خمس رسائل من محمد عبده إلى الشيخ إبراهيم اليازجي

- ١ -

وصل كتابك يحمل من العذر مقبوله، ويرتاد من الرضا مبذوله، ولقد كنت تعلم أني ما أردتك إلا لنفسك، فالحمد لله إذ أرجعك إليها، وله الشكر على ما عطفك عليها، وما أنا بالمقصر بك عما سألت، ولا الذاهب بك إلى خلاف ما طلبت، وغاية قولي لا تثريب عليك اليوم يغفر الله لك، وهو أرحم الراحمين. حياتنا شبح روحها المحبة، والمحبة شبخ الإخلاص، فما أسعد وقتًا نرى فيه حياتك منتعشة بروحها، زاهرة بسر الإخلاص فيها، وليس بذاهب عنك أنك كما تكون يكون الناس لك، وأسأل الله أن ينفي عنك خواطر السوء، ويزيح عن روحك الطيبة وساوس الغرور، ويمن علي برؤتك عند الغاية التي أحب لك، وسلامي عليك وحدك من بين أهلك، ولتكن مواصلتك دائمة، والسلام.

-٢-

عزيزي، صفوة البلغاء ونخبة الأدباء، حفظه الله..

تماديت في التقصير، حتى عجز العذر عن التعبير، وخجل القلم من التحرير، ولكن في علمكم بحال منتقل إلى بلاد قد أنكره هواؤها، وتعرفت إليه أدواؤها، ما لا أحتاج معه إلى بسط عذر يشفع إليكم، ويقبل لديكم، ليت يومًا بعدت فيه عنكم، كان يومًا قربت فيه منكم، فلولا مثال من أدبكم يؤنسني إذا استوحشت، ويشفعني إذا انفردت، لكان سهمي أقصد ما يصيب المحرومين.

-٣-

هامة الفضل، وجبهة الأدب، حفظه الله..

أكرمني الشيخ بإيفاد كتابه، يمثل لي ما لم أنْسَ من آدابه، ويبشرني بتوفر النعمة على سلامته، ويزيدني يقينًا باتصالها في مودته، وسرني استقرار الشيخ على رخاء البال، وإن كدرني ذكر ما هب لديه من عاصفة البلبال، لا ترك الله لها مهبًا، ولا أدام لها مربًّا، وأبلغ الله حضرة الأخ غاية الشفاء، ووقاكم الله وآلكم من الأسواء.

لا أبرئ نفسي من استبطاء كتاب الشيخ قبل وروده، واجالة الأقداح فيما عسى أن يكون سببًا في تأخر وفوده، واستكانتي في ذلك لسلطان الوحشة، وانهزامي لغارة جيش الدهشة، حتى كانَ الكتاب فيصلًا لحربنا، وناصرًا بل منقذًا لحزبنا، ولا يوفي حق شكره، إلا شغل بذكره.

عجبت لمصير ذلك العقد، وانحلاله قبل أن يشتد، وتغيظ المفسدين عليه، والتفاتهم بالسوء إليه، وهو في مهده، وعلى قرب عهده، كأنما حم على هذه البلاد أن تكون حطبًا لنيران الفساد، وأن يذل فيها العلم، ويضل في أبنائها الحلم، ولا ينجح الفضل في مسعاه، ولا يخيب الجهل في مبتغاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، ويبدل من هذا العسر يسرًا.

-٤-

جناب الشيخ الأروع، والبلغ الأبرع، أيَّده الله..

لو كانت بالدهر ثقة لكانت لأبنائه، ولو حفظ له جوار لصح لحلفائه، ممن درجوا على سنَنَه، وله فيهم كل يوم غدرة، ولجيشه عليهم كل آن كرة، فكيف يرجى لمن نابذته طباعُهم وخالفت أوضاعَه أوضاعُهم؟! فهو يتقلب، وأرواحُهم في الفضل ثابتة، ويتغشمر، ونفوسهم للحق مخبتة، فالفضلاء -وأنت وسطهم- لا يزالون معه في حرب دائمة، والعرفاء -وأنت هامتهم- في مقارعات معه متفاقمة، لكنهم يرون له أنكى من نكاياته، التدرع بالصبر في ملاقاته، ورد وَثْباته، بسكون الجنان وثباته، ولستُ أُذَكِّرُ الشيخ بمثل ما قال أرسطو "ما أشد ظلم الناس، يستقبلون القادم إلى الدنيا بالفرح والسرور، ويتبعون الراحل عنها بدعاء الويل والثبور، ولو أنصفوا في أمرهم لعكسوا في حكمهم"، وأن مصيبة الراحل عنها عظيمة، ورزيئة اليأس من لقائه جسيمة، وحرماننا من آدابه يَذْهَب بالنفس حسرات، وخلو وطنه من مثله يذيب القلوب الواجدات، ولكن سَئِمَ العناءَ ودارَه، وكَرِه الباطلَ وجوارَه، فاستقبل وجه البقاء، وخلص إلى ما إليه التجاء، فما الحيلة!! التصبر أجمل من التحسر، والجلد أجدر بنا من الكمد، وإني وإن وَجَّهْتُ الخطاب إليك، لم أقصر الوصية عليك، فلي نفس تشارك نفسك، وحس يشاطر حسك، وهذا حديث نفسي أنُثُّه، وما يخالج صدري أبثه، وإن العناية بالراحل عنا في تربية ولده، خير لديه وأوفى بحقه، من مطاوعة الأسف لفقده، وأنتم موضع الرجاء لخلفه، كما كنتم منتهى المجد لسلفه، وأسأل الله لكم حسن العزاء، وصرف البأساء، وإقبال النعماء.

-٥-

عزيزي الفاضل، أيده الله..

لمثل أدب الشيخ الفاضل تغني الإشارة عن طويل العبارة. وصلت مصر ومثال الشيخ آخذٌ بجنابي، وذكره مالك للساني، ورجائي أن تدوم مواصلته، وتحيي النفسَ مراسلتُه، والسلام على من يحب من ذوي اللب.

في ١٦ صفر سنة ١٣١٠هـ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى