محمد فيض خالد - الفهلوي.. قصة قصيرة

نظر إلى شبحهِ المتضائل أمام المرآة في خيلاءٍ ، عدّل هندامه ، مدّ يده نحو عمامتهِ المكورة فوق رأسهِ الدقيق المدبب ، مسحَ طرفها بكفهِ، ثم رمى خياله بابتسامةٍ صفراء ذابلة ، تشبه لون سحنتهِ ، كان نور الصّبح المتكاسل قد تسلّل في الأفقِ؛ يكشف عن قبحِ البيوت الفقيرة ، ويظهر مأساتها التي ما إن تنتهي حتى تبدأ ، ادخل قدمه الهزيلة في قلبِ نعله الجديد ، مطّ رقبتهِ الرفيعة مختالا ، داعب ياقته المنتشية في فرحٍ ، وقبل أن ينصرف من الغرفة ، انسابت نغمات صوته الخشن الردئ ، يرتل آيات من الذِّكرِ الحكيم ، وعبارات الثناء تتوالى منه : الله عليك يا كروان ، عاجلته نداءات زوجته الصّاخبة عن بُعدٍ ، تستعجله فقد أعدت طعام الفطور ، استعاذ بالله من الشيطانِ الرّجيم ، بعد أن انزل عليها من لعناته ما يكفي لمسخها ، مشى في تخاذلٍ نحو الطبليةِ يخبّ في جِلبابهِ ، وفجأة التهب وجهه غضبا ، التفت إليها مترددا ، رماها بنظرةٍ قاسية وهو يقول : فين السمن يا أم أمين ..؟!
كانت المرأة قد لحقت بهِ لاهثة الأنفاس ، ألقت بجسدها الثقيل فوق الدّكة القديمة ، وبيدها براد الشّاي يفور ، قطبت جبينها العريض ، وقالت في حنقٍ مزُمجرة : خلص ، ابقى افتكره وأنت جاي ..
زمّ شفتيهِ ، وبدأ يُبرّطم بلكنةٍ غير مسموعة ، معترضا بصوتٍ كالصّريرِ ، ثم غابَ ثانية في خشوعٍ ، التقم كوب الشّاي ، يمصّ منه مصّات سريعة بصوتٍ حاد مزعج ، ثم ألقاه مُحوقلا ، طالبا من الله أن يفتح له أبواب الخير ، وأن يكفه شر الأعادي .
أسبوعا مضى لم يطرق بابه طارق ، ولم يدخل جيبهِ النقد ، وكأنّ ملك الموت يُعانده ، أو ربّما نسي طرائده من بني الإنسان ، ضرب كفا بكفٍ ، ثم أغمض عينيه المثقلتين ، مرّر أصابعه يكرّ حبات مسبحته القديمة ، وهو يئن بالشكوى ، فلولا ما يتقاضاه نظير خطبة الجمعة ، وأجر قراءاته الراتبة في البيوتِ الاثنين من كُلّ أسبوعٍ ، لساء حاله وانتكست معيشته، واضطربت أخلاق زوجته أكثر ، مرّت على وجههِ سحابة من الغضبِ ، ضرب بعصاه الأرض مُتأففا ، سرعان ما انحسرت عنه رويدا رويدا ، لتنطبع على أساريرهِ أنوار البشاشة، وبشائر السرور تكاد تهبّ منها ، حين تنامت إلى مسامعهِ ، أصوات ميكرفون المسجد معلنة : البقاء لله .. الدائم الباقي هو الله..
تقدّم في مشيتهِ في ملامحٍ جادة متزنة ، وسيما الرزانة والحزن ترتسم فوق حاجبيهِ العراض في تظاهرٍ مفضوح ، ها هي الحشود_ ساعتئذ_ ملتفة حول المسجدِ في سكونٍ تام ، تنظر إليهِ في خشوعٍ وإكبار ، تنتظر حضوره كي يتقدم جنازتهم ، فتلك مهمته التي لا يتجرأ عليها أحد أيّا ما كان ، وبعد الدّفنِ يعود مُسرِعا يحمل ميكروفونه القديم ، وتبدأ مراسم العزاء ، التي تستمر حافلة لثلاثة أيامٍ ، يصبح صاحبنا نجم لياليها المفضل، وبلبلها الصدّاح ، هكذا جرت العادة في القريةِ والقرى المجاورة ، حتى أصبح وجوده في إحياءِ تلك المراسمِ ، دينا لا يمكن إنكاره ، يُنفح الرّجل في الأخيرِ أجره ، فيعود لزوجتهِ مجبور الخاطر ، يتقي بقروشه سم لسانها الطويل ، لقد عشق المآتم وعشقته ، وكأنّ بينه وبينها موثقا، وكأنّه لا يعرف للفرحِ طريق .
تعوّد الكبير والصّغيرِ صوته النّشاز، يتردد ثقيلا بآيات الموت المحفوظة ، وقراءته المقتضبة ، وأدعيته التي لا تقتصر على الأمواتِ وحدهم ، بل تطال من طبخ وغرف وناول الأطباق في تلك الليالي ، صوته لا مهربَ منه أبدا ، حتى ليالي رمضان يحييها الرجل في خفةٍ غريبة ، جعلت من مسجدهِ ؛ مقصدا لكُلِّ من أثقلته صلواته ، فسعى جهده كي يتخفّف منها .
تطفح السّعادة من وجههِ مع تقدّم أيام رمضان، يودّع كُلّ ليلة من لياليهِ بالبشر والسّرور ، فعادة الرّجل السطو على جيوبِ رواد المسجد ، في هذا الوقت من كُلّ عامٍ ، يقف عند البابِ يجمع القروش ، وابتسامة تتمدد فوقَ شفتيهِ ، مهنئا الحضور بالعيدِ السّعيد بنبرةٍ طريفة ، تنساب بعدها الضحكات ، وتنفلت عبارات الدعابة بلا رقيب أو حسيب ، تسكب عليهِ سحرا خاصا ، يتبدى معها شخصا آخر بعيدا عن سننِ التحفّظ التي عهدوها في المشايخِ ، ليصبح بفضلِ حركاته البهلوانية ،حين يهرش عمامته ، ويُضرب فوق جيبهِ منتشيا لرنينِ العملة ، حديث المجالس ، وفاكهة السمار ..



https://www.facebook.com/photo.php?...4rVdt5wIhX-LLseG9PbBx7qn4O-PeHkmZMY1rxfdaFQxk

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى