مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي.(6 شمعون ويوئيلا!

"انصرف عارف وتركني في صراع مع تحليله لنص قصة الخلق التوراتية ، التي نشأت عليها دون أن أفكر فيها . . هل يعقل أن لا يريد الخالق معرفة للإنسان الذي خلقه ؟ وهل يعقل أن يضع سر المعرفة في شجرة ؟ كيف غابت كل هذه الأسئلة التي طرحها عارف عن بالنا ؟ هل نحن حمقى أم ماذا ؟ لماذا نتقبل كل ما نقرأه في التوراة ونسلم به كحقائق منزله ، بينما شخص كعارف يفكر فيه ويخضعه للعقل والمنطق؟ هل يمكن لخالق أن يكون على هذه الصورة التي صوره عليها كتبة التوراة . وهل يمكن لخالق لم يكن يريد معرفة للإنسان أن يمنحه أرضا ، طالما أنّه ضنّ عليه بالمعرفة ؟! لا أظن أنّه سيهدأ لي بال قبل أن أعرف كيف يفهم عارف الخالق ، فلقد استطاع هذا الرجل أن يثير فضولي لمعرفة الخالق رغم عدم تديني "!

ألقيت نظرة على البندقية .أخذتها بيدي ورحت أتأملها، في محاولة للخروج مما يصطرع في مخيلتي. حشوتها بخرطوشتين ونهضت . وضعت حزام الطلقات على وسطي، وانطلقت عبر الوادي عائدا إلى البيت، مترددا في البحث عن صيد ، مكتفيا بما قد ألقاه في طريق عودتي.

كنت سائرا وأنا أفكر في كلام عارف ، وفي الغاية التي ينشدها المسؤولون من معرفة عقله، وكيف يفكر وماذا يريد ، حين برزت لي حجلتان تدرجان في حنواء الوادي على مسافة أمتار أمامي . توقفت وأنا أهيئ البندقية لإطلاق النار. الغريب أن الحجلتين لم تفرّا ، وكأنهما لم تتنبها لوجودي . توقفت إحدى الحجلتين على صخرة فيما تابعت الأخرى درجها .. سددت البندقية نحو الحجلة الواقفة، وهممت للضغط على الزناد ، وإذا بصوت عارف يصدح في مخيلتي : إيّاك ! لم أضغط على الزناد، وظلت الحجلة واقفة وكأنها تدرك أنني لن أطلق النارعليها ، وربما تدرك أن رعاية عارف تحيطها وتحفظها. رحت أخفض سبطانة البندقية شيئا فشيئا ، مترددا بين اطلاق النارأو عدم الإطلاق ، وكلمة عارف تتردد في مخيلتي ثانية : إيّاك ! ولم أجد نفسي إلا وأنا أتخلى عن إطلاق الناروأعيد وضع البندقية إلى جانبي. قفزت الحجلة عن الصخرة وتابعت درجها في أثر رفيقتها ..

*****

تأوهت راحيل متعجبة وهي تقف إلى جانب باب الشقة وتراني أعود بالبندقية وليس معي صيد :

- اوها! عدت بالبندقية دون الصيد ، لعلك خبأت الصيد في الجبال بدلا من البندقية هذه المرة ؟!

تجاهلت سخريتها وطرحت البندقية جانبا وهممت للدخول إلى الصالون . قالت :

- ساجام شيمون وصديقته في الداخل.

- اوه! هل تذكرنا الضابط أخيرا ؟

دخلت . صافحت شمعون ثم صديقته يوئيلا حسبما قدمها لي . كانا بالزي العسكري.

- تبدو متعبا آب!

هتف شمعون .

- إنها الشيخوخة آبا!

- بعدك شباب آب !

- ولّى الشباب إلى غير رجعة . ما أخبارك آبا .

- أنا بخير آب واتفقنا على الزواج أنا وصديقتي يوئيلا.. المصرية.

أضاف المصرية بعد تردد وكأنه مدرك لما يقوله عن جنسية يوئيلا. تساءلت بدهشة :

- مصرية ؟!

- آجل آب أقصد من أصل مصري ما الغريب في الأمر؟

- ليست من أصل يهودي أو اسرائيلي، بل من أصل مصري، هذا يعني أنها تنتمي إلى مصر وليس إلى اسرائيل !

- آب ألم يحضر يوسف أباه يعقوب وأخوته ليعيشوا معه في مصر، ليتكاثر بنو اسرائيل هناك طوال أربعمائة عام .. لقد أصبحنا مصريين وشاركنا في بناء أعظم أهرامات في العالم ، ثم إن اليهودية دين وليست قومية ، وكان هناك في مصر دين آخرغيرها .. ولو أتيح لنا أن نحقق اسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ، قد نغير اسم الدولة إلى " امبراطورية مصرالإسرائيلية " أو ما شابه ، ونعيد مجدنا القديم ونبني أعظم امبراطورية وأعظم هرم في العصر الحديث !!

- تعتبر أننا مصريون لأننا أقمنا في مصرأربعمائة سنة في زمن قديم ، حسب ما تذكر التوراة ، فماذا تعتبر الفلسطينيين الذين يقيمون في فلسطين منذ أكثر من أربعة آلاف عام ، أليسوا أصحاب وطن ؟

- أصحاب وطن ؟ ويقيمون في فلسطين من أربعة آلاف عام ؟! منذ متى تطرح تساؤلات كهذه آب؟!

- منذ أن اعتبرت أننا مصريون بناء على إقامة مندثرة في جوف التاريخ ، هذا إن صحة مقولة التوراة ودخلنا مصر فعلا ؟ وإذا ما عدنا إلى مؤرخي التوراة ، سنجد أنهم يذكرون أننا غزونا أريحا عام 1186 قبل الميلاد بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى ، ودمرنا أسوارها العالية ، وكان هذا الدخول بداية غزونا لفلسطين . السؤال آبا ! إذا كانت أريحا حسب ذلك التاريخ مدينة ذات أسوار ، فألا يعني ذلك أن الحضارة نشأت في هذه المدينة قبل ذلك الزمن بكثير ، وربما تكون من أقدم مدن العالم التي نشأت فيها الحضارة بتدجين المواشي واكتشاف الزراعة وبناء المدن .

وهنا عقبت يوئيلا مضيفة :

- بل إن أريحا دود حسب بعض المراجع الأركيولوجية هي أقدم مدينة مكتشفة في التاريخ تم فيها تدجين المواشي واكتشاف الزراعة ، منذ أكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد!

- تودا يوئيلا. قولي لشيمون ذلك .

- لا أعرف ما هي مناسبة فتح صفحات التاريخ الآن ؟

عقبت راحيل لأرد عليها :

- قولي لابنك راحيل الحالم بالهيمنة على العالم!

- لم نخلص من العرب في اسرائيل حتى يتسنى لنا الهيمنة على أراض أخرى!

- سنخلص مام وأقرب مما يتصور كثيرون !

ران صمت ثقيل بعض الشيء وقد توتر الجو بين الأسرة . ولو كانت سارة موجودة لكان التوتر على أشده !

"لم يعرف شمعون على أي وتر من أوجاعي يضرب! فشمعون يبدو وكأنه غير مبال للأمر، مع أنه يبدو في لاوعيه وكأنه يفضل الإنتماء إلى مصرأو العراق أكثر مما يفضل الإنتماء لإسرائيل ! وكان أبي يعاني من الإشكالية نفسها، فحرص على تعليمنا العربية وأوصانا بتعليمها لأبنائنا .آه كم أنت محق يا عارف نذير الحق . يا عارف الحقيقة الجاثمة في لا وعينا . أي قدر لعين هذا الذي شاء أن يضعنا مع خلطة بشرية من عشرات الأقوام والأجناس ؟! كل بيت يكاد أن يتحدّث من يسكنه لغة غيراللغة التي يتكلمها جاره، رغم فرض اللغة العبرية على الجميع . وقد نحتاج إلى ما يقل عن قرن قادم من الزمن لتشعر أجيالنا بقدر من التجانس والإنتماء الواحد، هذا إذا نعمت بالإستقرار في ظل عقلية الهيمنة والتوسع "

حاولت أن أخرج من شرودي لأجيب شمعون :

- بعيدا عن التاريخ ، أحلامك آبا تبدو صعبة المنال وإسرائيل تحيط نفسها بجدران عالية فوق الأرض وعميقة تحتها!

- آب هذه الجدران لن تكون حائلا بيننا وبين غاياتنا التي لم نتوقف عن العمل لتحقيقها يوما . انظر إلى الأمبراطوريات القديمة كيف كانت تحيط قاعدتها الرئيسة بكل أسباب المناعة والقوة، في الوقت الذي تهيمن فيه على أجزاء شاسعة من العالم . وهو ما تفعله اسرائيل وتسعى لتحقيقه . انظر كيف أوجدنا المبررات لتدميرشعوب الدول التي تشكل خطرا على اسرائيل . دون أن ينال دولتنا أية خسائربشرية تذكر، ودون أن تدرك الشعوب والدول أننا نديرالصراع ونحركه من وراء الستار!! قريبا سترى هذه الدول ضعيفة جدا ومهلهلة وعاجزة حتى عن تحقيق قوت شعوبها ، وستتوسل إلينا لننقذها من أوضاعها المزرية ، مما يتيح لنا الفرصة للإنقضاض والهيمنة بكل الوسائل الممكنة .

- وهل تظن أن العالم لن يكرهنا لذلك ، طالما هو ضدنا الآن ولا شك أنه يكرهنا .

- ليذهب العالم إلى الجحيم آب !

- رددنا هذا الكلام كثيرا ، وقد آن الأوان لأن نصحو . الأجيال القادمة ، لن تكون سعيدة بهذا الكره، وقد يكون أولادك أوأحفادك من بين هؤلاء ؟

- لا أصدق هذا التغير في عقليتك آب . هل أقنعتك سارة بأفكار جماعة السلام الآن ؟ أم أن أحد أفراد جماعة ناطوري كارتا قد تسلل إليك ليعبث بدماغك ؟

أقدمت راحيل على تغيير الجو حين جاءت من المطبخ بطبق كبير من المسخن تفوح منه رائحة البصل والسمّا ك ، ووضعته على مائده في منتصف الصالون . وهي تقول: مسخن اسرائيلي أصلي ولن أسمح لأي منكم أن يقول لي أنه طبخ فلسطيني !

******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى