د. نعيمة عبد الجواد - مجابهة الوحوش والهاوية: فريدريك نيتشه

الحياة عبارة عن بوتقة من لظى ملتهب، نوضع فيها قسرياً؛ لنقاسي الأمرين، لسبب ما نجهله تماماً. وفي الأخير، المتوقع منا تحقيق نجاحات غير مسبوقة. لكن، في خضم ذلك العراك الأزلي الذي يقع فيه الإنسان فريسة بين متطلبات الحياة، والتجارب المريرة، والاختبارات القاسية، وما ينجم عن ذلك من ذكريات، يترسب في نفس الإنسان أحزان كثيرة، تشغل حيز لا بأس به في الذاكرة. لكن في أحيان أخرى، قد تشغل هذه الذكريات حيزاً كبيراً في الذاكرة، لدرجة أنها قد تحول بين استمتاع المرء بحاضره، وتجعله أسيراً لذكريات أليمة حدثت في الماضي، الذي قد يكون بعيداً جداً، لربما يكون موطنه مرحلة الطفولة. وتفسير ما يحدث هو أن تلك الآلام الدفينة تتحول لحقل من الطاقة السلبية، التي تشغل العقل، وتكبل وتعوق الجسد. وبالرغم من أن الألم في حد ذاته شئ غير مرئي، لكنه في نفس الوقت كيان مستقل، وله اسم، ومسكن. وهذا الكيان اسمه “كيان الألم” Pain Body الغير مرئي، ومسكنه يقع في عواطف ومشاعر الإنسان. ويتواجد “كيان الألم” Pain Body في حالتين معروفتين: فهو إما خامداً، أو نشطاً، وغالباً ما يسكن أجساد الأشخاص الغير سعداء، كما لو كان شبحاً أو مس شيطاني. وقد يكون كيان الألم خامداً بنسبة 90% بالنسبة لشخص شديد التعاسة، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يلحظه أحد، بما في ذلك الشخص الحامل له. لكنه قد ينشط لنسبة تصل 100%، وذلك في حال إثارته، وإيقاظه بالكامل من سباته العميق. ومن مثيرات “كيان الألم” التي تتسبب في إيقاظه مواقف تشابه أحداث مر بها الإنسان في الماضي: مثل حالات الهجر، والخيانة، والإيذاء الجسدي، والنفسي؛ حيث تأخذ الذاكرة في استدعاء جميع المواقف التي مر بها الإنسان وكانت تتضمن أحداث قد تشبه ذلك الحدث. وقد يعمل على تنشيط “كيان الألم” في نفس الجسد المعلول به مجرد خاطرة، أو مشهد معين قد لا يكون فيها طرفاً على الإطلاق. فقد يكون الموقف الغير مباشر مجرد مشهد تليفزيوني، أو سينمائي، أو حتى حدث سياسي. والغريب أيضا، أن أحد مثيرات كيان الألم قد يكون مجرد صورة، أو تعليق، أو ملاحظة بريئة ندت من أحد الأشخاص ، أو تسلل أحد الروائح – سواء أكانت زكية، أو بغيضة، أو حتى رائحة طعام أو شراب – لأنف الشخص الحامل ل “كيان الألم” Pain Body. وبمرور تلك المثيرات، وبدون أي استئذان، يستيقظ “كيان الألم” من حالته الخامدة، ويبدأ في مهاجمة ذاكرة الشخص الحامل له بضراوة. ومن أفضل من عبر عن ذلك الموقف كان الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche في مخطوطته الرائعة التي تحمل عنوان “فيما وراء الخير والشر” Beyond Good and Evil المنشور في عام 1886، حيث يقول: “من يقاتل الوحوش، يجب أن يكون على يقين أنه لسوف يتحول لوحش، في نهاية المطاف. فإذا نظرت للهاوية لفترة لطويلة، لسوف تنظر إليك الهاوية بدورها.” وتفسير ذلك بالقياس على “كيان الألم”، أن كثرة مخالطة المواقف التي تكمن بها الآلام لسوف تحولك في الأخير لشخص شديد التعاسة، وأما الهاوية هنا، فهي المواقف التعيسة، حيث أنها تكثر وتنتشر وتسود كلما حاولنا أن نتذكرها. والألم بالرغم من شدته، وقوته التدميرية، إلا أنه أضعف ما يكون، ولكنه في نفس الوقت من أخبث الكائنات الغير مرئية على الإطلاق. وبما أنه غير قادر على المواجهة، فإنه يسكن العقل الباطن Unconscious في أي إنسان؛ فهو يخشى أي مواجهة مع الوعي Conscious والتي قد ينتج عنها تدميره بأكمله. وعلى هذا، تصير بعض “كيانات الألم” بغيضة، لكنها غير ضارة نسبياً، فهي كالطفل الذي لا يكف عن البكاء والأنين، لكن في بعض الأحوال تتحول لوحوش مدمرة، فتصير شيطان مريد يتمكن من جسد فريسته – وهي الجسد الذي يقطنه – فيبدأ بمهاجمته وكذلك يهاجم عواطفه. وقد يحول أرض المعركة إلى أشخاص أخرى قريبون منه. وقد تصل به الشراسة – بعد أن يملأ ضحيته بجميع المشاعر السلبية – أن يأمرها بتدمير ذاتها. ومن أكبر الأمثلة على ذلك، تعج صفحات الحوادث، والسجون، ومستشفيات الأمراض العقلية، وكذلك العديد من المعارك بين الأشخاص — على أشخاص تعساء، تحيطهم الطاقات السلبية من كل جانب، لدرجة أنهم لا يستطيعون الفرار منها. وللتخفيف من وطأتها على أنفسهم، ينقلون أرض المعركة لمن يحيطهم من أفراد. فعلى سبيل المثال، كثيراً ما نصادف أفراد سواء في محيط العمل أو حتى في الشارع يعانون من آلام دفينة. فالزوج الذي قضى يوماً شرساً في عمله – مثلاً – وكان مجبراً على إلتزام الصمت، والحفاظ على الثبات النفسي، ورباطة الجأش، وقد يتخطى الأمر هذا عندما يكون مرغماً على الابتسام، وإلقاء النكات، والضحك عليها؛ لتمثيل أنه شخص سعيد ولا يبالي بما يقف أمامه من مصاعب. لكنه حالما يصل لمنزله، وهو حاملاً تبعات كل هذه الطاقة السلبية بداخله، يتحول لوحش كاسر إذا مر أمامه مجرد موقفاً صغيراً استدعى كل هذا الألم النفسي؛ وذلك ما نقول عنه الثورة لأتفه الأسباب، والتي قد تفضي إلى حالات طلاق، أو حتى قتل. فلو تذكر هذا الزوج بعد فورته سبب تلك الثورة العارمة، لعلم أن الموقف كان لا يستحق كل هذا العراك. فالسبب الرئيسي هنا هو موقف تم اختزانه في العقل الباطن، تم إيقاظه بشدة بسبب موقف مماثل. لكن مجرد الغوص داخل النفس وتذكر هذا الموقف، وتحليله بشكل منطقي فإنه يتم نقل الموقف المسبب للألم ذلك للعقل الواعي. وبما أن أي كيان ألم ضعيف جداً، فحالما يصل للعقل الواعي الذي يحلله، يذوب ويتلاشى، ولا يصير له وجود. ولقد عبرعن ذلك الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche في مخطوطته التي تحمل عنوان “علم السعادة” The Gay Science المنشورة عام 1882، حيث يقول: الألم الكبير فقط ، الألم الطويل البطيء الذي يستغرق وقته … يجبرنا على النزول إلى أعماقنا النهائية … أشك في أن هذا الألم يجعلنا” أفضل”؛ لكنني أعلم أنه يجعلنا أكثر عمقاً . . . في نهاية المطاف. وحتى لا يظل الأمر الأكثر أهمية حبيس الألسنة، فإنه من تلك الهاوية ، ومن هذا المرض الشديد ، يعود المرء كما لو كان طفل حديث الولادة، بعد أن ألقى بجلده البائد بعيداً . . . وهنا يعود بحواس مرحة ، ومع براءة أخرى شديدة السعادة ، فيصير أكثر طفولية، ولكن يتميز بدهاء يفوق المائة مرة أكثر مما كان عليه بالسابق”. فقبل أن يتوصل علماء الطب النفسي لكيفية التعامل مع الألم والآلام الدفينة التي تكون في مجموعها “كيات الألم”، أعطى الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche وصفة سحرية للتخلص من الألم نهائياً من خلال المواجهة، سواء أكانت بشكل منطقي واعي، أو في شكل إبداع سواء أكان مهني أو فني. ولا عجب في ذلك، فنيتشه هو صاحب المقولة الشهيرة “ما لا يقتلك، يجعلك أقوى” في كتابه الشهير “شفق الأصنام” Twilight of the Idols. ونستخلص من كل هذا، أن أي موقف يمر به الإنسان بحلوه ومره، هو مجرد حدث موقعه في الماضي، ويجب أن يفسح مجالاً للحاضر كي نعيشه، ونتذوق حلاوته أو مرارته. فلو كان حدثاً جالباً للسعادة، يمكن أن نحتفظ به لرفع معنوياتنا في أوقات تخلو من السعادة. أما لو كان حدثاً مسبباً لألم نفسي، أو قد يوقظ ذكرى تعيسة يجب أن نقضي عليه تماماً قبل أن يبدأ، فحسبنا الوقت الذي استهلكه من ماضينا. فتلك الآفة لا يجب أن يكون لها مكان في حاضرنا. ولشفاء أنفسنا من أي موقف يشوبه الألم أو التعاسة، يجب أن نجاهر له بقلب أبيٍ جسور، بقولنا الحاسم: “كفاية عليك كده.”

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى