محمود أمين العالم - عبدالرحمن الخميسي.. فــارس الإبداع والحريــة

عبدالرحمن الخميسي ظاهرة فذة في تاريخنا الأدبي – الثقافي المعاصر. ففي حياته وإبداعه تتلاقى وتتعانق، تيارات وأنشطة وأساليب شتى.
فهو شاعر كبير بغير شك، ينتسب شعره إلى مدرستين مختلفتين متداخلتين معاً، فهو من ناحية، امتداد لمدرسة أبوللو الشعرية، ذات الرؤية الرومانطيقية، وهو من ناحية أخرى واحد من المدرسة الاجتماعية، ذات التوجه الواقعي التي أخذت تتخلق وتزدهر في الأربعينات، وهو كاتب قصة ذات مذاق خاص يمتزج فيها أسلوبه الغنائي الشاعري، بأحداثها وشخصياتها الزاعقة المباشرة.
وهو مؤلف موسيقي ومسرحي وسينمائي وإذاعي ذو موقف وطني اجتماعي طبقي صريح حاد يستلم فيه التراث الشعبي، ويطوره موضوعاً وتشكيلاً.
وهو متذوق للموسيقى الكلاسيكية العالمية، عارف بأسرارها ومترجم لبعض أوبيريتاتها. وهو صاحب رؤية اجتماعية تقدمية للأدب والفن، وصاحب أسلوب لغوي خاص تعلو فصاحته وتجهر موسيقاه كما تتوثق وتتعمق تعابيره كذلك بالخبرة الحية للبسطاء من أبناء الشعب. وهو ذو نشاط سياسي واجتماعي عملي – ما أكثر ماعرضه لملحنٍ، واقتطع من حياته بعض سنوات في السجون.
وهو رجل عاش حياته بالطول والعرض والعمق والارتفاع. أحب كثيراً وتزوج كثيراً وأنجب كثيراً وسافر وتغرب كثيراً. وامتلأت حياته بالكثير من المسئوليات الجسام، والكثير من الأصدقاء والمحبين والمعجبين والتلاميذ. وتتضح كتاباته وممارساته بشبق غامر للحياة وحب عميق للإنسان، وغرام عنيف بوطنه مصر، وتطلع حار – بالغ الحرارة – إلى الخير والعدل والمحبة والحرية والابداع.
قد يكون لفقدانه المبكر لحنان أمه، وللدفء العائلي عامة ما يفسّر هذا التعلق الحاد المتعدد الأنحاء والأعماق بالحياة والفن.
وقد نجد هذه الإجابة في قول عبدالرحمن الخميسي نفسه في بعض كتاباته: "عندما ماتت أمي ومات أبي، قررت أن أطوف بكل بلدان القطر المصري، وأن امتزج بالناس في كل مدينة، وما دام الإنسان هو مادة الفن، فيجب أن أعرف إنسان بلادي. ولعل السنين التي أمضيتها في الطواف بكثير من البلدان قد وثقت ارتباطي بالبسطاء ووثقت حبي لشعب مصر، كما منحتني من ذخائر التقاليد الشعبية وطرائق التعبير البسيطة كنوزاً لا تقدر بمال".
ولا شك أن حياة عبدالرحمن الخميسي وإبداعه لهما هذا البُعد وهذه الدلالة الذاتية. ولكن عبدالرحمن الخميسي – في الحقيقة – هو كذلك ابن وفارس من أبرز أبناء وفرسان الاربعينات من حياة مصر السياسية والثقافية عامة.
ولست أغالي إن قلت إن الاربعينات هي مرحلة من أهم المراحل في التاريخ المعاصر لمصر. فهي سنوات التهيئة والمخاض لكل ماتوالد في مصر بعد ذلك من أحداث سياسية واجتماعية ومدارس أدبية وفنية. لم تكن الحرب العالمية الثاني آنذاك مجرد إطار خارجي [لا ناقة لنا فيها ولا جمل كما كان يقال]، بل كانت عاملاً ملهماً مؤثراً فعالاً في كثير من التحولات الداخلية بما كانت تحمله من أنباء وصراعات وقيم، وما كانت تفرضه وتفرزه من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية وكانت البيئة الداخلية الاجتماعية تعاني حالة من القلقلة الحادة.
فلقد أسهمت الحرب نتيجة لانقطاع الواردات في انعاش الانتاج الصناعي المحلي، وإلى نمو وتمركز الرأسمال الأجنبي والمصري، كما ضاعفت الحرب في الوقت نفسه من قبضة المحتل البريطاني ومن التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية لسلطانه. وفي المقابل لهذا، تفاقم إفقار الجماهير، واحتدمت المشاعر الوطنية المعادية للاحتلال، وتفجرت الصراعات الاجتماعية والطبيعية ضد الاستغلال والقمع والتبعية. وأخذت ترتفع أسئلة قلقة بين المثقفين بحثاً عن إجابة نظرية لفهم هذه التحولات الجديدة في الواقع المصري والعالمي، وللتسلح بهذه الإجابة لمواجهة هذا الواقع والسيطرة عليه. وأخذت الاشتراكية تتبلور كحلم موضوعي للخلاص يؤججه الصراع الديمقراطي العالمي ضد النازية والفاشية من ناحية والصمود والتصدي البطولي الذي يبديه الشعب الاشتراكي السوفيتي من ناحية أخرى ولقد استطاعت الطبقة العاملة المصرية آنذاك أن تنتزع حقها القانوني في التنظيم النقابي، وتكونت الحلقات الماركسية الأولى وراحت تباشر أنشطتها الثقافية والسياسية، وتؤثر في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية حتى داخل الأحزاب البورجوازية نفسها. وأخذت تبرز المنابر الثقافية المتمردة على الواقع والمنطلقة إلى الجديد، كالسيريالية والفوضوية والترتسكية والماركسية مثل المجلة الجديدة لسلامة موسى التي تسلم زمامها رمسيس يونان وجورج حنين وغيرهما وجعلوهما منبراً للحركة السيريالية، ومثل مجلة الشطور لأنور كامل التي كانت وسطاً بين السيريالية والماركسية، ومثل الفجر الجديد والجماهير، وهي من المنابر العلنية للمنظمات الشيوعية السرية، إلى غير ذلك، وتزداد الأفكار نضجاً وتزداد الأنشطة السياسية تحديداً وعمقاً جماهيرياً، ويتحقق لقاء نضالي تاريخي بين طلائع الطبقة العاملة وطلائع المثقفين الثوريين وتتشكل اللجنة الوطنية للطلبة والعمال التي تقدم برنامجاً شاملاً للتغيير الجذري السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتقود النضال بل الصدام المباشر بين الجماهير والاحتلال البريطاني وحلفائه المحليين.
وتمتد هذه التفجرات إلى الأدب والفن. فالقواعد والمعايير والأساليب الكلاسيكية والرومانطيقية ما عادت كافية للتعبير عن هذه القلقلة السياسية الاجتماعية الفكرية الحضارية الشاملة. وأخذت تبرز اجتهادات أدبية وفنية جديدة بحثاً عن أساليب ومضامين تعبيرية جديدة.
الصوت الذاتي العاطفي المتمرد في حركة أبوللو المستمرة أخذ يخفت شيئاً فشيئاً ليعلو الصوت الاجتماعي المتمرد الباحث عن مضامين وأشكال جديدة. لويس عوض يدعو إلى كسر رقبة البلاغة التقليدية في بلوتولاند بحثاً عن بلاغة حية جديدة. وكمال عبدالحليم في ديوان "إصرار" يقدم نبضات حادة لشعر ثوري المضمون وإن احتفظ بالبنية القديمة.
ومحمد مندور يدعو إلى الأدب المهموس وسرعان ما يتطور ميزانه النقدي إلى موقف اجتماعي ايديولوجي. وتبدأ الارهاصات الأولى لبنية شعرية جديدة تتخلص من القافية والبحور التقليدية وتتخذ من التعبير بالصور تعبيراً بنائياً منهجاً لها، وتستلهم القلقلة الوطنية والاجتماعية والتراث الشعبي والاساطير موضوعات حية لها. وتبدأ القصة والرواية تدق أبواب آفاق تعبيرية جديدة، تحتشد بالبسطاء من ابناء الشعب وفئاته الصغيرة والمتوسطة وقضاياهم وصراعاتهم الاجتماعية.
في هذا الإطار السياسي والاجتماعي والثقافي للأربعينات أخذ يبرز وجه فارس جديد من فرسان الابداع والحرية هو عبدالرحمن الخميسي.
كان الشعر كلمته الأولى. وكانت كلمته الأولى ما تزال تنتسب إلى مدرسة أبوللو الرومانطيقية على أنه برغم هذا الانتساب الذي نلمح فيه بعض أساليب مطران والشابي وناجي، فإن كلمته الشعرية كانت تتفجر بنبض متميز مختلف. لقد تحولت النسمات الرقيقة العبة الأسيانة في مدرسة أبوللو إلى عواصف متمردة شامخة مجتاحة في شعر عبدالرحمن الخميسي. حقا، لقد ظل الأسى والاحساس بالاغتراب والفراغ والحرمان والوحدة والرغبة في الانطلاق والتحرر من القيود تسم الكثير من أشعاره، ولعل قصيدته المبكرة "في الليل" أن تكون من أبرز معالم هذه السمة والتي يقول في مطلعها:
أسدل الليل ياحبيبي ستوره
ومشى في جوانب المعمورة
كاهن تخفق الشموع على كفيه
حيرى كأنها مذعورة
ثم يقول فيها :
أنا أهواك ياظلام فأطفئ لى دراريك واستمع لنحيبي
إلا أن الطابع المسيطر على شعره عامة كان الاحساس العميق بالحياة والتفاني في حبها والاندماج بها، بل والاستعلاء عليها وإرادة تغييرها وتجديدها. يقول في قصيدته "صرخة":
ماذا تريد الزعزع النكباء
من راسخ أكتافه شهاءً
تكسّر الأحداث تحت يمينه
وتميد من صرخاته الغبراءً
ويمزّق الظلمات عن فجر له
فيه حياة عذبة ورجاءُ
ويقول: إني خُلقت لكي أعيش وينحني من حولي الإصباح والإمساء. ويقول في قصيدة أخرى:
أنا ذلك الجبار لا تعنو له إلا المصائب
ويقول في قصيدة أخرى:
كلما بزغت شمس رآى الناسُ فيها لون أشعاري.
ويقول في قصيدته البالغة العذوبة "فرحة الحياة".
أنا حي ونعيمي بالحياة فرحة تغمر من قلبي مداه
اجتلى في موكب الأيام ما يَبْهرُ النفس ويخفى منتهاهْ
وأرى تلك الرموز انغلقتْ في طواياها على روح الإلْه
وأغني مثلما غنى على جنة الوهم هزار لا آراه
أنا حي يانعيمي بالحياةْ
ويقول في قصيدة أخرى:
ما تقاس الحياة بالطول لكن بامتلاء الشعور منها امتلاء
على أن هذا الاحساس العميق بالحياة والحب الغامر لها يكاد يصبح أحياناً نوعاً من التواصل شبه الصوبي مع الكون كله ولعل قصيدته "انطلاق" أن تكون تعبيراً عميقاً عن هذا:
يا هذه الدنيا عبدتك مخلصا وتخذت بين رياضك الأفنانا
لي ذلك الأفق المذهب والضحى والفجر يخفق والدجى سهمانا
لي هذه الشمس الكبيرة أحرقت سُحبا همت فوق الثرى إحسانا
لي ذلك البحر العظيم وما طوت أحلامه فرحان أو غضبانا
هذي السماء تجمله لي فارتدت عند الغروب وشاحها ألوانا
وتزينت لي في الظلام فنسّقت بالآنجم النشوى لها تيجانا
الليل كم أوقفته مترنحا والنادي كم صيرته سكرانا
والنور كم أهلته فتقدمت منه بشائر تغمر الأكوانا
ياروح هذا الكون إني عابد لك، ناثر صلواته قربانا
قد عشت هذا الكون بين جوانحي وتمثلتُه مشاعري ألوانا
ويقول في قصيدة أخرى:
لقد أشرقت بي في الوجود إرادة من الغيب تحيا في صميم مشاعري
على أن هذا الاحساس العميق بالحياة والاندماج والتواصل شبه الصوفي مع الكون والوجود، سرعان ما أخذت تتداخل فيه وتتناسخ معه رؤية انسانية اجتماعية عامة بل نضالية متجاوبةً ومتفاعلةً مع ما كانت تحتدم بها الاربعينات من قلقلة وصراعات، وإن ظلت غنائيته الفردية نبضاً أصيلاً يميز شعره عامة. وما أكثر القصائد المعبرة عن هذا التوجه الوطني والاجتماعي. أو الوجدان العام في شعره مثل قصيدة يامصر وقصيدة إلى أديب شهير وعشرات غيرها. ولكن لعل صيدته "أبوالقاسم الجزائري" أن تكون أبرز قصائده تعبيراً عن هذا التوجه أو هذا الوجدان العام.
وتكاد هذه القصيدة التي كتبها أواخر الخمسينات أن تشبه قصيدة صلاح عبدالصبور "شنق زهران" كما لاحظ ذلك الدكتور لويس عوض في دراسة قديمة له، وإن اختلفت القصيدتان في منهج النسج الشعري. فكلاهما تعبران عن محنة وبطولة انساط بسيط في مواجهة طغيان المستعمر فأبوالقاسم الجزائري مواطن جزائري من أبناء تلمسان. يعيش مع زوجته الجميلة ليلى وابنهما الصغير. كان محباً عاشقاً للحياة تماماً مثل زهران عبدالصبور. يذهب إلى السوق ليشتري ثوباً جديداً لابنه فيواجهه جند فرنسا فيغتالونه ويغتالون معه "أمل الطفل الصغير". وعندما كان عبدالقادر يساق إلى الموت.
كان يمشي رافع الهامة صُلباً كالجزائر ساطع النظرة والبسمة في قلب الدياجر.
ويختتم الخميسي قصيدته مخاطباً زوجة الشهيد:
اخلعي ياظبية العينين أثواب الحداد لم يمت زوجك لكن عاش في روح الجهاد
إنه ينسف في الليل حصون الغاصبينْ انه يمشي ويمشي في صفوف الثائرينْ
وأزعم أن هذه القصيدة لا تعبر فحسب عن الوجدان العام في شعر الخميسي وإنما تعبر كذلك عن معارضة الخميسي الواعية لحركة الشعر الجديد عامة والتي كان صلاح عبدالصبور من أبرز فرسانها. فبرغم امتلاء شعر الخميسي بهموم الواقع الوطني والاجتماعي فقد ظل متمسكاً حتى آخر أشعاره ببلاغته الغنائية الخاصة فضلاً عن تمسكه كذلك بالوزن والقافية رافضاً التخلي عنهما. ولعل هذا مما حدّ من آفاق التطوير والتجديد في بنيته ورؤيته الشعرية.
وتكاد هذه الظاهرة التي تبيناها في شعر الخميسي، ظاهرة التداخل والتناسخ بين الوجدان الفردي والوجدان العام، بين الهموم الذاتية والهموم الوطنية والاجتماعية، أن نتبينها كذلك في قصصه.
وقصص الخميسي نسيج وحدها في الحقيقة. فهي تكان أن تكون في أغلبها خطاباً جهورياً زاعقاً، خطاباً للآخرين وخطاباً عن الآخرين وخطاباً بالآخرين، خطاباً جمهورياً زاعقاً لا بلغته وأسلوبه فحسب، بل بصوره وأحداثه الصراعية وقيمه الاجتماعية والطبقية كذلك.
إن يوظف القصة توظيفاً ايديولوجيا جهيراً ويكاد يطبق عليها رؤيته الاجتماعية تطبيقاً مباشرة. وما أكثر، ما تنتقد هذه القصص بسبب ذلك، وقياساً على قواعد ومعايير فنية محددة، ولكننا لو أعدنا قراءة هذه القصص في سياقها الاجتماعي والتاريخي لوجدنا أنها تعبر بصراخها العالي الجهير لغةً واحداثا وأفكاراً وقيما عن واقع كان يحتد بالصراع الاجتماعي الطبقي الصارخ لو صح التعبير.
ولم يكن ذلك عن نقص في الموهبة الفنية لدى عبدالرحمن الخميسي. فهناك من قصصه ما ترف رفيفاً هادئاً بل تغلب عليه الرمزية والايحاء غير المباشر. وفي تقديري أن قصص الخميسي بشكل عام هي محاولة فنية ذات طبيعة مزدوجة تجمع بين التعبير عن طاقته الغنائية الشعرية تعبيراً قصصياً، وبين إرادة الخروج عن هذه الغنائية الشعرية بمصادفة الواقع والتعبير السردي المباشر عنه. ولهذا لا تبرز الغنائية في لغة هذه القصص فحسب، بل في صميم أحداثها الواقعية كذلك. إن أغلب هذه القصص تدور حول قطبين متصارعيْن تصارعا عدائيا مطلقا: الأغنياء جداً، والفقراء جداً، المستمتعين بثرواتهم أقصى استمتاع، والمسحوقين بالفاقة والقهر أشد اسنحاق. وتكاد المآسي جميعاً أن يكون مصدرها فقدان الأم، أو فقدان الأب، أو الانتقال من القرية إلى المدينة أو التطلع إلى مستوى اجتماعي أرقى، أو العطش للحب. ويكاد يغلب على السرد القصصي طابع المونولوج الداخلي الذي يعبر به السارد – الراوي – عن وجدان شخصياته. وهو مونولوج قد يتخذ أحياناً شكل الديالوج الذاتي – لو صح التعبير والتساؤلات القلقة، أو محاولة تفسير بعض مظاهر السلوك. والسارد أو الراوي موجود دائماً في قلب قصصه ويكاد يعلن عن وجوده أنه موجود في تضفير الأحداث، ورسم الشخصيات، وفي الحديث عنها، والتعليق على سلوكها، أو الحديث باسمها، والتعبير عن أخفى مشاعرها الباطنية تعبيراً سردياً برانياً وإن تخللته صياغات غنائية. ولنقرأ بعض فقرات من قصص مختلفة.
نقرأ في قصة "أمينة" (ماذا جرى يا أمينة حتى أكل سيدك حقك، وامتص ثمرة كدّك وانهال عليك بالضرب المُبرح، ورماك في الطريق مشجوجة الرأس، راجفة النفس مرتعشة المصير؟ الذي جرى يا أمينة أنك جميلة، وجهك بدر شاحب وعيناك بحيرتان ساجيتان مليئتان بالأسرار).
ونقرأ في قصة "الحنة يا الحنة": (قومي ياسنية.. من الظلم أن تحك عليك أمك بالنوم هكذا إلى جوارها فوق الفرن والقرية كلها صاحية ضاحكة نحتفل بزفاف الست بدرية كبرى بنات العمدة. ارفعي غطاءك عنك برفق. نعم هكذا هكا واهبطي من فوق الفرن إلى الأرض. نعم هكذا هكذا وافتحي الباب في حذر. لا تهتمي بهذا الصرير هيا.. هيا).
ونقرأ في قصة "نبوية": (من لي بأحد رآى نبوية وعرفها فيحدثني عنها ويصف لي حالها الآن، وأحدثه أنا عن ماضيها الدامي ........ من لي بأحد رآى نبوية وعرفها ليدلني على مكانها لأسعى أنا إليها بل لأطير حيث تكون).
في هذا السرد الغنائي لا تستشعر بالسارد الراوي مندمجاً في الأحداث والشخصيات متوحداً معها فحسب، بل نستشعر كذلك أن هذا السرد الغنائي يسعى إلى دمج القارئ وجدانياً في هذه الأحداث والشخصيات. وهو أسلوب في التعبير الفني له خصوصيته وله مشروعيته. ولكن له مزالقه كذلك. وأزعم أن عبدالرحمن الخميسي استطاع برغم هذا الأسلوب وبفضله كذلك أن يكتب الكثير من القصص التي تبلغ مستوى رفيعاً من الابداع الفني. حقاً لقد انزلقت بعض القصص إلى مستوى التقرير المباشر مثل قصة "رياح ونيران" في مجموعته المسماه بهذا الاسم والتي تكاد تتحدث حديثاً سياسياً مباشراً عن الكفاح والجبهة وحديثاً أدبياً مباشرا عن الشاعرا لعراقي الجواهري بل تسوق نماذج من أشعاره. ولكن الجانب الأكبر من قصصه بلغ هذا المستوى الرفيع من الابداع مثل قصة "خاتم الحق" وغيرها من قصص مجموعته "أمينة" بوجه خاص.
على أن عبدالرحمن الخميسي لا يخفى اختياره الجهير الصريح للموضوعات الوطنية والاجتماعية ومعالجته لها معالجة واقعية مباشرة مما يكاد يجعل منها في بعض الأحيان منشوراً ثورياً تحريضياً ضد الظلم والقهر والفقر والاستغلال. ويقول في الاهداء الذي يقدم به قصته "الجمجمة": (إلى هؤلاء الذين ينسحبون من العالم الخارجي بعقولهم ومشاعرهم ويدخلون إلى أنفسهم وينكمشون فلا يرون شيئاً سواها، ولا يسمعون غير أصوانها. إلى أولئك الذين تطحنهم فرديتهم فتودي بعقولهم وتحبسهم في سجون انفعالاتهم الذاتية، إلى هؤلاء الذين لا تمتد أبصارهم إلى المجموع، ولا يشارك وجدانهم في مأساة المجموع ولا تساهم أفكارهم فيما يشغل المجموع نُدم هذه القصة).
وتكاد هذه الفقرة أن تكون خلاصة بليغة لكتابه النقدي "الفن الذي نريده" الذي ينتقد فيه ما يسميه بمدارس الضباب في الفن من سيريالية وتجريدية ولا معقول ويدعو فيه دعوة صريحة إلى الأدب الواقعي النابع من الخبرة الانسانية الحية.
وقد يكون أمراً ذا دلالة تاريخية أن تقارن بين هذا الإهداء الذي يكتبه الخميسي لقصة من قصصه، وبين بيان "اللاواقعية" لجورج حنين والذي يقول فيه (لا شيء غير نافع مثل الواقع. إذن لماذا البحث عن الحقيقة في الخارج حيث لا تكون، على حين أن الموارد الداخلية نفسها غير مستكشفة؟ إن العالم الحقيقي الوحيد هو الذي نخلقه داخلنا. العالم الصداق الوحيد هو الذي نخلقه ضد الآخرين إلى الأمام من أجل اللاوقعية. إنها خدعة للواقع وحقيقة لي أنا، أقصى – أنا، إنها كتابة أي شيء جرى داخلكم ولم يثره باعث خارجي، ولم يستطع الانتقال إلى العالم الخارجي أو الاستفادة منه) لعل هذا الموقف الحاد الذي كانت تعبر عنه الحركة السيريالية على لسان جورج حنين في أواخر الثلاثينات وفي الأربعينات تفسر لنا الموقف الحاد كذلك الذي أخذت تعبر عنه الحركة الواقعية في الأدب آنذاك، والذي كان عبدالرحمن الخميسي من أبرز دعاتها. ولكن برغم الموضوع الاجتماعي الخارجي الذي يركز عليه عبدالرحمن الخميسي في حديثه النظري، فإن موضوعاته الشعرية والقصصية كانت تزخر بكنوز من الخبرات الباطنية التي هي بغير شك جزء كذلك من الواقع المعاش.
واختتم هذه الفقرة من حديثي عن قصص عبدالرحمن الخميسي بتساؤل حول قصة من قصصه في مجموعة "أمينة" – إن كل قصص هذه المجموعة – باستثناء ثلاث قصص – خالية من تحديد تاريخ كتابتها. وبين هذه القصص الثلاث قصة "عروس أبوالفوايد". وهي قصة الفلاح البسيط الذي راح يناضل من أجل أن يجمع مهر عروسه "نجية" ولقد فعل المستحيل من أجل ذلك وما أن ينجح في مسعاه حتى يفاجأ بأن "نجية" قد أصبحت زوجة لعسكري يغادر بها القرية إلى المنصورة. القصة مؤرخة بعام 1953 وهو العام الذي اعتقل فيه الخميسي حتى عام 1956. وأتساءل: هل وراء هذا الحرص على تأريخ هذه القصة إشارة رمزية إلى موقف مبكر من حركة الجيش عام 1952؟! حقاً، لقد أصبح عبدالرحمن الخميسي من أكبر مؤيدي ثورة يوليه بعد ذلك، ولكن يبقى هذا التساؤل حول هذه القصة وحول الحرص على تأريخها.
ويبرز كذلك الموقف النقدي النظري لعبدالرحمن الخميسي الذي يتمثل في هذا التعانق بين الابداع الفني والمضمون الاجتماعي في كتابه الصغير "مناخوليا" ويشتمل الكتاب على طائفة من المحاورات والمقالات النظرية التي يدعو فيها الآدباء والفنانين إلى أن يخرجوا من هدومهم، من عزلتهم، ليحطموا الحدود وينصهروا مع الناس ويشربوا روح الشعب، "فالتجربة الحية كما يقول هي شرط جوهري للانتاج الفني" ويتساءل في بعض فقرات من كتابه "من عجب أن القانون يطارد عصابات تزييف النقود أما عصابات تزييف العواطف والأفكار والتجارة بهواجس الناس وبأحلامهم فهو يتم جهاراً دون أن تمتد إليه يد القانون".
ونستشعر الدلالة نفسها في كتابه الآخر "المكافحون". وهو يضم طائفة من المقالات والدراسات حول نوعين من الشخصيات، شخصيات تحمل راية التجديد والتنوير والبطولة في حياتنا المصرية مثل عمر مكرم والأفغاني وعبدالله النديم وأحمد رفعت، وشخصيات إبداعية في مجال الأدب والموسيقى مثل مكسيم جوركي وشويان وشوبيرت وإدجار الان بووتشايكوفسكي وجي دي موباسان.
والكُتاب بهذين النوعين من الشخصيات دعوة إلى الابداع الفني والتجديد الاجتماعي وتأكيد للرابطة العميقة بين هذين الامرين.
على أن أبرز ما يكشفه هذان الكتابان وغيرهما من كتابات وممارسات عبدالرحمن الخميسي الفنية، هو معرفته العميقة وحبه الغامر للموسيقى الكلاسيكية العالمية فيما يقدم من تحليل لشخصيات بعض مؤلفيها ولبعض أعمالهم. وأكاد أقول ان الموسيقى بشكل عام تكاد أن تكون القاعدة الناظمة لأغلب كتابات وأنشطة عبدالرحمن الخميسي. بل أكاد أقول إن الأوبرا والاوبيريت بالذات بجهارتها التعبيرية وتعانق الكلمة والموسيقى والحدث في بنيتها هي أقرب الفنون إلى الشخصية الفنية والإنسانية لعبد الرحمن الخميسي.
ولهذا لم يكن غريباً أن يعكف على بذل هذا الجهد الخارج للمزاوجة والتعاشق والتوافق بين البنية الموسيقية لأوبيريت الأرملة الطروب وبنية اللغة العربية التي ترجمت إليها كلمات النص الأصلي. ولهذا لم يكن غريباً كذلك محاولته الجادة لبناء مسرح غنائي في أوبيريت مهر العروسة مثلاً بل وفي معالجته للقصة الشعبية الغنائية حسن ونعيمة سينمائياً.
وعندما أقول إن الأوبرا والأوبيريت خاصة كانت أقرب الفنون إلى الشخصية الفنية والانسانية لعبد الرحمن الخميسي فلست أقصد مجرد نبالة المزاوجة بين الكلمة والموسيقى، وإنما أقصد كذلك ما تمثله الأوبرا والأوبيريت عامة من تكامل بين العديد من الفنون من شعر وموسيقى ورقص وغناء وبنية حركية وتمثيل وفنون تشكيلية. إنها مَجْمع الفنون بحق.
وعبدالرحمن الخميسي بطاقته الحية المتفجرة كان يسعى إلى تحقيق هذا التلاقي والتعانق الشامل بين الفنون ولعل هذا ما يفسر انتقاله بين العديد من الممارسات والمنجزات الفنية. على أن الموسيقى كانت القاعدة الناظمة والقوة المحركة والموحدة لممارسته جميعاً.
وكانت حلمه الكبير. ولكنه لم يكن مجرد حلم فني خالص.
بل كان حلماً إنسانياً شاملاً يتعانق فيه الفن بإنسانية الانسان معبراً عنها ومحرراً ومخصباً لها. وكان عبدالرحمن الخميسي يرى في تحقيق الاشتراكية تجسيداً وتحقيقاً لهذا الحلم الفني الانساني الشامل. ولعله لهذا أراد أن يختتم حياته بمعايشة هذا الحلم. فكانت رحلته إلى الاتحاد السوفيتي واستقراره هناك، حيث عاش منتجاً مبدعاً سعيداً، تُترجم له أشعاره وتنشر بآلاف النسخ في مختلف لغات الاتحاد السوفيتي، ويصبح له اسم مشهور محبوب بين الملايين من أبناء الاتحاد السوفيتي.
ولكن عبدالرحمن الخميسي برغم غربته الطويلة مافارق مصر ابداً "حملتُ مصر بقلبي واغتربت بها" على حد قوله. ظل من بعيد يغني لوطنه ويعتبر نفسه سفيراً بغير سفارة يتفانى في خدمة وطنه والنضال من أجل قضايا التحرر والتقدم والديمقراطية والسلام العالمي وفي خدمة كل من يتلقاه من أبناء وطنه.
ثم آثر عندما يموت أن يدفن جثمانه في مصر وعاد إلينا أخيراً من لم يفارقنا أبداً ولكن آن لمصر أن تعود هي كذلك لعبد الرحمن الخميسي فما أكثر ما تجاهله وأنكره بعض أبنائها. وما أجدر أن تجمع أعماله المتناثرة المتنوعة في كتاب شامل موحد، وأن تكون موضوع دراسة جادة عميقة. وستكون أعماله المجمعة ودراسته بغير شك فصلاً مضيئاً من فصول ثقافتنا المصرية المعاصرة.

مجلة القاهرة – يونيو 1987

أعلى