حاتم عبدالهادى السيد - الرواية البدوية وعبقرية سيناء.. (اضاءة على المكان والسرد)

سيناء ، شمس الله المشرقة على الخلود ، هنا السرد نسج عباءة كونية للعالم ، وتربع على كل أرجاء الحياة ، اذ البدوى حكّاء بطبعه ، يتسامر في الليل على أنغام الناى ورقص السامر ، وتنتشر القصص والحكايات ، وينطلق الناى ليمتزج بحداء الابل ، لتنطلق قيثارة الشعر والسرد في تناغم هادىء،يحكىالبدوى حكايات الذئاب والأغنام،وقصصالبطولة،ويتذكر حكايات اغارة القبائل على بعضها من أجل ملكية الأرض، وعلى الكلأ والعشب، أو هروب فتاة، أو من أجل الدفاع عن قيم البداوة الرصينة .
وهنا ،عبر تفاصيل المكان الساحرة،وعبر " الأبجدية السينائية " – أول أبجدية في التاريخ - صنع البدوى حضارته ، وأنتج حكاياته ، وسرده المختلف ، فديوان البادية عامر بتراث الحكى ، وسير الأقدمين، وأساطير السابقين، فتمتزج سيرة أبوزيد الهلالى سلامة،والزير سالم بحكايات البردويل ، ودهقان العريش ، وحكايات السيوى ونوادره ، وحواديت الجدة عن الشاطر حسن وأبو رجل مسلوخة ، وحكايات الأبطال عبر المعارك التى خاضتها القبائل ، وغيرها . ولقد خلد الشعر البدوى الكثير من هذه القصص : " الشعر القصصى ، " القصص الشعرى " عبرالحكايات الشعبية ، والمرويات التراثية ، التى تخلد المكان عبر مسيرة الزمان الممتد.
ويعتبر / عبدالله السلايمة أول من كتب الرواية البدوية السيناوية، التى تؤطر للمكان ، وللتحولات الكبرى هناك، تلك التى تعلى من سيرة السرد : التاريخى ، الاجتماعى ، التراثى ، الفنى ، عبر مستوياته التى يستطيع احكام تفاصيلها : معناها ومبناها،م ن خلال وصف المكان،وتمظهراته ، وآثاره النفسية، والعامة. حيث يعتبر المكان هو البطل الرئيس، لشخصيات الرواية ، بل ان روايته السابقة : " بركان الصمت " تحكى سيرة المكان الكبرى لحياة البادية السيناوية : عادات البدو ، تقاليدهم ، أفراحهم ، مآتهم ، تعاملاتهم اليومية العادية ، تراثهم المحفور في الذاكرة ، كما تعكس قيم البادية النبيلة : الصدق،الفروسية،اغاثةالملهوف، الحب،التسامح، القسوة-التى أملتها طبيعة المجتمع والمكان - والتى انعكست بقوة على مسيرة الحياة والسرد.كما تتعرض الرواية للاحتلال الصهيونى الغاشم لسيناء ،قبل وبعد حرب 1973م ، وتعتبر من الروايات الاجتماعية القليلة التى عكست مظاهر المجتمع البدوىالسيناوى بصورة حقيقية ، لا لبس فيها أو مزايدة ، ويظل للمكان هنا نكهته السامقة.
وفى روايته " خطايا مقصودة "، يحيلنا – منذ البداية – الى الصحراء ، عبر قصيدة / محمود درويش التى استهل بها روايته ، يقول محمود درويش : "هذه الأرض لي .. وكنت قديمًا ، أحلب النوق راضيًا ومولّه.. وطني ليس حزمة من حكاياليس ذكرى، وليس حقل أهلّة... هذه الأرض جلد عظمي وقلبي.. فوق أعشابها يطير كنخلة".
لقد لخصت القصيدة مستغلقات رواية بات عنوانها ملغزاً، خطايا، ذنوب كبرى، مقصودة – كما يذكر- وحاولت القصيدة فك شيفرتها ومضامينها الرامزة ، لتظل : " خطايا مقصودة " ،شاهداً على زماننا ، على حياتنا في سيناء ، بل وتنسحب الى الوطن وأمتنا العربية والاسلامية أيضاً. فالخطايا التى يكابدها انسان البادية تعكس مظاهر الصحراء بكل مافيها ، وتعكس مشاكل الحياة اليومية ، وتستشرف أفقاً يتغيّاه الكاتب / السارد لهذه البادية / الوطن / الذات المقهورة التى تعيش هناك – على حافة الحياة : تنظر للوطن كتوجّه ، كقضية كبرى للوجود،وجودههو،ووجود الآخرين الذين يتحفزون لقهر أهوال الصحراء من جهة، والأخطار التى تتهددهم – عبر مسيرة الزمن ، اذ هم ينادون بحقهم في الحياة ، وحيث المكان هنا هو الوطن ، مكان القبيلة ، الانتماء الروحى، والفيزيائى للذات، التى تتريّض على مفردات البيئة هناك. كما تتعرض الرواية للأحداث التاريخية الكبرى التى مرت بها سيناء على مدار عصورها ، منذ عصور الفراعين الأوالى وحتى غزو الارهاب ،وداعش ،وولاية سيناء لصحرائها ، فهم يخترقون الصحراء ، يشوهون الحب والمكان والتاريخ ، يريدون محو تفاصيل المكان، بينما يتشبث هو/هم بالمقاومة ، بالدفاع عن حقهم في الحياة والمواطنة، لتظل الرواية سرداً للمكان، من خلال الواقع الاجتماعى، السياسى، الاقتصادى، ولتصبح الرواية "ديوان البادية" الذى يسجل، يروى، يستعيد -عبر تقنيات الفلاش باك، والتضمين، والمعادل الموضوعى، الضمنى، الاحالى، الترميزى - الحقب التىمرّت، والأحداث التى تراكبت، عبر الزمان والمكان،وكأنه كسارد عليم ،شاهد على المكان والأحداث، والعصر، والحياة ، يقول ليعكس واقع عصر الارهاب الذى عاشه المواطنون : بينشقى رحى، بين مطرقة الدواعش، وسندان أجهزة الدولة، يقول عبر الرواية :
( أدار محرك السيارة وانطلق غاضبًا مواصلاً سيره. لاذ كل منا بصمته حزينًا للحظات على ما يحدث للديار التي كانت حتى وقت قريب عامرة بالسلام والألفة والمحبة، وأضحت الآن خرابًا يدمي القلوب حزنًا، وكان كافيًا لإظلام أي طاقة أمل لدى أهلها في غدٍ أفضل.
غدٍ، قال السائق: يبدو أن شمسه لن تشرق أبدًا، وتعبيرًا عن غضبه وقنوطه، تساءل وهو يضرب المقود بقبضة يده: يا إلهي إلى متى هذا الجحيم؟! لقد كنا نعيش جحيمًا واحدًا، وأصبحنا الآن نعيش بين جحيمين.. التفت نحوي قائلاً في استغراب: أن كل من الطرفين لا يروننا سوى حشرات تستحق السحق تحت نعالهم..!. وكما لو كان يلومني على صمتي، تساءل مندهشًا: لمِ أَنت صامت هكذا، فلتقل شيئاً؟! . "أحيانا يكون الصمت أبلغ من الكلام"، رددت محاولاً قطع الطريق عليه، قبل أن يستدرجني للحديث في أمور، من المؤكد سوف يودي بي الخوض فيها في النهاية إلى أحد أمرين: إما الاغتيال على يد الجماعات المتطرفة، أو اعتقالك والزج بك في السجن، فما أدراني أي الطرفين يؤيد الرجل، الدولة أم جماعة "الإخوان". ولأن الشك سيد الموقف، والكل مشُتبه به، حرصت منذ بدأت الدولة حربها على الجماعات الإرهابية، على عدم الدخول في نقاشات لا طائل منها غير تعريض نفسي للأذى، تجنبًا له، قلت للسائق: من الأفضل أن يتابع سيره، ويدعه من التحدث في ما لا فائدة منه).
انه حال سيناء – الآن – يرصده،دونتذويق،أوخوف،يرصده كما هو،كما رآه .
انها رواية السيرة، عبر المكان (السير / ذاتى)، حكاية البدوى مع المستعمر، حكاية الانسان مع الظلم التاريخى / الأيديولوجى / الفيزيقى / السياسى ، وحكاية سيناء ، يسرد لنا الراوى - عبر المكان - أحداثاً وأماكن ، ويعبر بنا عبر الجبال والهضاب الى الذات والمجتمع. يحيلنا الى ذواتنا العاجزة المقهورة تحت ركام الارهاب ، وقبضة القوة من جانب الجيش، وهو الضحية – كما بسرد - يدفع فاتورة لجرم لم يرتكبه، ولارث تاريخى، وأيديولوجى، وعقائدى ليس طرفاً فيه ،بل يدفع فاتورة نظم ومذاهب، وتعصب، وفوضى خلاقة، وثورات لخريف عربى -أسموه ربيعاً- وكان خريفاً على العرب والمسلمين .
ومن المؤكد، تاريخياً،أن الثورات تعيد انتاجية الحياة ، المواطن ، المجتمع ، لكن هناك من يدفع الضريبة، يموت، بذبح، يطلق عليه الرصاص، تتم تصفيته، يستشهد، يقدم النفس رخيصة فداء للوطن ، وللأجيال القادمة.
انها الرواية التى تعكس النضال الوطنى ضد الصهاينة ، ضد اقامة المستوطنات على حساب منازل وهوية الفلسطينيين،هم يريدون محو القضية الفلسطينية من الوجود، ابادة البشر، تجريف الأراضى ليعيشوا ويبنوا حضارتهم الزائفة فوق حجارة البيوت ودمار القرى والمدن في الأراضى المحتلة . يتشدقون بالسلام وأغصان الزيتون، بينما تنوح الحمائم بالدموع والدم على مناظر قتل الأطفال ، وحيث صراع المستعمرات ، الأرض ، العرض ، الحياة، يقول :
( رد صابر قائلاً: لقد تراجع "اليهود" عن قرارهم في إقامة المستعمرة!.
واستطرد بنبرة تشي بالامتنان، موضحًا: كيف تفاجأوا بعد القبض عليه بعدة أيام، بقدوم وفد مكون من أربعة أفراد، قالوا أنهم يمثلون حركة "مابام" الإسرائيلية الداعية للسلام، وقد جاءوا خصيصًا ليدعموهم في قضيتهم، ضد ما يرتكبه حزب "الليكود" الحاكم ضدهم.
رفض داخل صابر تصديق ما سمعه، ودفعه تشككه لأن يعيب علي الحضور تصديقهم في سذاجة لمثل هذه الأكاذيب، مستحضرًا المثل الشعبي القائل" الكلب لا يعضُّ ذيل أخيه".
ما دفع بأحدهم للرد مستغربًا: لكن الوفد أرسل بمن يخبرهم، بأنهم قد رفعوا بالفعل دعوى بالقضية للمحكمة، وينتظرون صدور حكمها فيها قريبًا. كان شك صابر أقوى من شعوره بالفرحة لدى سماعه الخبر، ما دفع به للإعلان عن تشككه مرة أخرى، في حسُن نية وفدهم المزعوم، وزعمه أنه قد جاء لمناصرتهم في قضيتهم .
ـ لمِ جاءوا إذن؟ تساءل آخر متعجبًا. لم يجد صابر ما يرد به عليه، فاكتفى بالقول: لننتظر ونرى.ولم يطل انتظارهم، إذ فوجئوا بعضوين من الوفد يعودان مرة أخرى، ويزفان إليهم بُشرى قرار محكمتهم، بتأجيل صدور حكمها في القضية لثلاثة شهور قادمة للنظر في الأمر، وهذا أمر يدعو للتفاؤل. تفاؤلاً ما لبث أن تحول لديهم إلى تشاؤم،وقد صدمهم خبر رفض المحكمة لقضيتهم، وارتكانها إلى المادة التي تسمح في قانونهم، بنقل جثامين الموتى من مكان إلى آخر!.واحتشدت دواخلهم بالغضب حينما فوجئوا بعربات جنود المحتل تقف أمام ديوانهم مرة أخرى، ويخبرهم نفس الضابط في تشفّ واضح: بأنه يمهلهم أسبوعاً واحدًا لا غير، يمكنهم خلاله نقل موتاهم إلى حيث يريدوا، وإن لم يفعلوا، فسوف يسحق جنوده عظام أمواتنا تحت جنازير الجرافات!.ولأنهم يدركون حقيقة أن ليس بوسعهم مواجهة جنود الاحتلال، لم يجدوا أمامهم من سبيل سوى الإسراع بجمع ما عثروا عليه من عظام آبائنا وأجدادنا ونقلها إلى مقبرة أخرى، وفى مكان بعيد.
ومن شدة ما ترك ذلك في نفوس أهلنا من آلام، بدوا فيما بعد أقل تأثراً أمام اكتشافهم حقيقة أن أعضاء الوفد المزعوم، الذي زارهم من قبل، ليسوا أكثر من أعضاء بالجناح الإعلامي لحزب "العمل" الإسرائيلي المعارض، ولم يكن الوفد مهتمًا بالسلام، ولا يعنيه مساندتهم كما زعموا، بقدر ما وجد في مأساتنا فرصة مثالية، حاولوا استغلالها ببشاعة، ليُظهروا لرأيهم العام، أنهم الأفضل والأجدر بحكم دولتهم من حزب "الليكود!
وما كاد يمضي أسبوعًا حتى وقفوا يراقبون في حيرة وحسرة بالغين، جنود الاحتلال وقد انتشروا في المكان لحماية معداتهم وجرافاتهم وهى تنتزع الحياة من جذور زراعات أهلنا، وما يحيط بها من أشجار الأحراش الممتدة بطول امتداد ساحل البحر، وتحيل مساحات شاسعة منهما إلى منطقة سهلية، تمهيداً لإقامة مستعمرتهم عليها، التي أطلقوا عليها اسم "ياميت".
وحال صغر سن يوسف حينها، دون إدراكه لعمق معاناة أهلنا، وجعله يرى ما كان يحدث حوله بشكل مختلف، وعلى العكس مما كانوا يرونه، حد أن بدا مندهشًا من حيرتهم وهم يتبادلون الحديث حول ما يرونه يحدث على أرضهم ويعجزون عن إيقافه.
انها الرحلة عبر مسيرة السرد من رفح شمالاً الى الجنوب ،رحلة الشتات ، الهلع الأكبر في ظل الخوف من بطش الارهاب والقتل ،عبر صراع القوى السياسية والمذاهب المتناحرة ، والتطرف والارهاب لأعداء النور لقتل الحلم ، وتقييد الخيال ، وهدم الحضارة والتراث ، والعبث بمقدراتنا الثقافية والدينية والحضارية ، لذا لا غرو ان نراه – عبر مسيرة السرد – يسافر في المكان عبر الزمن ويصف لنا سيناء ، ذاته المقهورة ، حال السكان الذين هجروها ، وتشردوا وماتوا ، وقتلوا وذبحوا ، بفعل فاعل ، فهم الخطايا المقصودة ، الذنب الذى في الرقبة ، والذى ينتظر الثأر من الخارجين عن الملة ، والاعتبارات الانسانية ، أولئك الذين يتلذذون بالقتل ومناظر الدماء الهادرة على طبلة الصحراء ، والتى تنادى الاله الخالق ، لذا كان الهروب الى اماكن أخرى ، وحياة مغايرة ، ينشد فيها الأمن والأمان عبر روابى سيناء وتضاريسها الجمالية الشاهقة ، يقول : ( قبل أن تنطلق السيارة، كان قد خطط مسبقًا الذهاب إلى "جنوب سيناء"، والاستقرار بالقرب من "جبل موسى" و"دير سانت كاترين"، ففي ذلك المكان المُقدس يمكنه الشعور بالطمأنينة والسلام اللذين ينشدهما على الدوام، وممارسة طقوس حياته على الطريقة البدائية القديمة، والتمتع قدر الإمكان بجمال وروعة الطبيعة، وبعزلته التي ذهب إليها بمحض اختياره، لمقاطعة واعتزال العالم وشروره.ومثلما فعل النبي موسى سيصعد إلى قمة الجبل، ويتوسل ربه أن يطمئنه ويُريح قلبه الدامي حزنًا، عن حكمته التي تفوق إدراك البشر، من وراء كل هذا الموت المجاني الدائر حوله، ولِمَ صار العالم أكثر بشاعة ووحشية وتعطشًا للدم، بشكل ربما يفوق ما كان عليه في بدائيته القديمة.ولسبب يجهله ويفوق إدراكه، لا يعرف لِمَ غيّر رأيه فجأة، ووجد نفسه بدلاً من التوجه إلى "جنوب سيناء" كما خطط، يطلب من السائق التوقف فجأة في مكان ما جنوب مدينة "العريش"، ومن ثم اختياره لهضبة ما والجلوس على قمتها. لا يمكن مقاومة سحر المكان، والنسيم العليل القادم من بحره، ولا مقاومة التساؤل في حيرة: يا الله لِمَ يصرّون على تشويه كل هذا الجمال؟!.
أرجاء المكان، السهول والتلال والجبال المترامية خلفه، أشياء تشعره بالأسى، وتذكّره بكل ما ارتكب، ومازال يُرتكب في حقه وحق دياره وذويه، وتؤكد أن عليه أن يكف عن تخدير ذاكرته، كي يستطيع العيش والمضي قُدُمًا، كما كان يفعل في السابق.. نظر أمامه، أخذ يتأمل حقول الزيتون الآخذة في الذبول، كما لو كانت تعيش حالة حدِاد على أهلها الذين أُجبروا على تركِها، وحينما رفع بصره قليلاً وأخذ يتأمل مدينة "العريش"، بدت له كعجوز مُثقلة بأحزانها، ومنكفئة على البحر، التي كانت من قبل تغفو على صدره في طمأنينة وسلام، تفتقدهما الآن بشدة..لحظات تأمل عميقة، عظّمت من مخاوفه، وجعلته ينظر إلى المستقبل بقلق، وهو يقلّب في مخيلته احتمالات مصيره.. لحظات أيقظت في نفسه ذكرى لم يكن يرغب في استيقاظها، ذكرى فتاة لا يعرف كيف ظهرت من تراكم السنين وبشاعتها، فمنذ أعوام كثيرة مضت عاش بين نسيانها وذكراها، ومنذ بدأت رحى الحرب تدور في دياره، لا تجيء ذكراها إلا على فترات متباعدة، فما تسببه الحرب من أحزان ومآس كان كفيلاً بأن يُنسيه "سُهيلا") .
انه الحب اذن ، حب المكان ، الوطن ،وكيف لا يحب البدوى وتفاصيل المكان الساحرة ، وجمال البدويات السارحات بقطعان أغنامهن في برارى العالم الشاهق يفتحن شهية القلب للحب النقى،الطاهر المغرد، للكتابة والبوح ، للافضاء، والتذكارعبر المكان والسكون والصمت لصحراء النورالمشتهاة ، حيث تتبدى جماليات السرد المتهادية على الرمال البيضاء الناعمة ، الا ان مشهدية الوصف قد أصابته بصاعقة حيث تهادى أزيز الطائرات من فوقه ، وتم االتعامل معه على أنه ارهابى،وعبر مسيرة السرد الذى يكسر جوقة المشهد يتدخل الكاتب، السارد، الراوى العليم في الأحداث ، وكأنه استيقظ من سبات ليسجل عبر الكتابة تفاصيل الأحداث ، للظلم ، للبراءة التى تنتهك دون وازع ، لأبرياء يساقون الى السجن ،أو الذبح دون جريرة ، يقول : (جاشت بصدره جراح قديمة وجديدة، أشعرته برغبة مفاجئة في الكتابة، فثمة أشياء كثيرة مؤلمة يمكنه الكتابة عنها الآن، وقد لا يجد الفرصة فيما بعد. رأى في تلك الرغبة التي اجتاحته فجأة، فرصة ثمينة عليه أن يغتنمها، فالكتابة كما يُقال: "ضرورة كالحياة، وحقيقة كالموت"، عليه أن يسجل كل ما كان ومازال يعذبه، وما سوف يسبب له ولذويه مستقبلاً المزيد من العذاب.. شعر باحتياجه لشرب كوب شاي، جمع حزمة من أعواد "الرَتَمْ"، أشعل ناراً، ما كاد يضع إبريق الشاي فوقها، حتى سمع أزيز طائرة، رفع رأسه بشيء من الارتباك، رآها قادمة من الغرب نحوه، همس خائفًا: لابد أنها تقوم كالعادة بجولة استكشافية.
رأى من الأفضل أن يلوح لها بيديه ليُبعد الشُبهة عنه، تملكه الخوف ولم يعد يعرف ما عليه فعله. وكمحاولة أخيرة للنجاة بحياته، حاول السيطرة على ارتجاف جسده، وراح يلوح بكلتا يديه في الهواء، كدليل على براءته مما يظنوا، ويدعو الله أن يراه من بداخل الطائرة، ويعقد على تصرفه أملاً أكبر مما عقده على أي شيء في حياته، لكن ككل أمنياته التي لم تتحقق في يوم ما، صوبت الطائرة إليه قذيفة مزقته أشلاءً في لمح البصر.
وأذهلني في اليوم التالي أن راحت الفضائيات تتبارى في عرض وجهه مشوهًا، وراح مذيعوها يتنافسون في الإعلان بحماس عن سقوط خائن آخر من كبِار قادة "داعش"، ويؤكدون بحماس أشد أنه لن يكون الأخير. ومن ثم توالت الاتصالات، تبارك هذا الإنجازالعظيم )..
وفى رواياته : " قبل المنحنى بقليل " ، ورواية : " صحراء مضادة " ،و "حكايات العابرين " نراه عبر العنوان يضعك منذ الوهلة الأولى، على حافة المكان ، التفاصيل ، الواقع عبر الصحراءة المضادة ، المقاومة، المغايرة، المفارقة، والتى تنحو الى وضعنا في قلب الحدث ، قلب الصحراء المجهولة ،المضادة،التى تبدو فيها التساؤلات أكثر من سرد تفاصيل الواقع الملىء بمتناقضات ، ومواجهات مضادة للحياة ذاتها،وللذات المأزومة ، المنكسرة ، التائهة ، الهائمة عبر الصحارى والجبال ، وبين المروج والوديان ، بالقرب من واحة النخيل،وتحت سماء شمس الله ، ورغاء الناقة ، وصوت الناى ، والشبابة ، والأرغول الحزين.
وعبر مجموعاته القصصية : " أشياء لا تجلب البهجة "، "أوضاع محرّمة"، يحيلنا / عبدالله السلايمة الى واقع المجتمع البدوى ، الى المكان عبر فيزيائية السرد،وميثولوجيا الحكايات ، وقضايا البادية المتشابكة، للبنت التى تريد خرق الناموس القبلى لتتزوج من حبيبها، رغم كل القيود ، والأوضاع المحرّمة، التى تمثّل الثورة الكبرى على نظم البادية ودستورها الخشن، الذى يمنع المرأة من أبسط حقوقها الشرعية ، كاختيار شريك العمر، أو أخذها لميراثها ،أو ابداء رأيها بالرفض أمام جمود قوانين البادية البائدة .
ونستطيع أن نقول – قولاً واحداً - : ان عبدالله السلايمة عاشق البادية ، الهائم بتفاصيلها ، كراهب في المكان، ثائر طوال الوقت، يريد الجانب المضىء هناك ليحارب الظلام القيمى ، والعرف القبلى ، النظم المحرمة ،الظلم التاريخى للمرأة ، للفرد ، في ظل قانون البادية الصارم ، وفى ظل الجهل والتعصب لابن العم تجاه الغريب ، الآخر ، الانسان الذى يريد أن يتعايش مع هذا الواقع، فاذا به يرفضه من واقع التسامى ، الغرور بتفاضلية الجنس البدوى على الآخرين ، التصورات الغريبة ، التعصب الأعمى للقبيلة ضد كل الأعراف والقيم الانسانية الكبرى.
ومع كل هذه السلبيات، يحيلنا الى القيم الجميلة كذلك،الى الحب والحنان ،والرحمة والشفقة، والتسامح،ومساعدة الآخرين،وكأنه قديس يحمل بوقاً ليزعق في الظلام بزوال الظلم ، وينادى بالمساواة ، بالعدل والحرية ، بالحب، والسلام بين كل بنى البشر .
يظل / عبدالله السلايمة – في كل كتابته ، عاشقاً للصحراء، مخلصاً للمكان، سارداً للواقع ، مؤرخاً للتاريخ، رافضاً للظلم العظيم ، وزاعقاً في هيولى العالم ، باحثاً عن القيم الانسانية النبيلة ، الكبرى ، عبر الكون ، الواقع ، الحياة .
وفى النهاية : سيظل السرد في سيناء في تبادلية كبرى، بين صورة المدينة ، أو أطراف المدينة التى صورها / "سامى سعد " عبر روايته "السراديب" ، وبين البادية التى رصد من خلالها/عبدالله السلايمة تاريخ المكان/الصحراء، لتتحق المعادلة، والصورة الكليّة للمكان، عبرالريف والصحراء ، المدينة ، القرية ، المكان ، الأيام ، الزمن، السرد الباذخ ، عبر صحراء بادية سيناء الشاسعة ، الرهيبة ، الشاهقة ، والشائكة ، والجميلة أيضاً.
حاتم عبدالهادى السيد



1606330461785.png 1606330416740.png
1606330492109.png 1606330521405.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى