إيهاب الوردانى - ورد.. قصة قصيرة

هزته للمرة الثانية . ولما تقلب في نومته قالت بصوت خنقه التعب : الساعة كام ؟

مد يده إلى : الكمودينو " .. تحسس موضع ساعته حتى وجدها بأقل ما يمكن أن يرى رمش بعينيه : الساعة واحدة ونص .

طرحت يديها خلفها واتكأت عليهما .. مدت رجلها اليمنى ، عادت ولمتها تحتها .. فردت اليسرى .. جزت على أسنانها .. خرجت الآهة ممطوطة ضعيفة ، أعقبتها بدعاء يارب.

" كنت أشعر بما تعانيه ، وفي سري أدعو معها .. لكن ماذا في يدي أن أفعله؟!

عشنا – معا – شهوراَ ننتظر هذه اللحظة التي أوشكت وكثيراَ ما حلمنا بها واختلفنا فيها .. أقول بنت .. تقول ولد

أتمنى البنت حتى تكون في جمال أمها : العينان الخضراوان الواسعتان كبراح الغيط ، الجسم المفرود المصبوب كأشجار السرو .. الشعر المطروح على الظهر كأوراق الصفصاف تخرج لسانها وتقول : ولد

أقول : قصير ورأس كبيرة وشعر مجعد .. وعينان سوداوان فيهما واحدة أضيق من الأخرى تقطب حاجبيها وتقول ولد.

أخشى أن أتعلق بالولد فتأتي البنت وتكسر كل أعمدة الأحلام في داخلي .. أخي له بنتان وعلى أن أروض نفسي لمجيء البنت الثالثة.

كانت الصرخة أكبر من أن يتحاشاها أو يسد منافذ أذنيه في وجهها .. اعتدل في جلسته محملقا : الوجه أصفر كالليمونة والعينان باهتتان لالون فيهما .

قال وقد أشفق لحالها : شدى حيلك أمال .. أمسكي نفسك.

كمن نضبت منابع الصوت فيها قالت : ال ..ح..ق..ني "

في لمحة هبطت السلم .. من على آخر درجة رميت نفسي على الباب .. فتحت أمى مشعوفة : خير يا بني .. خير!

فزعى غطي على فرحة اللحظة : مراتى يا امه .. انهضيها.

قبل أن أكمل ، كانت تصعد السلم على يديها وقدميها وهي تقول :

ــ ما تخفشي البكرى كدة .

حين رأتنا خفت صراخها .. لكنها طوحت رأسها يمنة ويسرة كأنها تعصر في داخلها ألمها .. قالت أمى ونفسها لم يزل مكروشا : إيه يا بنتي .. حسه بإيه.

نظرت إليها كأنها تستعطفها .. رمت رأسها في حجرها .. ثم تلوت صارخة ..

قالت أمي وهي تمسح عرقها وتطبطب عليها : انده للدايه يابني.

سابق قدميه .. كان يشق بهرولته قمصان الشوارع المبللة .. عند انحناءة شارع "الضوينة" جرت قدماه في ماء مدلوق لم يجف بعد .. جرى خلفه كلب أيقظته الهبدة مزجراً .. احتمى بضريح "سيدي فايد" .. نذرت أمه دستتين شمع وعلبتين أرز لوكان القادم ولدا "

دفست وجهي في راحتي .. دفس أخي وجهه في حجر أمي ونهنه كامرأة :

ــ بنت تاني يا امه.

مسحت أمى دمعتها بطرف كمها وقالت مواسية : البنت خيرها في رجليها يا بني.

ولم تتمالك .. أختي الكبرى تلد بناتا .. أخي الأصغر" المتزوج قبلي" يرث بناتا .. والدور عليك .. عليك . حادي ، بادي ، بنت .. بنت ولد .. بنت بنت بنت ..

حين صفع الهواء أذنيه وجبهته وتسلل قليل منه حول رقبته ارتعش . كمن يواسي نفسه قال وهو يهدئ من خطواته المضطربة ويجرجر المرأة السمينة عائدا :

ــ وأنا بإيدي إيه .. ولد بنت .. كله خير

وحينما عبرا ساحة الضريح ووصلا المقام .. التفتا تجاهه وبدأ في قراءة الفاتحة .. غمغمت المرأة السمينة : مدد يا سيدي فايد . بيض وشي المرة دى ..

وواصلا المسير.

نسوة كثيرات يتحلقن السرير .. بين الفينة والأخرى تردد جدران الحجرة أصداء صرخة ملتاعة .. تقفز كل العصافير في رأسي .. تحط على عربة بيضاء ، يشطرها شريط أحمر أغمض عيني .. تخترق الآهات والدموع كمسامير جلدي.

( لابد من فتح بطنها .. ربنا يستر .. ضحينا بالجنين من أجل أمه .. البقية في حياتك عليه العوض ومنه العوض ) تنشف قنواتي .. تتشقق أرضي .. تجرى السحالي والثعابين فرادى وجماعات .. تتوارى الثعالب والدببه خلف أشجار الطرفة وحشائش الحلفا . تنعق الغربان فوق أشجار السنط، ينخر السوس أشجار السرو والصفصاف والتوت .. تسقط عصاى تساقط أعضائي تباعا .. تدوس امرأة بكل عزمها في لهوجتها على الجزع الأخير منى .. أفتح عيني .. أغمضهما ، أفتحهما مرة أخرى .. كانت تتعلق به كأنما تستمد منه القوة لمجابهة الدفقات المتوالية في عنف بينما تخرج صرخاتها ما بين الشدة والضعف والمرأة القاعدة عند أطرافها المضمومة إلى الصدر تدعك بيديها وتدلك . بعد أن وضعت فصا من البصل اتجهت ناحية النسوة الواقفات تترقبن المجيء : - لو شمه الطلق ح يروح.

بعيون حانية تطلعن إليها وانتظرن .. كأنما الدفقة تدور في فلك الجسد المنهوك وتعصره صرخت.. فزعق معها المضغوط من هول الضغطة .. تعالت الدعوات والتمتمات بشىء من البسمة .. قالت المرأة السمينة بغضب : دلع البكرى ماحبوش .. اشتدى ثم تحولت ناحيته : فز يا رجل قوم ..

كنت في حاجة فعلا إلى فرمان العفو الصادر .. ليس مهما ممن .. لكنه صدر .. تملصت من عيني زوجتي وخلصت يديها .. وأغلقت باب الحجرة على .. هزني وجعها والجلبة التي تحدث. تلصصت من فتحة ضيقة .. كانت تروح جيئة وذهابا والنسوة خلفها كجوقة مع تأوهاتها تزداد تمتماتهن. مشت كطفلة تحبو.. أكملت الشوط السابع .. وقفت ، استندت على كرسي .. تهز المرأة السمينة جزعها. اخفيت وجهي .. قال أبي : لو تعرف كم تحملت أمك ما أهنتها. أشيح بيدى في غضب.

- كل النساء حمقاوات .. ثم أنفجر مغيظا : مخها ضيق.

يضحك أبي .. يزجرني بدلال : عيب يا ولد . هي أمك.

ترمقني عيون القطط . من اليوم لن أهينها . ولن أنهر زوجتي ، ولن أدع ابني يزجر أمه.

ترى هل يجىء؟!

لما سمع صوت أمه تبكي خرج مسرعا .. اقتلعه حزنها والوجوم الذي حط رحاله على الوجوه. غلف الحنان صوته الآمر : كفاكي بكا يا امه.

وبكى على صدرها .. قبلت رأسه متضرعة : يا رب.

كأنما فتحت السماء أبوابها انفجرت بوابة الحياة : فاستقبلت – واحدة من الواقفات – القادم بصراخه بزغرودة .. تلتها زغرودات.

قبلت أمى من عينيها .. زادت حركة النسوة خفة، قرأت الفاتحة والمعوذتين واللفة في يدي .. قالت القابلة : ادن في ودنه اليمين.

تلعثمت .. كانت العينان السوداوان الصغيرتان تنظران إلى .. وضعته في حجرها بسرعة وابتسمت ..

آه .. هو ذا أنت يا أبي تعود من جديد .. الشمس في يمينك والقمر في يسارك وتحت أقدامك سأكون لك – كما كنت لي – حصانا وسيفا وشجرا.

هزتني القابلة بشىء من التودد : إيدك على البشارة.

وكأنما تغريني غطت وجهها بابتسامة لينة بلون السماء : ح تسمى إيه؟

قال أبي : الأطفال على أسماء أجدادهم يولدون.

ثم تمتم : هو منى وأنا منه.

تمالكت نفسى .. أكاد أسمع ضربات قلبي وخفقانه، وأرى احمرار وجهى ..

قلت وعيناى معلقتان بأبى : ورد .. سموه وردا.
أعلى