامّة، ويظهر ذلك على مستوييْن، فمن جهة ثمَّ حرص على نقاء العقيدة من خلال خطّ فقهيّ سلفيّ متشدّد مناوئ لكلّ الخطوط الفلسفيّة والكلاميّة والعرفانيّة، ومن جهة ثانية نلمح رغبة في مقاومة الانحرافات الاجتماعيّة عن الأصول عبر مناهضة الشذوذ الاجتماعيّ والسياسيّ لدى فئة الفلاسفة والمتصوفة على حدّ السواء. وفي كلتا الحالتيْن ثمََّّ سعي إلى الحفاظ على “الإسلام الأحاديّ القطعيّ” ضدّ “الإسلام الفِرَقيّ التاريخيّ”.

في مقابل هذا الموقف السلبيّ من التصوّف وخاصّة في محموله المعرفيّ السياسيّ كما عند الحلاج، ثمّة إعلاء لمذهب الصالحين والقرّاء والأولياء وأصحاب الكرامات تذييلاً هامشيًّا على متن التصوّف.

نقرأ في ترجمة ابن مجاهد (ت 324 هـ في الوافي، 3633 ج 8) شيخ القرّاء في عصره ومصنّف القراءات السبع عن منام يرويه أبو الفضل الزهريّ عن أبيه: “انتبه أبي في اللّيلة التي مات فيها أبو بكر بن مجاهد فقال يا بنيّ ترى من مات اللّيلة فإنّي رأيت في منامي كأنّ قائلا يقول: قد مات اللّيلة مقوّم وحي اللّه منذ خمسين سنة. فلمّا أصبحنا إذا ابن مجاهد قد مات.” بل إنّ الشهادة لهذا الرجل تتمّ في منام آخر يرويه بنفسه “رأيت ربّ العزّة في المنام، فختمت عليه ختمتين، فلحنت في موضعيْن، فاغتممت لذلك، فقال لي: يا ابن مجاهد الكمال لي، الكمال لي.” إنّ صفة “مقوّم وحي اللّه” لا تعني قراءة مخصوصة من القراءات بقدر ما تعني قارئًا بعينه هو ابن مجاهد وجهده في تقنين القراءات السبع. وهذا المنام يحيل إلى إجابة ابن مجاهد نفسه في حياته عن سؤال: لِمَ لم تختر قراءة بعينها لنفسك فأجاب بأنّ حفظ قراءات الأئمّة أنجع وأفضل. من البيّن أنّ هذه المنامات لم تكن قبل بداية القرن الرابع الهجريّ، إذ إنّ زمن التوافق على القراءات كان في حدود منتصف القرن الرابع الهجريّ، وقد ثبّتته السلطة السياسيّة القائمة فدعت إلى حظر قراءة ابن مسعود وألزمت باتّباع المصحف العثمانيّ وأزرت بقراءة أبي بكر ابن مِقسم العطّار. (مقال قراءات، دائرة المعارف الإسلاميّة ط 2)

تبدو وظيفة المنام هي الدعوة إلى الاستئناس بالقراءات السبع جميعا. في المنام الثاني المذكور لابن مجاهد تثمينٌ لعمل القرّاء من خلاله. يظهر ابن مجاهد في منام يرويه أحمد بن كامل القاضي (ت 350 هـ) وقد رآه بعد موته يقرأ القرآن فسأله فيم يقرؤه وقد مات، فأجابه إنّ اللّه قد استجاب لدعائه في الدّنيا عقب كلّ صلاة وفي كلّ الأوقات بأنْ يستمرّ في قراءة القرآن بعد مماته، فكان له ما أراد (الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد، ج 4 ص 148).

أمّا دعوان بن عليّ ( نكت، ص ص 150-151) وكان من القرّاء أيضا فـ“رئي بعد موته بخمس وعشرين سنة في المنام، وعليه ثياب شديدة البياض وعمامته بيضاء مليحة ووجهه عليه نور، فأخذ بيد الرائي ومشيا إلى صلاة الجمعة، فقال له يا سيّدي ما فعل اللّه بك؟ فقال: عرضت على اللّه خمسين مرّة، فقال لي: إيش عملت، فقلت: قرأت القرآن وأقرأته، فقال لي: أنا أتولاّك. أنا أتولاّك.”. إنّ هذا الحلم لا يردّ على جدل بشأن دعوان ولا يدفع تهمة ولكنّه يصدّق على صحّة حياته العمليّة وهي هنا التفرّغ للقرآن قراءةً وإقراءً.

وعلى العموم فإنّ صورة القرّاء في الأحلام عامّة إيجابيّة وهي تتّجه إلى التهذيب الفرديّ للرائي من جهة وإلى قولبة قراءات القرآن من جهة ثانية.

الوجه الآخر لهذه الأحلام هو كونها ساحة للصراع والمفاضلة بين المذاهب نفسها. ويمكن أن نتبيّن في تراجم أيمّة المذاهب خاصّة تقريظا مضمرا أو معلنًا لهذا يقابله إزراء بغيره.

غالبًا ما يصرّح ابن خلّكان أو الصفديّ بأسانيد أحلامهما التي يرويانها في التراجم، وهما في ذلك يغترفان من معين روائيّ غنيّ حوته كتب المناقب والطبقات والتواريخ. على أنّهما يعمدان إلى ذلك الرصيد المشترك فينخلان وينتقيان ما يوافق الخطّ الفكريّ الذي يتّبعان. في ترجمة الإمام الشافعيّ ركّز ابن خلّكان على جزء من الرصيد يتعلّق بالولادة من جهة وبحاله في الجنّة من جهة ثانية. في الجانب الأوّل يورد منام أمّ الشافعيّ ( تـ 204 هـ) حين رأت، وهي حامل به، “كأنّ المشتري خرج من فرْجها حتّى انقضّ بمصر، ثمّ وقع في كلّ بلدٍ منه شظيّة..” ويشفع المنام بما تأوّله أصحاب الرؤيا من أنّه يخرج منها عالم يخصّ علمُه أهلَ مصر ثمّ يتفرّق في سائر البلدان. فهذا الحلم رغم أنّه يتنبّأ بولادة الفقيه فإنّ ما يُفهم منه هو نزعة إلى شرعنة منزلته الفقهيّة وإكساب مذهبه السلطة اللاّزمة.

في الجانب الثاني من صورة الشافعيّ أعني حاله في الجنّة يورد ابن خلّكان منامًا لتلميذ الشافعيّ الربيع ابن سليمان المراديّ “..قال رأيته في المنام بعد وفاته فقلت يا أبا عبد اللّه ما صنع اللّه بك؟ فقال: أجلسني على كرسيّ من ذهب ونثر عليّ الِلؤلؤ الرطب..” (وفيات، مج 4 ص 163 ) إنّ هذه الصورة الفردوسيّة للشافعيّ بين يديْ ربّه بقدر ما تخبر عن مآله في العالم الآخر تؤسّس لمنزلته في الدنيا ولمنزلة مذهبه في حياة المسلمين. على أنّ ابن خلّكان قد سكت عن أحلام أخرى تخصّ الشافعيّ لأنّها، فيما يبدو، تخدم التشيّع. وفي هذا يمكن أنْ تُراجع منامات الشافعيّ بعليّ بن أبي طالب وجواب الرسول حين سُئل في المنام عن الشافعيّ فقال: من أحبّني وأحبّ سنّتي فليتّبع طريق الشافعيّ فإنّه منّي وأنا منه (تاريخ بغداد للبغداديّ ، ج 2 صص 60 – 69 ، كما تُراجع “مناقب الشافعيّ” لأبي حاتم الرازي حيث يُوازى بيْن الشافعيّ وبيْن الرسول!)

في ترجمة أحمد بن حنبل (تـ 241 في وفيات مج 1 ص ص 63 – 65) ، ينقل ابن خلّكان رواية عن أبي الفرج بن الجوزيّ في كتابه الذي صنّفه في أخبار بشر بن الحارث الحافي: “حدّث إبراهيم الحربيّ قال: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنّه خارج من باب مسجد الرصافة وفي كمّه شيء يتحرّك، فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فقال: غفر لي وأكرمني، فقلت: ما هذا الذي في كمّك؟ قال: قدم علينا البارحة روحُ أحمد ابن حنبل فنثر عليه الدرّ والياقوت، فهذا ممّا التقطت. قلت: فما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل؟ قال: تركتهما وقد زارا ربّ العالمين ووُضعت لهما الموائد، قلت: فلم لم تأكلْ معهما أنت. قال: قد عرف هوان الطعام عليّ فأباحني النظر إلى وجهه الكريم”. إنّ هذا الحلم يستهدف عديد الوظائف في نفس الوقت، ففي حين أنّ الكتاب الذي أخذ عنه ابن خلّكان رواية الحلم هو كتاب لابن الجوزيّ في بشر الحافي أحد الزهّاد المعدودين من الأولياء فإنّ موضوع الحلم ينقلب إلى تقريظ ابن حنبل والدعوة إلى مذهبه، فروحه التي قُبضت زارت أهل الجنّة فنُثر عليها الدرّ والياقوت (في حلم الشافعيّ الذهب واللّؤلؤ الرطب). أمّا ابن حنبل بشخصه ففي ضيافة ربّ العالمين قد أُعدّت له الموائد. إنّ أحمد بن حنبل الذي أُلّفت في سيرته المناقب يقع في مركز الدائرة من أحلام الأيمّة وهذا عائد إلى صورته بوصفه حامي السنّة - كما كان الشافعيّ ناصر السنّة - وإمام أهل الحديث في الأدبيّات السنّية من جهة وبوصفه الفقيه الذي وقف في وجه المعتزلة أثناء فترات صعودهم وتعرّضه، نتيجة ذلك، إلى المحنة المشهورة حول خلق القرآن، ومن ثمّ كان مذهبه هو العاصم للأمّة من الانحرافات والبدع (تراجع الأحلام التي تشرّع لسلطة ابن حنبل والحنابلة في ابن الجوزي، مناقب الإمام أحمد بن حنبل ومنها المنام الوارد في“المناقب” ص 437، فقد رأى أبو بكر المروزيّ أحمدَ بن حنبل في الجنّة وعلى رأسه تاج من نور ، فسأله أبو بكر عن التاج فأجاب أحمدُ أنّ اللّه اصطفاه إلى جانبه وكرّمه وقال له: يا أحمد هذا تاج العزّة توّجتك به لأنّك قلت إنّ القرآن ليس بمخلوق!)

ولعلّ من أبرز تجلّيات النزعة الحنبليّة في مدوّنة التراجم المدروسة قبولها في حكايات الأحلام بالتجسيم وإثبات التشبيه من خلال القبول بفكرة رؤية اللّه عيانًا، وهذه مسألة كلاميّة خلافيّة كبرى في تاريخ المسلمين. على أنّ هناك طرحًا لهذه المسألة الخلافيّة يرد في ترجمة عبد اللّه المروزيّ الخزاعيّ (الوافي، 3646) الذي روى منام ابن حنبل في الجنّة وعلى رأسه تاج العزّة لأنّه لم يقل إنّ القرآن بمخلوق. تنبع طرافة حكاية الحلم في ترجمة المروزيّ من دورانها حول امتحان الخليفة العبّاسيّ الواثق (تـ 232 هـ) له حول خلق القرآن ورؤية اللّه عيانًا (ممّا أُلّف في المناظرة الطريفة بين الفريقيْن كتاب البيهقيّ ( تـ 494 هـ ): رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس، تحقيق حسين المدرّسيّ، دار المنتخب العربيّ للدراسات، ط 1 1995 ). لقد رفض الواثق الرؤية، وأحلّ الحاضرون في مجلسه دَمَ الخزاعيّ، فضُرب عنقه وعُلّق جسده بسامرّاء ورأسه ببغداد ستّ سنوات قبل أنْ يُجمع ويُدفن. وقيل “إنّه رئي في النوم فقيل له: ما فعل اللّه بك؟ فقال: غضبت إليه فأباحني النظر إلى وجهه، وقال السرّاج: سمعت عبد اللّه بن محمّد يقول حدّثنا إبراهيم بن الحسن قال: رأى بعض أصحابنا أحمد بن نصر ( الخزاعيّ ) في النوم، فقال: ما فعل بك ربّك؟ قال: ما كان إلاّ غفوة حتّى لقيت اللّه تعالى فضحك إليّ.” لقد جيء بحلميْن في اتّجاه واحد وهو إباحة النظر إلى وجه اللّه ودليل ذلك رؤيته يضحك في وجه عبده الخزاعيّ، وقد شكاه ما صنع أهل الاعتزال بجسده.

إنّ طائفة أخرى من الأحلام كانت تدور حول رؤية اللّه عيانًا ومحادثته معًا. وتمضي هذه النزعة المثبتة للرؤية في الوفيات إلى أنْ يتكلّم اللّه بالفارسيّة. في ترجمة ابن سريج ( ت 306 هـ في وفيات، مج 1 ص ص 63 – 67 )، وهو فقيه شافعيّ ذكر ابن خلّكان أنّ المذهب الشافعيّ قد انتشر على يديه في الآفاق وذكر مناظرته لمحمّد بن داود الظاهريّ حول قوله بالظاهر، استطرد المؤلّفُ إلى أنّ جدّه سريج “رجل مشهور بالصلاح الوافر وأنّه كان أعجميّا لا يعرف بالعربيّة وأنّه رأى الباري سبحانه وتعالى في النوم وحادثه، وقال له في الآخر: يا سريج طَلَبْ كُنْ، فقال: يا خُدَا سَرْ بِسَرْ، قالها ثلاثًا، وهذا لفظ عجميٌّ معناه بالعربيّة: يا سريج اطْلُبْ، فقال: يا ربّ رأس برأس، كما يُقال: رضيت أنْ أخلص رأسًا برأس..” لئن كان الحلم الوارد في ترجمة ابن سريج مكرّسًا لمنزلته العلميّة في إطار المذهب الشافعيّ، فإنّ الاتّجاه الثاني في الترجمة يزري بالمذهب الظاهريّ، أمّا الاتّجاه الثالث فيثبّت فكرة التشبيه ورؤية اللّه بل ومحادثته بلسان فارسيّ.

وفي الجملة تنصرف صورة الفقيه إلى الموازنة بين المذاهب الفقهيّة والمفاضلة بينها، بينما تنصرف أحلام الزهّاد أكثر إلى الممارسات الأخلاقيّة، فيما تتوجّه أحلام المحدّثين إلى تأصيل الحديث النبويّ.

أحلام الوضع الثقافيّ والخصومة الأدبيّة والنقديّة
على أنّ الصدى الثقافيّ والأدبيّ للأحلام، وإنْ كان دون الصدى المذهبيّ، ممّا ترجّعه تراجم الوفيات المدروسةُ، فقد يتدخّل الحلم، أيضًا، لتقوية وضع ثقافيّ مخصوص أو تصحيحه أو للانخراط في خصومات أدبيّة ونقديّة معيّنة.

من أمثلة الأحلام التي تعمل على تقوية وضع ثقافيّ مّا ما نقرأه في خبر طريف في ترجمة ابن الدهّان النحويّ (تـ 610 هـ في وفيات، مج 2 ترجمة ( 265 ). “قال الحافظ أبو سعيد السمعانيّ: سمعت الحافظ ابن عساكر الدمشقيّ يقول سمعت سعيد بن المبارك بن الدهّان يقول: رأيت في النوم شخصًا أعرفه وهو ينشد شخصا آخر كأنّه حبيب له:

أيّها الماطلُ دَيني /أمليٌّ وتماطلْ

علّل القلب فإنّي /قانع منك بباطلْ

قال السمعانيّ فرأيت ابنَ الدهّان وعرضت عليه الحكاية، فقال ما أعرفها، ولعلّ ابن الدهّان نسي، فإنّ ابن عساكر من أوثق الرواة، ثمّ استملى ابنُ الدهّان من السمعانيّ هذه الحكاية وقال: أخبرني السمعانيّ عن ابن عساكر عنّي، فروى عن شخصيْن عن نفسه، وهذا غريب في الرواية.” أورد ابن خلّكان الخبر ليحقّق هدفيْن، فهو يتوسّل بالغرابة لاستجلاب القارئ من جهة، ويؤكّد، بطريقة واضحة، أهمّية السند في تقبّل الخبر ومن خلاله حجيّة الرواية في تناقل المعرفة وتبادلها من جهة أخرى.

وتعمل طائفة ثانية من أحلام الأعلام على تصحيح وضع ثقافيّ مّا فيقع تعديل صورة مخصوصة ارتسمت عن شخصيّة أو عن أثرٍ. رغم الصورة السلبيّة التي ارتسمت عن أبي نواس في المنظور الأخلاقيّ طبعًا، تخبرنا التراجم أنْ قد غُفِر له. في ترجمة أبي نواس (وفيات، 170 ) رأى محمّد بن نافع “بين النائم واليقظان” أبا نواس، “فسأله: ما فعل اللّه بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في علّتي قبل موتي وهي تحت الوسادة. فأتى أهله ودخل إلى مرقده ورفع وسادة فإذا رقعةٌ فيها مكتوب:
يا ربّ إنْ عظمت ذنوبي كثرة/فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إنْ كان لا يدعوك إلاّ محسن /فمن الذي يرجو ويدعو المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا/ فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟
ما لي إليك وسيلة إلاّ الرجا /وجميل عفوك ثمّ إنّي مسلم..”

إنّ وظيفة هذا الحلم، وقد ذيّل ترجمةً لأبي نواس امتدّت عشر صفحات، هي تصحيح صورة انطبعت عن الشاعر أثناء حياته، بعدما نال المغفرة بأبيات قالها تائبًا على فراش الموت، وتظهر من خلاله التوبةُ تيمةً تعدّل أفق الانتظار. وتتخذ سيرة الفرزدق ( تـ110 هـ في وفيات، مج 6 ص 86 )، وقد مات قبل جرير بأربعين يومًا، اتّجاها مخالفًا على اشتراكهما في الصناعة والنحلة (الشعر والنقائض والهجاء) “ذكر المبرّد في كتاب الكامل قال: التقى الحسن البصريّ والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشرّ الناس، قال الحسن: كلاّ، لستُ بخيرهم ولستَ بشرّهم، ولكنْ ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أنْ لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدًا رسول اللّه مذ ستّين سنةً. فيزعم بعض التميميّة أنّ الفرزدق رُئيَ في المنام فقيل له: ما صنع ربُّك بك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بأيّ شيء؟ فقال: بالكلمة التي نازعتها الحسنَ.” وهكذا تُنال المغفرة بأبيات من الشعر في آخر العمر كما تنال بكلمة تقال على السجيّة، على أنّ هذا المآل الذي يصير إليه هؤلاء المغضوب عليهم في الدنيا ينبغي أنْ يُلحق بسيرهم الدنيويّة فيقع التعديل من الآراء السلبيّة إزاءهم.

ومثلما تتوجّه الأحلام إلى تعديل صورة عن الأشخاص فإنّها تتوجّه، أيضًا، لتعديل الموقف من الآثار. من هذه المنامات ما اتّصل بتصحيح صورة الخطيب البغداديّ. يرى أبو القاسم المكّيّ في منامه الخطيب (ويدقّق زمن الرؤيا: عند السحر من ليلة الثاني عشر من ربيع الأوّل من عام 463 هـ أي قبل فترة وجيزة من وفاة الخطيب) وهو في منزله مع جماعة من الناس يتدارسون التاريخ، وكان يجلس إلى الخطيب رجلان على يمينه لم يعرف المكيُّ أحدَهما، فسأل عنه فقيل له: هذا رسول اللّه جاء ليسمع “تاريخ الخطيب”، فيعبّر الرائي بنفسه ما رأى “فقلت في نفسي: هذه جلالة للشيخ أبي بكر يقصد الخطيب، يحضر النبيّ ( ص ) مجلسه... وهذا أيضًا ردّ لقول من يعيب التاريخ ويذكر أنّ فيه تحاملاً على أقوام..” (الوافي، مج 7 ص 197 ) ما يجعل هذا الحلم بالغ التأثير “صادقًا” في الحكم على الخطيب والردّ على خصومه أمران، الأوّل وجود شخصيّة النبيّ في الحلم، ورؤية النبيّ حقٌّ كما جاء بذلك الخبر، والثاني زمن الرؤيا وهو عند السحر وهذا زمن أثير للرؤيا الصادقة. وكلا الأمرين يخدم غرضا أساسيّا وهو ردّ الاتّهامات الموجّهة إلى “تاريخ بغداد” من قبل خصومه. ويضيف الصفديّ لتدعيم هذا الموقف من الخطيب فيروي لرجل تقيّ أفاد أنّه رأى الخطيب بعد موته فسأله عن حاله فأجابه بأنّه “في روح وريحان وجنّة نعيم” أو “أنّه أُنزل وسط الجنّة حيث يتعارف الأبرار”.

الصيغة العكسيّة للحلم المدافع عن “تاريخ بغداد” نجدها في ترجمة ابن حيّان صاحب المقتبس ( تـ 469 هـ في وفيات، مج 2 ص 218 )، إذ رآه أحدُهم في النوم بعد وفاته مقبلاً فسلّم وتبسّم في سلامه، فقال له: “ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقلت له: فالتاريخ الذي صنّفتَ ندمْتَ عليه؟ قال: أمَا واللّه لقد ندمت عليه، إلاّ أنّ اللّه عزّ وجلّ بلطفه عفا عنّي وغفر لي”. لئن كانت حكاية الحلم قد وردت بعد شهادة بأنّ ما حكاه ابن حيّان في تاريخه صدقٌ فإنّ للمنام تأثيرا أكبر، ولذلك فهو العنصر الذي إليه تورَدُ النقول. وزاد في إبراز هذا الموقف من كتاب ابن حيّان إيراد الحلم الذي رئي فيه الجاحظ بعد موته فأجاب عن السؤال نفسه بقوله: لا تكتب بخطّك غير شيء يسرّك في القيامة أنْ تراه.

قلّت الأحلام في تراجم الأدباء واللّغوييّن بالقياس إلى غيرهم من الأصناف في المدوّنة، على أنّنا نقف في هذا الصنف من الأحلام على مظهريْن، الأوّل يتدخّل فيه المؤلّف ليصحّح خطأً سابقًا، والثاني يعكس فيه موازنةً بين الهجاء والرثاء.

في ترجمة المبرّد ( تـ 285 هـ في وفيات، مج4 ص 313 – 319 ) يذكر ابن خلّكان أنّه كان يقرأ كتاب الكامل فوقع على فصل ما غلط فيه على الشعراء. ووجد أبياتًا لأبي نواس نسبها المبرّد إلى الغلط وما كانت كذلك.“..فلمّا كان بعد ليال قلائل ...رأيت في المنام كأنّي بمدينة حلب ...فلمّا فرغنا من الصلاة قمت لأخرج فرأيت في أخريات الموضع شخصًا واقفًا يصلّي، فقال لي بعض الحاضرين هذا أبو العبّاس المبرّد، فجئت إليه وقعدت إلى جنبه أنتظر فراغه، فلمّا فرغ سلّمت عليه وقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل ... فقلت له: قد أخذوا عليك فيه، فقال: أيّ شيء أخذوا؟ فقلت: إنّك نسبت أبا نواس إلى الغلط في البيت الفلانيّ (وما لبكر بن وائل عصمٌ/إلاّ بجمعائها وكاذبها) ..فقال: نعم غلط في هذا. فقلت له: إنّه لم يغلط، بل هو على الصواب، ونسبوك أنت إلى الغلط في تغليطه، فقال: وكيف هذا؟ فعرّفته ما قال صاحب العقد الفريد فعضّ على رأس سبّابته وبقي ساهيًا ينظر إليّ وهو في صورة خجلان ولم ينطق، ثمّ استيقظت من منامي...” يعترف ابن خلّكان أنّ هذا الحلم غريب وإلاّ ما كان ليذكره. ولكنّه يقدّم تحديدًا دقيقًا لزمانه ومكانه، فإطار اليقظة، كما يذكر، هو الإسكندريّة في بعض شهور سنة 636 هـ، أمّا إطار الحلم فهو في مدينة حلب في مدرسة القاضي بهاء الدين المعروف بابن شدّاد وبها موضع للصلاة. بيْن ابن خلّكان والمبرّد أكثر من ثلاثة قرون ولكنّهما التقيا في زمان ابن خلّكان بدليل قوله “أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل”. الغاية من هذا اللّقاء على تطاول الأزمان هو الاستدراك على المبرّد في تخطئة أبي نواس.

أمّا الموقف الأخلاقيّ من الهجاء فيظهر، إضافة إلى الحلم الخاصّ بجرير (في فقرة النوع/ الجزء السابق)، في ترجمة ابن منير الطرابلسيّ (تـ 548 هـ في وفيات، مج 1 صص 156 ، 160) ، ويقول عنه ابن خلّكان إنّه كان شاعرًا رافضيًّا كثير الهجاء خبيث اللّسان، ونقل عن الحافظ ابن عساكر في “تاريخ دمشق” قوله: “حدّث الخطيب السديد أبو محمّد عبد القاهر بن عبد العزيز خطيب حماه قال: رأيت أبا الحسين بن منير الشاعر في النوم بعد موته، وأنا على قُرْنة بستان مرتفعة، فسألته عن حاله وقلت له: اصعد إليَّ، فقال: ما أقدر مِن رائحتي، فقلت: تشربُ الخمر؟ فقال: شرًّا من الخمر يا خطيبُ، فقلت له: ما هو؟ فقال: تدري ما جرى عليَّ من هذه القصائد التي قلتها في مثالب الناس؟ فقلت له: ما جرى عليك منها؟ فقال: لساني قد طال وثخُن حتّى صار مدَّ البصر، وكلّما قرأت قصيدة منها صارت كُلاّبا تتعلّق في لساني، وأبصرته حافيًا عليه ثياب رثّةٌ إلى غاية، وسمعت قارئًا يقرأ من فوقه (لهم من فوقهم ظللٌ من النار) ثمّ انتبهت مرعوبًا..” تتحوّل وحدة الترجمة في رسم شخصيّة الشاعر إلى تجميع السمات السلبيّة فهو، في الشعر، هجّاءٌ خبيث اللّسان وفي النحلة رافضيّ وهو في المحلّ الأدنى بدليل قول الرائي له: اصعدْ إليّ. وكان من الممكن أنْ تكون اللّغة أقرب إلى الحياد كأنْ يقال: كان شاعرا شيعيًّا أو متشيّعًا كثير الهجاء. وتأتي حكاية الحلم لترسّخ تلك الصورة السلبيّة من خلال صورة القصائد تنقلب على صاحبها كلاليب تتعلّق في لسانه الذي طال مدّ البصر. هذه الصورة الكابوسيّة يصدّق عليها صوت الهاتف فيُحشر الشاعر في النار. الموقف العكسيّ لهذا الحلم الكابوسيّ نلمحه مثلا في قصيدة رثائيّة تولد في الحلم. في ترجمة الصاحب بن عبّاد رأى بعضهم في المنام قائلاً يقول له: لِمَ لَمْ تَرْثِ الصّاحبَ مع فضلك وشعرك؟ وحين ردّ عليه بأنّ محاسن الصاحب قد ألجمته فلم يدر بأيّها يبدأ، استجازه القول:
ثوى الجود والكافي معًا في حفيرةٍ

فانفكّت عقدة لسان الشاعر وولدت مرثيّة الصاحب في المنام (وفيات، مج 1 ص 228 ).

ومهما تكن الوظائف التي تنصرف إليها أحلام المدوّنة فإنّها لا يجب أنْ تحجب عنّا عمليّة التوظيف التي يعمد إليها مؤلّف الترجمة، فهو لا يورد، مهما ادّعى من موضوعيّة تاريخيّة وحياد علميّ ومهما طُرحت التراجم نفسها وثائقَ تاريخيّةً تقوم على إعادة إنتاج الأعلام، إلاّ ما يخدم النموذج الثقافيّ الغالب والسلطة الفكريّة والسياسيّة المهيمنة. وهذا يظهر، عند تحليل الخطاب وآليّاته السرديّة، في طمس شذرات سيريّة غير مرغوبة بتعتيمها لغويّا وفي إشهار شذرات أخرى عبر توسيعها وتفصيل القول فيها. وهكذا كانت خطّة المؤلّفيْن في توظيف المادّة الحلميّة في “الوفيات” و“الوافي” و“النكت”، وعلى الفوارق بينهما، تشفّ عن ترابط الموقف الفكريّ بالخطّ الثقافيّ والذوق الأدبيّ القائم.

نحو مزيد الانخراط في أدبيّات المخيال والمفتريات
يمتح أدب التراجم، كالأجناس الشبيهة مثل أدب السير والمغازي والطبقات وأدب المناقب والرجال، من قوانين التأليف التاريخيّ، ولكنّه ينشأ، في حقيقة أمره، إلى جانب الهاجس النسابيّ الذي يسعى إلى تثبيت شجرة “الأمّة”، عن باعث حضاريّ يستهدف غاية تعليميّة إصلاحيّة هي حمل المسلمين على أنْ يسيروا سيرةَ السلف “الصالح”. يرتدّ الباعث على هذه الكتابة، إذن، إلى فكرة أساسيّة مؤدّاها أنّ تاريخ الإسلام من صنع أفراد أسهموا في تشكيل ثقافته المخصوصة، وأنّ هؤلاء الأفراد، وليس الحكّام، هم الذين يمثّلون بحقّ قوى المجتمع الفاعلة، وأنّ أعمالهم ينبغي أن تسجّل للأجيال التالية.

ومن هذه الزاوية يتقاطع النصّان السيريّ والحلميّ لجامع التهذيب الأخلاقيّ والتعليم والإصلاح والحثّ على الفضائل وتبرير طرائق السلوك والأخلاق. وإذا كان الحلم عمومًا نصًّا سرديّا فهو في التراجم المدروسة نصٌّ سرديّ أصغر يتمّ توظيفه داخل بنية نصّ أكبر هو الوحدة السيريّة ليكون فيها وحدة دلاليّةً في سلسلة الأحداث. إنّ تركيب النصّين يُنشئ نصّا واحدًا جمعًا يتداخل فيه التاريخيّ بالمتخيّل الخوارقيّ أو إنّ الخياليّ يغتذي فيه على الواقعيّ. على أنّ الحلم لا يكتفي بتفسير التاريخ أو الوقائع تفسيًرا جديدًا بل يبتكر التاريخ والواقع ابتكارًا، ثمّ يدرج هذا التاريخ الاستيهاميّ في سياق التاريخ الواقعيّ ويمزجه بالسحريّ المتخيّل، فما يصنعه الحلم هو تفكيك الواقع ثمّ إعادة تركيبه عبر المؤالفة بين الواقع والخيال وبين الحقيقة والحلم وبين الوعي واللاّوعي. الهدف من هذه المؤالفة مزدوجٌ هو السيطرة على الواقع من جهة وخلق متعة سرديّة لم تكن بمنأى عن سياسة ابن خلّكان أو الصفديّ في التأليف.

هذا السياق قادنا إلى أنّ التراجم أو السير في العصر العربيّ الوسيط ينبغي أنْ يُنظَر إليها لا على أنّها مجرّد بيانات جافّة خرساء، وإنّما يُنظَر إليها على أنّها نصوص تضجّ بالحياة وتحتشد بعبارات التقريظ والتعريض والجدل. ولقد اخترقت الأحلام بنية الثقافة العربيّة انطلاقًا من البنية الدلاليّة للّغة، لتنسرب في بنية النصوص السرديّة، ومنها إلى مفهوم النبوّة ونظريّة المعرفة حتّى تصبح، في الأخير، أداة أيديولوجيّة للخطابات تسعى بها لتحقيق مشروعيّتها المعرفيّة في علاقتها بالخطابات الأخرى، وفضاء يعكس المجادلات المذهبيّة والدينيّة والأدبيّة والاجتماعيّة.

فالحلم يجاوز حضوره النصّيّ في الثقافة العربيّة ليكون “عنصرًا مؤثّرا فاعلاً في تشكيل بنية الوعي المنتج لأيديولوجيا السيطرة، فيتصدّى الوعي الضدّيّ معتمدًا على العنصر نفسه – الرؤيا – من أجل إنتاج أيديولوجيا مضادّة” (نصر حامد أبو زيد، الرؤيا في النصّ السرديّ، فصول خريف 1994 ص 105 ) ومن هذه الزاوية يتّضح أنّ الأحلام تخضع للمؤثّرات الثقافيّة، فليس من الممكن فصل البشر وأحلامهم عن البنية الاجتماعيّة التي ينتمون إليها أو يعيشون فيها، فيجد تفسير الحلم جذوره الجماعيّة في أوضاع اجتماعيّة ثقافيّة مخصوصة. ضمن هذا الإطار يُفهَم توظيف الأحلام في كتابة تراجم الوفيات في سياق ثقافيّ محدّد، هو سياق ذهنيّة العصر، حيث دأب القدامى على رواية أحلامهم ومنامات بعضهم حول بعض. ما إنْ يموت الفرد منهم حتّى يراه أحدهم “فيما يرى النائم” ليسأله ذيْنك السؤاليْن الكبيريْن: ما صنع اللّه بك وبِمَ غُفر لك؟ الإجابةُ تهمّ الأديبَ والمؤرّخ وكتّابَ التراجم أيضا، فيقع التأريخ للأحياء وللأموات جميعًا، ويُصَفّى الحسابُ مع الاتّجاهات الدينيّة والثقافيّة السائدة. بل إنَّ آليّة المنام، في ذهنيّة القدامى، امتدّت إلى عالم الحمير. روى أبو العنبس للخليفة المتوكّل أنّه رأى حماره بعد موته “فيما يرى النائم” وقال له: يا حماري. ألمْ أبرّد لك الماء وأنقِّ لك الشعير وأحسن إليك جهدي؟ فلِمَ متَّ على غفلةٍ؟ وما خبرُك؟ فإذا الحمار قد مات عشقًا في أتانٍ حسناء أخذت بمجامع قلبه، وترك فيها شعرا منه: هام قلبي بأتان/عند باب الصيدلانيّ

( انظر مروج الذهب للمسعوديّ ، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد، ط 4 1964، 1965 ج 4 ص 93 ). على أنّنا، متى أنعمنا النظر، وجدنا أنفسنا أمام انقلاب خطير في الاستراتيجيا الخطابيّة للنصّ السيريّ والنصّ الحلميّ كليْهما، فالبنية الفكريّة العميقة التي وجّهت وضع التراجم هي الرغبة في إضاءة الأفكار والنصوص من خلال فهم العوامل الخارجيّة والذاتيّة التي حفّت بالأعلام، أيْ أنّ هذه الرغبة يوجّهها إيمانٌ بأنّ الحياةَ تُفسّر الأثرَ، ولكنْ من المفارقات أنْ صارت الحياة تُبْنى من خلال الأثر وصار أثر الشخص يسهم في تسطير حياته لا العكس كما كان يُرادُ في المنطلَق. أمّا الحلمُ الذي يُساق في البيانات السيريّة علامةً للمرئيّ تضيء وتكشف حياته في عالم المعاد فينقلب، هو الآخر، ليكون تعبيرًا عن رغبات الحالم ومخاوفه ومشاكله وهمومه وآماله أيْ إنّه ينقلب من الدلالة على المرئيّ إلى الدلالة على الرائي.

إنّ تحويل الحلم من عالم استعاريّ إلى عالم حقيقيّ، أو من عالم اللاّوعي إلى عالم الوعي، لم يكن يعنينا منه زاويته النفسانيّة الصّرف La Psychanalyse بقدر ما كان همّنا متعلّقًا بسياقاته اللّسانيّة والسيميائيّة والتداوليّة في آن واحد. ولقد انصبّ اهتمامنا، في الدراسة، على بنية النصّ الحلميّ ونظمه في سياق النصّ السيريّ أكثر من الانشغال بالزاوية الموضوعاتيّة Thématique ، وهذا أمرٌ قصدنا إليه من أجل التنبيه إلى أهمّية هذه النصوص التي تتقاطع فيها سمات العمل التأريخيّ من ضبط وتحقيق في التواريخ مع مقوّمات النصّ الفنّيّ. ولعلّ الاطّلاع على تاريخ العقليّات والمخاييل الجماعيّة السائدة في مرحلة تاريخيّة معيّنة كما تعرضها اختيارات كتب التراجم جدير بدفع الباحث المعاصر إلى مزيد الانخراط في أدبيّات المخيال والمفتريات Fiction بعبارة كمال أبو ديب ، فلقد بات الاعتقادُ، اليومَ، أنّ للمخيال خطرًا وأهمّيّةً في صنع التاريخ، وأنّ التاريخ لا تحرّكه الأحداث المادّية الواقعيّة التي جرت وحسْبُ، وإنّما تحرّكه وتصنعُه، أيضًا، الخيالات والأحلامُ التي تصاحب هذه الأحداثَ عادةً أو تسبقُها أو تأتي بعدها.


مختار الخلفاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى