محمد بشكار - أقْرَبُ من حَبْل النَّشيد!

من ينْكُر أنَّ أول مواجهة للإنسان مع نفسه كانت مع المرآة، بل إنَّ هذه المواجهة مع أوجُهِنا احتدَّت مع الأيام وصارت لا تخلو من سلاحٍ أبيض، ألَيستْ شفْرةُ الحلاقة أول ما غدونا نواجه به ذقوننا في المرآة، والحقيقة أن النظر في الزجاج أهْوَن من مواجهة الكاميرا التي تجعل المرء عارياً تحت أنظار الجميع، ذلك القلق ما شَرَدَ بذهني وأنا مُتسمِّرٌ أمام كاميرا هاتفي أصوِّر أمسيتي الشعرية التي بثَّها أخيراً مشكوراً بيت الشعر بالمغرب عبر قناة اليوتيوب، تذكرت كل المُدمنين على عبارة بادىء التي ما زلتُ لا أعلم لماذا تسْبِقُ دائماً ذي بدء، فخجلتُ من تكريس نمطيَّة قولها رغم أنها أكثر ما يُتَداول تحت قُبَّة البرلمان، لعنتُ وباء كورونا الذي جعلنا مُجرد كاميرات قابعين في البيوت، لذلك قلتُ للبيْت في كلمتي التي سبقتْ أمسيتي الشِّعرية إنه حُكم القوي الذي جعل لفيروسٍ خفِي تاجاً يؤسس لنظام ديكتاتوري جديد، يُفرِّق ولا يجْمع، وينْأى عن القريب للبعيد، ولكنَّني لا أظُنُّه ينجح مع شِعر تجري به الألسُن وتحفظه الأفئدة، فكأنَّه هواءٌ نتنفَّسه ويتنفَّسنا أقْرَب من حَبْل النَّشيد !
لا أجيد التَّحدُّث عن نفسي بكاميرا أو بدونها، كما لا أجيد الإصْغاء لمنْ يتحدَّث عني، لأن كلماتِه سواء بالإطراء أو الرثاء، تتجاوز سمْعِي مباشرةً إلى مُستقرِّها بقلبي، ماذا أقول إذن وأنا فاشلٌ في الحديث والسَّمع، ولكن ربما أسْعفَتْني اللحظة الشعرية بمُتَّسعِ الوقت الذي وهبه لضجرنا زمن كورونا، لأنبِّه إلى أنَّني كباقي الناس لا أتذكَّر الصَّرْخة الأولى التي جعلت المُمرِّضة تُغْمض عينيها بخُشوع وتبْتسم لولادتي، ذلك شأْني أيضاً مع أوَّل قصيدة لا أذْكُر متى كتبتها، لا أذكر عنوانها رغم أنه مسكني القديم، هل هو الحنين لصرختي الأولى أو لطفولة وجهي الشِّعري أريد أن أتفحَّصه باحثاً في ملامحه عن أوجُه الشَّبه مع ما أكتبه اليوم من شِعر، ولن أتكبَّر على نفسي إذا قلتُ إنَّ ذلك النص ليس شِعراً، ولن أتجبَّر إذا زدتُ في القول إنه بأسباب الحياة الكامنة في صُلْبه أكثر من شِعر ولو لم يكُنْ قابلاً للنشر، ولكنني موقنٌ أنَّه نُطفتي الأولى التي قذفتها في رحم الطبيعة، وها هي مع الأيَّام تكْتسي مع قِلَّة ما راكمتُه من شِعر، لحْماً بِبَشْرةِ الورد، هاهي نُطْفتي تجْري بالحِبر مع الدم في عروقي، واشْتدَّتْ أطْرافُها فهي بِخُطاي تمشي لتسْبق بعض الخيال، وبذراعي تُعيد علاقتي بالشِّعر كما تعيد امرأةٌ العلاقة بحبها القديم عائدة إلى أول العِناق !
قدْ لا أجد جواباً حين أُسْأل ما علاقتي بالشِّعْر، فما أدْراني أن يتنكَّر لكل ما أُبْديه تُجاهه من وِد وأنا أنْثُره بمدائح الورد، بل قد يُجافيني الشِّعر أنا الذي لم أرافقه في أغلبيته طائعا لعقود، فاحتفظتُ بما أكتب لنفسي مُعْلناً العِصْيان، وما أكثر اليوم من يسْتمرُّ شاعراً دون أن يكتب شِعراً يُذْكَر، وإنَّها لحالةٌ عصِيَّةٌ عن التَّفْسير كبعض الأحلام، والأدْهى أنْ تجد من الشُّعراء من يُداريها بصمت كما يداري الضِّمادُ الجُرْح، الأجْدر أن نُسْأل عن علاقة الشِّعر بنا، هل يكتُبنا كما يجبُ أن نكْتبه ليستحِقَّ اسمُنا أنْ يتبوَّأهُ إيواناً في الدِّيوان !
القصيدة الأولى كصرخة ولادتي التي لم يسجّْلها أحدٌ في أودْيو أو يصوِّرها في فيديو، لا توجد في دواويني الأربعة، لا في "ملائكة في مِصحَّات الجحيم" أو في "خبْط طير"، ولا في "المُتلعثم بالنبيذ" أو "عبثا كم أريد.."، هي زمني الضَّائع الذي ما زلتُ أبحث عنه بين أوراقي القديمة، كل ما أذكره أنِّي كتبتها في أحد دفاتري المدرسية ذاتِ خُطوط الطُّول والعَرْض، وقد تسبَّبتْ لي شبيهاتها من القصائد التي كنتُ أحبِّرُها بخطِّي الرديء في مرحلة الشَّغَب بالطَّرد مُؤقتاً من مدرسة الشَّعْب، لقد غارتْ أستاذة الفرنسية على هيْبتها في القسم وهي تراني شارداً أداعب أحْرُف قصيدة غير آبهٍ بالفرض، وكان ذلك منْ حقِّها رغم جَوْرِ القِصاص الذي أوْقَعها في الباطل، أذكُرُ أنِّي انطلقتُ فَرِحاً بحريتي وما زلتُ منذ أزَلئذٍ أذْرَعُ الأرض هائماً في كلِّ وادٍ أبْحث عن بنات أفكار أُزوِّجها لأوْلادي أقصد قصائدي!
إذا كنت أشبِّه أوَّل قصيدة يكْتُبها الشَّاعر في حياته بصرخة الولادة الأولى، فلا أعْرِف هل أنا على خطإٍ أو على جادَّة الصواب وجدَّتِها إذا قلت إن أبْلَغ الشعراء من يولد مع كل نصٍّ شِعري قاضّاً المضاجع لا يكُفُّ عن الصراخ، ولا أقصد بالصرخة ما يسْتروح الإنسان بعويلها عن النَّفس كي لا تفسد بأنفاسها الرئة، بل أرمي إلى صرخة الشاعر المُختلفة عن غيرها وهي اليوم للأسف سائرة لفُقدان، تلك الأشْبه بالدَّق على الخزَّان، والتي فضَّل أبْطال رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني الموت على اقترافها أمام أسْماع العالم، وما كانوا باختيارهم للصَّمت الذي يعْقُبه الموت اختناقاً بأبطال، وما كنتُ لأستمِرَّ شاعراً دون أنْ أرْبِط بصرختي الأولى الإتصال!


...........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي " ليوم الخميس 26 نونبر 2020


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى