عصري فياض - إياد والرحلة المؤجلة

في هذا المخيم، الاطفال يحدقون طويلا فيما يجري حولهم، وكأنهم يعبئون الذاكرة الغضة في الصور التي تحاكيهم ،ولا يفهمون ترجمة حروفها، أو حل الغازها، واذا ساروا في الطرقات يبطئون، لأن أقدامهم الطرية تتحسس شوك الواقع بالفطرة البريئة،هكذا هو حال إياد، الذي دخل ربيعه السابع على وقع دموع أمه التي ثكلت شقيقها المقعد يوم الاثنين الاخير من عام الطوفان الاول
قالوا له ، لقد استشهد خالك،بلع ريقه، وانزوى إلى ركن المنزل يبكي، قفزت الى ذاكرته هواجس توحي له بإمتلاك القوة، قال " لو استطاع خالي الركض..... لو استطاع القفز ....... او الاختباء ...... لما سالت دموع امي..."
*******
مركز الشباب الاجتماعي" النادي الرياضي" ، لا يبعد عن منزلهم سوى بضعة أمتار، هناك حدث ما ، تقدم ... شاهد من خلال بابه الواسع جمهرة من الشبان والفتيان، وسمع أصواتا صاخبة تجلجل في قاعته الكبرى ، دفعه الفضول، فتقدم أكثر،وإنسل بجسده النحيل بسهولة إلى الداخل، شبان من كل الاعمار ينتصبون بإنتظام ،يرتدون زيا موحدا ويقومون بحركات منتظمة بإيعاز من ذلك الرجل الحازم القوي الذي يقف أمامهم ... قبضات وركلات فنية متقنة،وصرخات تهدر من عمق الجو تدل على عزيمة وتحدي ...إنها ضالة طفولته كيف السبيل للالتحاق بتلك الدورة ؟؟.... سأحدث ابي ، حتما سيقبل....
عاد إلى المنزل على عجل،ورجع إلى النادي بعد نصف ساعة بصحبة والده ليجد المدرب قد أنهى التمرين ،وهم بالصعود إلى السيارة،وحتى انتهت عبارات المجاملات ،كانت إيحاءات الموافقة تحبس في نفسه فرحا عميقا يدفعه للعودة سريعا للمنزل،يقلد ذلك الجمع الذي سينضم اليه بعد أيام......

********
عندما اندفع الطوفان الثاني ، كان اياد قد بلغ سن الرشد لتوه مسلحا بقوتين،الاولى روحية اكتسبها من بيوت الله،والثانية درجة متقدمة من فنون الدفاع عن النفس،واللياقة العالية التي أهلته لنيل الحزام الاسود بمرتبته الثانية، وقف على قوتيه يشهد مسيرات الراحلين إلى الخلد في الشوارع ،إنفجرت في نفسه احزان الماضي،... من يوقف الدموع... من يحمي ذبالة هذه الشموع ، غير ارواح بأجساد قربانية، سأنضم إلى تلك الطليعة ،أمتشق قوتي وأحمي ربيع المخيم من العاصفة العاتية،سألتحق بتلك الثلة التواقة للسفر في عربات القطار الاخضر، الشيخ محمود وعبد الرحيم وشادي ، تعاهدوا جميعا وتسامحوا وقضوا حتى التاسع من الاعصارفي ذلك المنزل يتحدون العاصفة، صاموا وتناولوا الافطار في كسيرات من الخبز ، وقطع صغيرة من الحلوى،وهم مصممون ان يكون هذا المنزل الذي يكمنون فيه محطتهم الاخيرةلاستقبال العربة القادمة من الجهات الاربع، .... إنتصف الليل... هدأت العاصفة قليلا ...فجأت زعقت الغربان بحمم النار صوب المنزل، دوى انفجار ...ظلمات في قلب ظلمات ودخان وغبار وبقايا لهب، ... عاد اياد ،صافح شادي الذي فقد الكلام ، وصرخ:- اين المفتاح ؟؟
اشار شادي حيث كان ،وقبل ان يكمل، دوى انفجار آخر ...،طار اياد امتارا في الهواء....لكنه استجمع قواه وزحف رغم جراحه،...رأى بريق السن الذهبي لعبد الرحيم يلمع في عمق الابتسامة، ولمح نورا في محيا الشيخ محمود، وابصر الطفولة الملائكية النائمة تشدو التراويد لشادي ... بكى بحرقة لأنهم رحلوا وتركوه ...لانهم ركبوا القطار ولم يأخذوه .......، دوى انفجار ثالث ،فطار بجسده المثخن المحترق عبر النافذة المحطمة وقد فقد حواسه ،وزحف ألى اسفل الدرج العنيد قبل ان يغط في غيبوبة طويلة .


********
أفاق اياد بعد أسابيع من غيبوبته وصدمته،وحاله حال الحسرة والشعور بالخسران،كان يصلي ركعات في جوف الليل يناجي ربه بدموع صافية تلمع على وهج القمر،... قرر ان يبحث في كل المحطات عن ذلك القطار الذي يأتي دون موعد...،ساقته الاقدار الى قلب المدينة في جوف ليلة الجمعة، سمع صوت سكة الزعفران تشدوا..... وسمفونية القطار الجميل تقترب،إستعد وقال في نفسه :- لن تفوتني هذه الرحلة
استجمع قواه ، فقز ........ كبّر .......... عزف لحنه الاخير ..... نالته الحبات الاولى ،فإبتسم وهو يشعر بيديه تحتضنان بوابة العربة المرتقية إلى الاعلى ،إلى الشيخ محمود ... وعبد الرحيم وشادي ...... وكل المحظوظين في هذا الزمن القاسي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى