د. عبدالجبار العلمي - قراءة في رواية ” كائنات محتملة ” لـ : محمد عزالدين التازي

- دراسة العنوان :
يشغل العنوان : ” كائنات محتملة ” حيزاً شاسعاً بأسفل الغلاف ، بينما يبدو اسم المؤلف واسم السلسلة التي أصدرت الرواية ، متزاحمين في أعلاه في مساحة متساوية مع المساحة السفلى المخصصة للعنوان .

كتب العنوان ببنط غليظ ، وخط يقوم على رسم بعض الحروف على شكل دوائر بعضها مكتمل ، وبعضها الآخر غير مكتمل. أما النقط فوق الحروف ، فقد اتخذت شكل كرات صغيرة ، بعضها وضع بشكل أفقي ، وبعضها الآخر بشكل عمودي. ورغم أنه يحتل الحيز السفلي من الغلاف ، إلا أنه مع ذلك يتسم بالبروز والظهور ، ويثير انتباه المتلقي بخطه المتميز المنزاح عن الخطوط العربية المألوفة.

إن العنوان يختلف شكلاً وحجماً عن اسم المؤلف واسم السلسلة المصدرة للرواية. فقد كتب اسم الكاتب محمد عز الدين التازي بخط مألوف بلون أبيض في أرضية سوداء. بينما عرف اسم السلسلة « روايات الهلال » ([1]) نوعاً من التشكيل يهيمن عليه شكل الهلال.

على المستوى التركيبي نلاحظ أن العنوان مركب من وحدتين معجميتين هما : كائنات : جمع غير معرف ، خبر لمبتدإ محذوف تقديره اسم الإشارة هذه أو تلك . ومحتملة : صفة لكائنات. تؤشر الوحدة المعجمية ( كائنات ) على نكرات من الأحياء ، قد تكون جماعة من الناس أو الحيوان. وتحيل الوحدة المعجمية ( محتملة) على أن هذه الكائنات من الممكن أومن المحتمل وجودها في عالم الناس. بيد أن ما يجعل المتلقي يستبعد كون هذه الكائنات تنتمي إلى عالم الحيوان هو صورة الغلاف التي هي عبارة عن لوحة تشكيلية لفتاة أو امرأة يبدو من خلال هيئتها ولباسها أنها تنتمي إلى فئة اجتماعية فقيرة. والملاحظ أن اللوحة بالشكل الذي رسمت به ، والخلفية التي تؤثث فضاءها توحي بالأجواء الغرائبية التي سنصادفها في الرواية.

إن العنوان يكتسي أهمية بارزة ضمن العناصر الأخرى المكونة للغلاف. ولا يخفى أن ثمة قصدية لتبئيره باعتباره أيقونا يحيل على العالم الروائي الذي وراء الغلاف. ولكن لماذا احتل العنوان على المستوى الموقعي الفضاء السفلي للغلاف ولم يتصدر موقعاً أكثر بروزاً كأن يحتل مثلا وسط الغلاف أو أعلاه ؟

الواقع أن ورود العنوان في موضع هامشي من الغلاف له دلالته في سياق المتن النصي.([2]) إنه يتضافر مع صورة الغلاف ليحيل على الشخصيات المهمشة التي يمتليء بها العالم الروائي في رواية ” كائنات محتملة “. فكل الشخصيات تنتمي إلى الهامش وإلى قاع المجتمع. وحتى الفضاء المهيمن في الرواية هو فضاء مهمش منسي، ذلك هو مدينة زرقانة. يلخص السارد طبيعة هذا الفضاء ، وطبيعة الشخصيات التي تحيا فيه في المقطع الاستهلالي الذي تبتديء به الرواية كما يلي :

” كون صغير

مدينة للظلام والظمأ والغلواء ، أناسها يحيون بين الأبهاء والخرائب والحدائق والحرائق .

عالم منسي ، متأخر في زمانه راجع في أفول”. ( الرواية ، ص : 9 )

من خلال هذه العتبة النصية ( العنوان ) يمكن الدخول إلى عالم ( كائنات محتملة ) الذي يزخر بالشخصيات والأحداث والفضاءات الواقعية والأسطورية ، والأجواء الغرائبية ، وغيرها من المكونات البنائية والتيماتية . وسنحاول مقاربته انطلاقاً من دراسة مكونات الخطاب الروائي الآتية :

السرد الروائي :
يقوم السرد الروائي في رواية « كائنات محتملة » على مسارين سرديين :

المسارالسردي الأول : يتمثل في المحكي الرئيس في الرواية. وهو محكي صلاح مهندس الآثار الذي قدم إلى مدينة « زرقانة » ليرمم بها برجاً تاريخياً. وهذا المحكي لا يتخذ مساراً خطياً في السرد الروائي ، بل يرد بشكل لا يخضع لأي ترتيب أو تتابع. إنه يتبنى « نوعاً من التركيب السردي المتداخل ».)[3](

وفي مثل هذه الرواية المنفلتة من طرائق السرد التقليدية ، يكون لزاماً على القارىء أن يفككها ويعيد تركيبها.( [4] )

المسار السردي الثاني : ويتضمن عدة محكيات تتعلق بشخصيات أخرى في الرواية أمثال : الشاب ربيع ـ فريديريكو سيبيانو ـ الحسناء « مباركة » ـ عبد الصادق ـ الساحرات ـ المرأة المعدنية المعجبة بالمجاهد عبدالكريم الخطابي ـ الإمبراطور: محتكر بيع الحلزون ـ الفقيه الزرقاني ـ المُعَلِّم الانتهازي ـ صاحب الورقات الشجرية الثلاث ـ المرواني ـ الغرناطي ـ سعد الدين ابن المعلم النجار محمد المرغادي الذي حوكم في إحدى محاكمات الرأي التاريخية التي كانت شهدتها البلاد أوائل الثمانينات ـ الحولاء زوجة المرواني ـ كريستين حبيبة صلاح.

يرصد السارد من خلال هذه المحكيات عالم « زرقانة » الذي يمتزج فيه الواقعي والتاريخي بالأسطوري والغرائبي. والملاحظ أن أحداث الواقع في بعض هذه المحكيات هي أغرب وأعجب من الأحداث التي تقع في الأساطير والخرافات. . وهذا يدل على أن ثمة واقعاً مأساوياً تعيشه زرقانة وأناسها البسطاء.

الشخصيات :
تنتمي أغلب الشخصيات كما يتبدى لنا ذلك من خلال المحكيات المشار إليها أعلاه ، إلى الهامش وإلى قاع المجتمع بل إلى قاع قاع المجتمع على حد تعبير د. علي الراعي لدى حديثه عن رواية « وكالة عطية » لخيري شلبي.)[5]( فهم يعيشون في مدينة مهمشة فقيرة ، يعاني فيها الناس أقصى درجات الضياع والتهميش والحرمان ، وقصارى طموحهم أن يحظوا بالوصول إلى الشاطىء الآخر كيفما كانت الوسيلة ، ومهما كانت العواقب.

ولكن هذه الشخصيات تتميز بتوزعها بين قيم وسلوكات متناقضة : النذالة والشهامة ـ الطيبوبة والمكر ـ الرقة والقسوة ـ خيانة الوطن والتفاني في حبه ـ النزعة الأنانية الفردانية، والإحساس بالانتماء القومي. وإذا كانت الرواية تتميز بتعدد الشخصيات ، ووفرة المحكيات والأحداث ، فإن المنظور السردي الذي نرى من خلاله الكون الروائي يتميز بدوره بالتعدد والتنوع .

المنظور الســــــردي :
يمكن أن نصنف الساردين في ” كائنات محتملة ” كالتالي :

1 ـ السارد صاحب الاستهلال : ابن ضربان الشرياقي . والملاحظ أنه يستخدم ضمير المخاطب . يوجه خطابه إلى السارد الرئيسي في الرواية ليخطره ـ وكأنه يشمت به ـ بوقوعه في شرك الحكي عن مدينة زرقانة وعجائبها وغرائبها .

2 ـ السارد الرئيسي صلاح التافراوتي : وهو راوٍ شاهد على الأحداث ، مشارك فيها، يحكي عن غيره أكثر مما يحكي عن نفسه ( الرواية ص : 17 )

3 ـ السارد المعلق : ويتدخل للتعليق على السارد الرئيسي في مواطن عديدة من الرواية( [6]) فيعلق على الطرائق التي يعتمدها في السرد، وعلى المنظور السردي الذي يروي من خلاله الأحداث . وينتقد تلكأه في سرد أحداث الهجرة التي هي موضوع الرواية.

إن السارد المعلق يعلن تمرده على السارد الرئيسي ، لأنه لا يريد أن يمارس الحكي على الطريقة التي عهد بها إليه. إنه راوٍ كلاسيكي ـ كما يصرح هو نفسه بذلك ـ يسرد حكايته اعتماداً على البنية الكلاسيكية للرواية ( بداية وسط نهاية) لا على أساس السرد القائم على نتف وشظايا وحكايات أو شذرات مفككة كصنيع خصمه السارد الرئيسي. ولكنه يعود مرة أخرى ليقرر أن هذه الرواية لا مؤلف لها ، وإنما الذي يؤلف بينها الحكايات التي تقع في مدينة زرقانة ( ص : 68 ) . وهذا ما يشير إليه ميشيل بوتور بقوله : « ليس الروائي هو من يصنع الرواية ، بل إن الرواية هي التي تصنع نفسها بمفردها ، وليس الروائي إلا أداة مجيئها إلى العالم ». (([7]

والملاحظ أن السارد المعلق يقوم بدور التنظير للكتابة الروائية ، والكشف عن التقنية المعتمدة في بناء الرواية ، ( اعتماد رواة متعددين ـ تعدد الشخصيات ـ الابتعاد عن البناء الكلاسيكي المنظم و إقامة الرواية على أساس بناء يجعلها قائمة على نوع من الفوضى المنظمة ) (انظر الرواية ، ص : 120)

السارد ـ الشخصية المرواني :
يتسلم السارد الشخصية المرواني زمام السرد من لدن الراوي الرئيسي مرتين فيحكي لنا السارد ـ الشخصية المرواني في مقاطع سردية عديدة عن سيرته ، وما وقع له من أحداث جسام ، أثناء هجرته إلى إسبانيا ، ثم إلى ألمانيا ، وعن الشخصيات التي صادفها سواء في زرقانة أو خلال هجرته في الغرب الأوروبي.

السارد ـ الشخصية المعلم النجار المرغادي :
يتكفل هذا السارد الشخصية المشارك في الحدث بسرد أحداث تتعلق على الخصوص بابنه سعد الدين الذي يعتبره أكبر وجع في حياته. إنه يمثل الأبوة المفجوعة في ولدها الوحيد الذي خاض غمار السياسة ، فأجبر على النفي إلى إسبانيا فرارا من حكم غيابي قاس. ولأن المعلم النجار فنان في النجارة ( من أصل أندلسي ) ، وعلاقته مع الخشب علاقة حميمة ، فقد صار ملاذه ، يخفي بين نقوشه أشجانه وآلامه وحرقته ” إنني أعود إلى الخشب ، أحسه وأرق له ، فيرق لي ” ( ص : 113). في هذا البلد كان يلين الحجر ، وتنعم جذوع الشجر ، بينما تقسو وتغلظ قلوب البشر.

ويلاحظ أن حكي هذا السارد يمتليء بالشجن ، ويتسربل بالشاعرية ، وينم عن نفس شديدة الرهافة . وحديثه عن ابنه سعد الدين يقطر رقة وحناناً وإنسانية . إنه قطعة أدبية راقية مليئة بالإحساس الإنساني الرفيع ( ص : 113 )

من خلال سرد السارد ـ الشخصية المعلم النجار ، نتعرف على الأوضاع السياسية التي كان يعرفها المغرب بعد أحداث سنة 1981. ويلاحظ أن ما يميز السرد لدى هذا السارد هو المزج بين أحداث تاريخية وقعت في عالم الواقع ، وأحداث وقعت في عالم الأحلام والكوابيس .

السارد ـ الشخصية الغرناطي :
نصادف سرد الغرناطي في ثنايا الرسائل الثلاث التي بعثها إلى خطيبته “عشوشة ” :

ففي الرسالة الأولى يحكي الغرناطي العاشق الصادق لخطيبته عن كيفية هجرته على متن مركب صغير مع 17 من المهاجرين السريين ، وعن وصوله إلى إسبانيا . وفي الرسالة الثانية ، يحكي عن ظروف حياته وعمله المضني، ويعبر لحبيبته عن خوفه عليها من أولاد الحرام ، كما يخبرها بأنه تخاصم مع أحد السماسرة المغاربة ، فهدده بإبلاغ السلطات الإسبانية عن وضعه غير القانوني. أما في الرسالة الثالثة فيبلغ الخطيبة تعرضه للطرد من العمل. إن سرد الغرناطي يأتي عن طريق رسائل حميمة لعاشق صادق العشق يبعثها إلى امرأة لا تأبه بالعواطف ولا يهمها إلا المال القادم من الضفة الأخرى.

الفضاء الروائي :
يمكن أن نقسم الفضاء الروائي في رواية ” كائنات محتملة ” إلى فضاءين :

1 ـ الفضاء الرمزي :
هو مدينة ” زرقانة ” وتتضمن عدة فضاءات تؤثثها ، وتوهم المتلقي بوجودها في عالم الواقع ” فهناك في ” زرقانة ” المرسى والديوانة ومحطة القطار ، وقبل أن يظهر البنك ومركز الشرطة ، ومقر الباشوية والمجلس البلدي . ما كان في ” زرقانة ” غير البرج والعبيد الذين يعيشون بداخله وحواليه ” ( ص : 17 ) ، ولكن الراوي يوحي إلينا أنها تنتمي إلى عالم أسطوري . يقول : ” لعلي أمام مدينة أسطورية يكون الداخل إليها مفقوداً والخارج منها مفقوداً أيضاً ” ( الرواية : ص : 18 )

صحيح هي مدينة متخيلة لا وجود لها في عالم الواقع بهذا لاسم ، إلا أن كثيراً من ملامحها واقعية ، تؤكد أن لها وجوداً في الخريطة ولكن باسم آخر ، وثمة شواهد عديدة تثبت ذلك : الوادي ـ النهر الذي كان في زمن ما مرتبطاً بالبحر ، وكانت المراكب تمخر فيه ، وتحمل السلع إلى القرى القريبة من أحد شاطئيه . والآن صار عبارة عن مستنقع تنتشر منه الروائح الكريهة وأسراب البعوض بعد أن أغلق منفذه إلى البحر ، بل كان ميناء صغيراً ترسو فيه مراكب الصيد الكبيرة والصغيرة . ثم هناك حقول البطاطس الشهيرة بطعمها اللذيذ عند أهل تطوان . وقد كان يقوم بزراعتها فلاحون ألمان في عهد الحماية وبعده بقليل . وإن القاصد إلى تلك المدينة من تطوان على متن “الترولي” ، ستسترعي انتباهه ـ عند اقترابه منهاـ حقول منظمة تنظيماً بديعاً ، وقد فصل بينها بأسيجة من قصب .

ألا تذكرنا مدينة زرقانة بمدينة ” مرتيل” الشاطئية الجميلة الوديعة قبل أن تطولها يد التهميش ؟ ” كأنها تعيش على هامش المدن ” (ص : 14 ). ولست أدري كيف غاب عن باحث ([8] ) . قدم قراءة جادة للرواية ، أن فضاءها لا علاقة له بمدينة طنجة. يقـول : ” لقد اغتنت رواية ( كائنات محتملة ) بالخلفية الأنطروبولوجية والتاريخية لمدن الشمال المغربي ( تحديداً طنجة ). ورغم أن القاريء يمكنه بسهولة أن يكشف عن الفضاء من خلال ملامحه الواقعية المعروفة خاصة عند أبناء مدينة تطوان ، فإن ثمة عناصر تمويهية ( محطة القطار ـ البرج ..) تبعد الأذهان عن إدراك هذا الفضاء باعتباره فضاء واقعياً له سمات محددة بصرامة ، مما يجعله أقرب إلى الفضاء الرمزي منه إلى الفضاء الواقعي الواضح الملامح. وغير خفي أنه كما” أن زمن الرواية ليس زمن الساعة ، كذلك فإن مكان الرواية ليس المكان الطبيعي. فالنص الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خياليا له مقوماته الخاصة وأبعاده المميزة “. ([9]) و” ليس من الضروري أن نبحث عن مماثل له في الواقع ، مادامت وظيفة المكان في الرواية وظيفة رمزية واستعارية ، تؤدي دورها مع المكونات الأخرى للعالم التخييلي في الرواية ” ([10])

ولكن الراوي يأبى إلا أن يصرح لنا في نهاية الرواية بأن هذا الفضاء ، سواء بملامحه التي لها وجود في الواقع ، أم بملامحه الفانطاسطيكية التي أضافها إليه خيال المؤلف ، هو صورة مصغرة لفضاء واقعي أكبرهو المغرب.

إن فضاء زرقانة كما تقدمه الرواية هو فضاء التهميش والقهر والفقر والفساد الإداري والارتقاء الاجتماعي عن طريق الانتخابات التي كثيرا ما يشوبها التزوير والتزييف. هو شاطئ يقف عليه أبناء هذه المدينة المحرومون ، يحلمون بالهجرة إلى الضفة الأخرى ، فرارا من هذا الجحيم الأرضي الذي يبدو أنه غير قابل لأن يصير حيزا أكثر إنسانية وقابلية للحياة الكريمة.

الفضاء الواقعي :
1ـ فضاء مدينة تافراوت : التي قدم منها الراوي صلاح . والملاحظ أن الراوي لا يعنى بوصفه. ولا يأتي في الرواية إلا كإشارة باعتباره مدينته الأصلية ، وهو فضاء البراءة والبساطة.

2 ـ فضاء الرباط : فضاء المركز وهو فضاء السأم والروتين الإداري . مدينة الرباط ببحرها الذي تتكسر أمواجه على صخور شواطئها بشكل رتيب متكررلا نهائي” ساعات طويلة ، أقضيها أمام ذلك المشهد”( ص: 38)، وبإدارات وزاراتها التي يقضي فيها الراوي زمنا مليئا بالسأم والقنوط دون أن يكلف بعمل ما. ” ففي العمل لم تكن لي مهمة أقوم بها ، ولكن أحضر في الوقت وأخرج في الوقت. و مكتبي في الوزارة لايزوره أحد لقضاء غرض” ( ص: 38).

3 ـ فضاء ( تطوان ـ الشاون) : وهو فضاء الهامش. صحيح أن ثمة إشارات إلى طابع هذا الفضاء الأندلسي الحضاري ، إلا أن ما تعرض له من تهميش لسنوات طويلة جعله فضاء يمتليء بأوكار تعج بمهربي المخدرات ، ومهربي الإنسان .

4 ـ فضاء البلاد المهجرية:

مربييا ـ برصلونة (اسبانيا) فرنسا ـ ألمانيا. وهذا هو الفضاء المحلوم به من لدن أهم الشخصيات الروائية كالمرواني والغرناطي. إلا أنهم لم يجدوه فضاء مفروشاً بالورد والرياحين ، كما كان يتهيأ لهم ، بل ألفوه جحيماً أرضيا آخر. صحيح أن هذا الفضاء مكن بعض الشخصيات من خوض غمار التجارب مثل المرواني الذي استطاع أن يكسب مالاً وفيراً ، ويحظى بكثير من متع الجسد والروح ، إلا أنه عاد يجر أذيال الخزي والخيبة بسبب خيانة زوجته ( الحولاء) التي أغرتها الحياة الجديدة ، وبهرها بريق المال .

والملاحظ أن ثمة تقابلا بين هذه الفضاءات : فالمركزيقابله الهامش ، والجحيم ألأرضي على أرض الوطن ، يقابله جحيم آخر خارج الوطن تعتوره أشكال شتى من المعاناة والحرمان والإذلال .

تعدد اللغـــات :
يمكن أن نصنف التعدد اللغوي في الرواية كما يلي :

1 ـ لغة الحديث اليومي :

والملاحظ أنها تتخلل في الغالب لغة السرد الفصيحة ، وتأتي على لسان شخصيات من هامش المجتمع كعبدالصادق والمرواني. وتقترب بعض الجمل في بعض المقاطع السردية مما يسمى باللغة الثالثة ، مثل ما ورد على لسان المرواني : ” كان المفضل خردينيرو ولاعب كرة القدم في خط الهجوم مع فريق زرقانة. مرة وجدته يشرب قرعة بينو مع واحد صاحبه ” ( ص : 136)

2 ـ لغة العدول :

وهي اللغة التي يكتب بها العدول وثيقة الزواج بما تتميز به من طقوس ودقة وتوثيق. (ص : 81)

3 ـ لغة النقد الروائي :

ونجدها لدى الراوي المعلِّق الذي يوظف بعض تقنيات و مصطلحات مكونات الخطاب السردي المعتمدة في الرواية ، فنصادف مثلا كلاماً حول الرواية يرقى إلى التنظير الروائي ( السارد ـ السارد العارف بكل شيء ـ الشخصيات تسرد حكاياتها الخاصة والمؤلف يتوارى خلفها ـ الوقائع تقع في مخيلة الراوي صلاح ( ص : 35 وما بعدها )

4 ـ لغة الرسائل :

وقد استخدمها المؤلف في الرسائل الثلاث التي بعثها الغرناطي إلى خطيبته ” عشوشة ” ، وتتخللها بعض الكلمات الدارجة ( الله يعرض لكم السلامة ) ، وبعض الكلمات باللغة الإسبانية ( فويرا ـ بوينوس دياس ـ ليتشي وطوسطادا مع الكيسو ) ( ص : 101 )

5 ـ اللغة الأجنبية :

والملاحظ أن الرواية ورد فيها الكثير من الألفاظ الأجنبية وخاصة من اللغة الإسبانية التي دخلت اللهجة المغربية وخاصة لهجة أبناء الشمال المغربي.

ويفسر د. محمد برادة ميل الروائي العربي إلى استخدام كلمات أجنبية برغبته في “إشعارالقارىء بحقيقة الواقع اللغوي الذي يعيشه المواطن في حياته اليومية أي واقع الاختلاط والرطانة “.([11])

والحقيقة أن استخدام لغة الحديث اليومي في ” كائنات محتملة” ، والكثير من الكلمات الإسبانية الدخيلة ، قد جاء منسجماً مع أغلب شخصيات الرواية التي تنتمي إلى فئة اجتماعية شعبية مما يجعلنا نحس بواقعيتها وصدقها.

القضايا التي تعالجها الرواية :
لقد عاب الراوي ـ المعلق على الراوي ـ الرئيس في مواضع متعددة من الرواية ( ص : 48 ـ 49 ـ 68 ) تلكأه في معالجة القضية الأساس في الرواية وهي قضية الهجرة السرية . ويبدو أن للراوي ـ الرئيس عذره في ذلك. فثمة قضايا كثيرة كانت تشغله ، وتحتم عليه أن يبئرها قبل التصدي إلى مسألة الهجرة. ثمة إشارات إلى :

الفساد الإداري ـ الانتخابات المزورة ـ استغلال النفوذ ـ بطالة الشباب ـ ظاهرة التهميش : المدن والبشر .. إن ثمة أوضاعاً تحتاج إلى إصلاح وواقعا مترديا يحتاج إلى ترميم. وليس البرج الذي قدِم صلاح إلى ” زرقانة ” من أجل ترميمه إلا رمزاً لتلك الأوضاع ، ولذلك الواقع الغامض الملتبس غير القابل للفهم والإصلاح. والحقيقة أن موضوعة الهجرة ليست إلا إفرازاً حتمياً للعالم الجحيمي الذي قدر لأهله أن يكتووا بناره. ويمكن أن نصنف الهجرة في الرواية كما يلي :
1 ـ الهجرة الداخلية من البادية ( الجبل) إلى المدن القريبة.
2 ـ الهجرة الخارجية طلباً لحياة أفضل.
3 ـ الهجرة الخارجية باعتبارها نفياً اختيارياً لأسباب سياسية.
يبقى أن نقول في الختام ، إن ” رواية كائنات محتملة ” إضافة جديدة في مجال السرد الروائي المغربي والعربي بنائياً وتيماتيا ، وإضافة جادة أخرى إلى التجربة الروائية الغنية للكاتب المغربي المبدع محمد عزالدين التازي.([12])


د. عبد الجبّار العلمي


عبد الجبّار العلمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى