إيهاب الورداني - الركض على جدار أملس

دفعتني خارج دائرة الماء المتساقط واتخذت مكاني .. انكمشت للحظة ، وسرعان ما عادت لما كانت عليه .. فرسا تصهل وتتراقص ، ردت غضبي ببسمتها المبللة وبيدين أحاطتا عنقي في ضمة ليست طويلة .. ففكرت أن أشبع نظري بما قد أرى ..
جلست مكاني .. كما أنا مفترشا البلاط .. بين الحين والحين تنالني بعض القطرات المتقافزة فوق المنحنيات .. فأفتح العينين على آخرهما .. هل هذه زوحتي .. ؟
يهطل ندى الصباح ، يغسل الأوراق ، يبل ريق الجذع المتشوق دوما للماء ، تنثال أشعة الشمس ، يمتزج اللون الأبيض ، الذهبي باللون الأخضر اللامع في ألق باهر ، تصحو الطيور، تنقر في دلال بعض ما تعلق بالوريقات ، تنسل في رقة نسمات طرية تزغزغ الجسد المنهوك ليبدأ صباحه الجديد.
ضربت يدها في صدري : مالك يا رجل . من يراك لا يصدقك من دقائق !
- أراك أخرى !
سريعة ، مدببة ، رميتها دون وعي .. فتغير لونها كما تغير السماء زرقتها بين ثانية وأخرى في صباح شتاء. لكزتني نظرتها : صنف الرجال لا يملأ عيونهم إلا التراب
قلت آسفا : لا أقصد
- أو تقصد..
قالتها وهي تلف البشكير حول جذعها ثم انحنت لتعصر الشعر المبلول وتعقده في دائرة فوق الرأس ، وتركتني . تولد داخلي إحساس بالبلاهة ، ورأيتني أصغر كما لو كنت طفلا .. ما أقسى أن تكون غبيا ! أنا الشاعر والمفتون السارح في ملكوت النساء – كما كنت أعتقد – السابح في نهرهن أقف عاجزا مبهورا في لحظة إشراق الشمس .. حتى لم أقل : الله .
كانت أمام المرآة .. تخط بقلم الرموش عينيها وتعض على الشفتين عضاتها الخفيفة لتشرب الزبدة .. ما أن رأتني عبست وتراجعت عنى .. أوقفتها برفق وأملت الرأس على كتفها وسكت .. قطفت لي وردة وناولتني إياها ..
صوصوت عصافير العيون فوق الأهداب المشرعة .. كان القمر يستحم في بحيرة المدى ..
وعلى البعد ترى ، الجنيات النجوم ، تحرسنه على أهبة الأستعداد
ستظل هكذا طويلا؟
قالتها مرتين وحين انتبهت زادت : تأخرنا .. ألبس أم هذه المرة – أيضا – كسابقتها؟
وضعت سبابتي على فمها وبنفس السرعة على خدها وضعت قبلة .. واختفت.
الماء المتساقط لا يزال ، في وشيشه دفء ، وفي عناقه حب ، وعند التملص من تحت سمائه رعشة واصطكاك، وما بينهما ابتسامة تعلقت في حافتها صور كثيرة تروح وتجئ أغلب الظن أنها لزوجتي ..
قلت متلذذا : ما المانع أن تروحا عن نفسيكما وتذهبا إلى المدينة ؟
في المدينة كل شئ ملون .. واجهات البيوت ، زجاج الفاترينات ، ألوان السيارات .. الوجوه – وجوه النساء وبعض الرجالات .. المدينة زوجتي.
قلت : لنفعل
قالت : لم ؟
قلت : طلبك
قالت بسخرية : الأول أم العاشر !
غاظني تأنيبها قلت مهددا : أرجع في كلامي .
رشقت في عيني نظرة طويلة حادة ومدببة ..
قالت : عادتك لست بشاريها .
كان الدولاب على يسارها .. فتحت ضلفتيه وتحسست فساتينها .. وشدت واحدا
قالت : يعجبك ؟
مرة أخرى أستعيد ملامحها وهي تدفعني من تحت الدش .. وينتصب جسدها في عيني لدنا وطازجا قلت : الأصفر المنقوط بالحبات السوداء يرسل شعاعه الذهبي كما تفعل الشمس بالسنبلات ضحكت من قلبها وقالت : (آه منك) تقتل القتيل وتمشي في جنازته .. وخرجنا.
طارت العصافيرمن اعشاشها وحطت على ماء البحيرة الخضراء .. اهتزت أشجار التمرحنة والبرقوق . كانت نسمة من الجنوب في طريقها إلينا وكتفها بالكاد يلامس كتفي ..كان على ان أحاول أن أكون بحانبها وأن أحد كثيرا من خطواتي التي تعودت سيرها .. فمشيت وراءها أداعب وردي الذي على يدها ..
قالت : خذه منى
قلت : كيف ؟
قالت : أليس ابنك؟
قلت : هو أيضا ابنك
قالت : تعبت
قلت : أنت أمه
قالت : وأنت أبوه
وتطاولت الكلمات فأصبحت رؤوسا .. وتضخمت الرؤوس وخلقت أنيابا .. كانت المسافة بيني وبينها لا تتعدى الأمتار .. سمعتها تبرطم وخيل إلى أن عيون الشارع تتلصص علينا .. وقفت لبرهة : في الشقة أسمح لها أن ترفع عقيرتها للجدران .. في الشارع لا يجب .. تقدم .. ليست المدنية أن تساوى المرأة بالرجل ولا الرجل بالمرأة .. كذب الخراصون .. تقدم. حاول قدر الإماكان أن لا تفزع وردك أو تصيبه بأذى .. خذه منها برفق .. ضعه جانبا كيلا يراك بهدوء . أغمد يدك في حلقها .. هاهي تقترب .. تقترب .. استعد .
رأيت الدموع تسكن في عينيها .. كنت لا أزال في وقفتي : ليست المدنية أن يضرب الرجل امرأة .. تراجعت وتابعت سيرى.
قالت : كنت تتلهف لنخرج معا في نزهة ؟
وتنهدت وأمسكت يدى
قلت : وكنت تمسحين عذاباتي بطيب لقاك
قالت : ما أزال كما أنا .. ؟
قلت : وأنا ...
قالت : أصبحت خشنا وجافا.
قلت : وأنت لا تطاقين
طلقني إذن
نطقتها مرة واحدة .. كجمل الشتاء مع جمل الصيف.
احتقنت السماء بقطعان الجمال .. وغامت نوافير الأرض وتلونت .. تجمدت العصافير على الأفرع العرايا.
ارتعشت .. هالني أن تصبغ وجهها وتمسك بمفاتيح السماوات .. وأن أقف هكذا في ملكوتها أخرس مشدوها فزعا .. فرفعت يدى وهويت بها .. مرة .. مرتين .. ثلاثا .. عند الرابعة انزلقت كفى على ملمسها الناعم .. نشبت أظافرى – دون جدوى – فارتد الألم إلى .. حاولت ..
اتسعت المربعات البيضاء الناعمة وشكلت جدارا.. قلت وقد غاظنى – أنا – مما صرت فيه محملقا في اليد المحمرة والمرأة الجدار : وراء كل "رجل " جدار .. ما أن رأتنى ضحكت .. بان وجه الصباح الحليب.
قالت : لم تفعل ما يوجب استحمامك ؟
هجم فرس الليل على فرس النهار .. وزعت نظرى بين أقدام الخيول والسماء الدش وسكت .
قالت : تأخرنا .. ومضت ،،،



L’image contient peut-être : 1 personne, plante, plein air et gros plan
أعلى