إخلاص فرنسيس - فستان أزرق فارغ منّي..

الساعة الرابعة أكثر وقت يستهويني للمشي أواخر أيام الخريف، وما من مرة مشيت مع لونا إلّا جنيت متعة لا توصف، إضافة إلى الرياضة الجسدية، والخروج من الحجر الذي طال أكثر من تسعة شهور، وقد مللت المكوث بين الجدران الإسمنتية بالرغم من أنّي لا أخرج كثيراً، لكن يبدو أنّه كلما أجبر الإنسان على شيء مقته، وشعر بالضيق والكآبة.
رحت أمشي كالعادة، ولونا تقفز أمامي، تستمتع بالنسيم البارد. لقد دخل العالم كله في حالة من انعدام الوزن والقنوط واليأس طيلة الفترة الماضية، مرحلة تاريخية من حياة كلّ أطياف الشعوب، العالم يتخبّط في بحر أسود، لا يعرف أوله من آخره. هزيمة نفسية تنهش الأفئدة، ولا مخرج يلوح في الأفق. الإنسان كما قال سارتر محكوم عليه بالحرّية، ولكن أين هي الحرية الآن؟ أين نحن منها وهي ممسوكة ببراثن الخوف والقلق والجوع؟ الشرق يتخبّط في الحروب والفقر، والغرب يتخبّط في الصراع السياسي للسيادة والريادة على العالم، ومن يملك المال يملك السلطة، ويرى من حقّه أن يتسلّط على العالم كلّه. أفكار لا أعرف لماذا خطرت ببالي وأنا أمشي، أستنشق الهواء البارد الثقيل، فأطلق زفرة وكأنّني أريد أن أتخلّص من صخرة كبيرة تجثم على صدري، فالوجود الإنساني لا قيمة له وهو مكبّل بسلاسل العجز. الحرية أساس الإبداع والانطلاق، ولا إبداع في ظلّ العجز والقمع.
منذ وعيت على العالم وأنا أعيش أحلام اليقظة، أحلم وأنا في كامل وعيي، والآن ها أنا أحلم بصباح مشرق يأتي على الأمّة.
كنت أمشي مع لونا وخيالي في مكان آخر، أحلم بطيف خفيّ، يحملني على وتريّة العشق، يصقلني امرأة من ضلعه.
كان المناخ جميلاً جدّاً هذا المساء، النسيم البارد يشجّع أكثر فأكثر على الاسترسال في الحلم، أغلق عينيّ لأبتعد أكثر عن هذا الحجر، اختلطت عليّ الأصوات، وشعرت كأنّ هناك من يناديني من بين شجر الوعر، استأنست للصوت، وأصغيت إليه أكثر فأكثر. كان الصوت أشبه بالهمس أو بحفيف السنابل في الحقول قبل الحصاد، تتمايل مع الريح مثقلة. لم ألتفت إلى الوراء، لم أرد الالتفات، أردت أن أستسلم للصوت، لا رغبة لي في رؤية صورة من يكلّمني، لم أستغرب أن يكون شبحاً من الهنود القدامى سكان البلد. ابتسمت للفكرة، راقت لي، خاصّة وأنا أعشق قصص الهنود وأفلامهم عن الأرواح التي تذهب، وتسكن الصقور بعد الموت، لتحلّق بحرية في السماء الزرقاء حيث لا وجع ولا حرب ولا أوبئة، تلك التي فتكت بهم حين اقتحم الرجل الأبيض عليهم خلوتهم وغاباتهم، ومن فوق السحب ترقب الأرواح الأجيال التالية.
أبطأت المسير كي يتسنّى لي الإصغاء أكثر للصوت الذي يسير بمعيتي، كان الصوت دواء لوجع الوحدة وألم الحياة ومتاعبها، مضيت في سيري، ورفيقي الأثيري يهمس بين الفينة والأخرى بكلمات لا أفهمها، حالة شاذّة وغريبة ربما ولكن أحياناً يفضّل الإنسان رفقة الوهم والخيال على البشر.
كان هناك نسر في الفضاء يطير صوب أشعّة الشمس الخجولة التي تنحدر نحو البحر، توقّفت قليلاً، لأختبر حقيقة ما يجري حولي، أوراق الشجر تتناثر على الأرض كلما هبّ النسيم، والأغصان ترقص. أغمضت عينيّ وفي أعماقي بدأ الفضول لأعرف هوية قريني السائر معي. تردّد صدى صوته وكأنّه خارج من أعماق كهف، فتحت عيني، والتفتّ إلى الوراء بسرعة، خطواتي السريعة بدأت تثقل، أحمل الوقت الذي يسرقني منّي في صدري، والزمن القابع على كتفيّ كالجبل يشدّني نحو الأرض لئلا أرتفع، ضجيج روحي وأفكاري أزعج الغابة المغمورة بالسكون. روح ترتعش في ثنايا الهواء، وواقع يضربني مثل موج المحيط المقابل في الجهة الأخرى. توقّف الصوت عن الهمس، وتوقّف معه حلم يقظتي، شيء ما تخطّى مدارك البشر، احتقن النسيم تحت ظلّ الشجرة حيث أقف، واشتدّ ثقله، عندها أدركت أنّي دخلت مكاناً ممنوع الدخول إليه، حيث روح رابض في الظلّ العميق. أردت الولوج أكثر لعلّه يفكّ الحجب عن بصري، فأرى ما دار بخلدي.
تركت المكان وفي أعماق روحي عطش، أحدّق في الفضاء، إذ دارت الأرض فجأة، وضاقت بي.
شدّتني لونا وكأنّها توقظني مني، لأراني أقف وحدي أتصارع مع روحي، أقبض على قلبي، وقطرات الدماء تسيل على التراب وأوراق الشجر الأصفر حولي، وعلى أغصان الشجرة فستان أزرق فارغ منّي.
تخدّرت قدماي، وأثقل ندى الليل أجفاني، متى أستيقظ من حلمي؟


إخلاص فرنسيس




تعليقات

سيدتي..
منهارون لِمَا يحدث حولنا في الداخل و الخارج، الناس تموت يوميا بسبب الوباء، و الله يحذرنا عن طريق الكوارث الطبيعية ( الزلازل) و أنظمة تغرق في الصراعات و الحروب من أجل شيئ يزول و يفنى، الحقيقة أنتِ وضعتِ أصبعكِ على الجرح، و لكن حبذا لو أغطسته في السكر أو العسل بدل الملح، قبل أن تضعيه على الجرح ، حتى لا بتعمق جرحنا و ينزف، و لكي ترتفع معنوياتنا ، نتشبث بالأمل، على أن نستيقظ على يوم ربيعي
متى نضع حدا للصراعات؟ و الإنقسامات؟ و الحروب؟ متى نحقق التعايش السلمي؟، متى نرفع شراع التسامح ، نبحر و روحنا ملتحمة بالآخر حتى نحقق الوئام
نريد أن نعيش في سلام
سلم يراعك
 
إخلاص فرنسيس

يسعد اوقاتك استاذتي الكريمة
لقد عاثت بنا الحروب قتلا وتدميرا وكورونا موتاً روحياً ونفسياً نعم نحتاج دائما بصيص من الامل كي نستمر، ان النزف الداخلي والضياع الذي يعيشه الانسان هو في الاغلب من صنع الانسان فالقوي يتسلط على الضعيف والسلطة لا ترحم من دونها اصبح الانسان ارخص شيء على سطح الارض ديست كرامته انقسامات كما تفضلت زرعوا الكراهية والتعصب بين ابناء البشر حتى في اسرة واحدة زرعوا الشرخ واستخدموا الدين والتدين وارتفعت المناداة بالكراهية والقمع للاخر ، عندما يقبل الانسان اخيه الانسان كما هو بغض النظر عن معتقده ودينه وخلفيته وقبلها عندما يتصالح الانسان مع ذاته عندها يستطيع ان يتصالح مع الاخر ولكن مع الاسف البنيان صعب جداً امام آلة الهدم الجبارة، ولكن تبقى المحبة الالهية الخالصة من خلالها البقية النقية تنشر عبيرها في ارجاء الكون علها تبلسم جراح المتعبين والمنكسري القلوب، سنبحر في مركب الحب الازلي إن فتحنا ابواب قلوبنا للمسامحة والتعايش السلمي، خالص امنياتي لكلماتك وشكري وامتناني
 
أعلى