سليمان يوسف إِبراهيم - قراءة في قصَّة قصيرة من أَدب الدكتور جميل ميلاد الدّويهي "الكرْم على التلّة"

1- قراءة في القصّة بقلم الأديب سليمان يوسف ابراهيم

يُقلُّنا الأَديب جميل ميلاد الدُّويهي معه، في مشواره إلى كَرم الـمُنى: كرمٌ اصطحبتْه إليه الأمّ الحبيبة، من نسج خيالهما كما الأَحلام التي كانت تراود روض حبَّهما.
إِنْ كان كوكبُنا حيث نعيش، هو كرْمُ الإِنسان، بكَرَم ٍ من ربّ الكون وفيض جوده؛ فالسَّماء موئل الرَّب الذي إلى دنان خمرة محبَّته، نتلمَّظُ شوقًا لسُكنى ومُكوثٍ.
فالأمّ، تدعو ابنها لمرافقتها إلى الكرم الذي تمنَّياه مرتعًا لأَحلامهما... تنظر إِليه على أَنَّه رجلٌ بالرُّغم من سنّ الطّفولة الجامع بينهما. باختصار، ولدها الحبيب طفلٌ أَنضجه حبُّها.
يغمِسُ الكاتب الدُّويهيُّ ريشته على ما تبدّى لي ، حينًا في حُقِّ خياله، وآخر في جُرنِ رمزيَّةٍ يعينه دفقه، على عمادة صورٍ وتلاميح تودي به إلى تحقيق الـمُرام من أُقصوصته الغنَّاء سردًا، حوارًا وتحليلًا نفسيًّا.
فكَرْمُ اللُّقيا، لا وجودَ له على أَرضٍ جاءَها، وموقعُ الكَرْم هذا، التَّلة: مَنْ يتعشَّق الذَّهاب إليه، عليه أَن يرنو إِلى علُ، وأَن يخطوَ صعودًا إلى أَمام. والحبيبةُ تلك التي ترنو إلى حبيبها رجلًا، بالرُّغم من سنِّه الطُّفوليّ، تكمنُ نظرتها، في كون أَنَّ النَّفس بسيطةٌ كما الرُّوح، مُكتفيةٌ بذاتها، لا تشعر بنواقص عالم المادَّة، تحتاج إِليها لترتقي إلى ديارٍ، تلبَّست منها جسدًا فانيًا وغادرتها إلى غربةٍ، تتوقُ إِلى العودةَ منها، والوقوف على مشارف منبتها.
والنَّاطورُ، مرامه من الكرم عناقيدَه. لأنَّهُ، على مادَّةٍ تسلَّط، وليس له من الكرم روحَهُ: فشتَّان ما بين كرَّام الكرم وناطوره... فهل يصح إِقحام قول "عدالة السمّاء هي غيرها عن عدالة الأَرض" في هذا المَعرِض؟ ربّما.
في حين أَنَّ الحبيبة الامّ – روح الكاتب الطُّفوليّة- التي تُخاطبُه عند كلِّ مُفترَقٍ: تُحاسبه على أَقواله وأَفعاله كي يأتِها راقية ًكمثلها. فإِن كان للنَّطور من الكَرْم عناقده التي يحصل عليها عُنوةً؛ فللكاتب وحبيبته من كرم الحياة خميرة عيشٍ وخمرة عمرٍ يكنزانها في دنان الحاضر لعرس الـمُستقبل الـمُنتظر! ونِظرة الأمّ الرُّوح إلى ما يُسلبُ منهما على أَرض، فبسَيف الحقّ سيُستعادُ حين العودة إلى السَّماء والوقوف على بيدر غلالٍ لا تنقضي لها مواسم. فنصيحة المرأة المفصليّة في الأُقصوصة الرَّمز: "لا تَخَف. عندما يخاف الإِنسان، يُصبحُ مَيتًا". حينها، يتيقَّن الحبيب، أنَّ استرجاع الكَرْم/ الملكوت المسلوب، لا يتمّ له إِلَّا غلابًا، بإِصراره على العودة إلى ديارٍ أُعدَّت له، وقيّومُها ينتظر عودته، ليُقيم الأَفراح.
فأمّه تلك، الـمُلازمته منذُ الولادة، تفيض عليه حُبًّا، من غير أن تطالبَه بمُبادلتها الحُبَّ بمثله. دومًا ترشدهُ، تأخذ بيده، تصحِّح مساراتِ مِشيته، تقدِّم له سُبل إِنقاذه من براثن ناطورٍ جشعٍ ما بثَّ في نفسه يومًا سوى الخوف والرِّعدة على مصير غلال العمر... ولما حلَّت لحظة مواجهة ذاك العتيّ الـمُتصلِّف، نجدُها تقدِّم لحبيبها الأَزلي، الوسيلة الفُضلى للتغلُّب عليه والتَّخلُّص منه أن يُمسكهُ من ذقنه فيذوب، يهوي، وتتلاشى قوَّتُه. وعندما نجا من التَّجربة، وجدها إِزاءَه مُستصرخَته أن يلملم قواه وينهض مُجدَّدًا، لأنَّ عناقيد الخمرة الحقَّة، باتت تنتظره ليقطفها.
كلُّنا مُعرَّضون للتَّجربة، والحياة هديَّةٌ من باريها، لـمَنْ يواجهها وينجو بنفسه من التلَّظي بنيران آتونها. (فله الحياة الأَبديّة). فالتَّجربةُ، عنبها أَسود؛ أَما الخلاص فكرمُه دوالٍ شُقرٍ تقطر لأَهلها الحلاوةَ عسلًا!
فالأمّ الصّادقة الـمُرافقة لنجلها، وجدتُها، بِلا هوادةٍ، ترشده إلى دروب الخير وسُبل الصَّلاح؛ لأنَّها من شمس الحكاية المنتصبة في كبد سماء القِّمة الـمُنتظِرة عودتهما، تستمدُّ وهج نورها الـمُشير.
الابن الحبيب، أَظنُّه يرى إلى الكَرْم ملعبًا يلتقي في رحابه بالامّ، بينما ترى فيه هي مدرسة حياة، تلقِّنه في رحابه دروسًا من لدُنِ بساطتها وهي، خدينة الـمُعطي ورسولته الأَمينة. فمن تعاليمها، أَن يُصرَّ حبيبها على أَهدافه ليحقِّقها. فلا يجب أن يكتفيا بالذَّهاب إلى الحقل ليستظلَّا الشَّجر، بل من واجبهما الإِلتفات إلى ثمرها، جنيها... والتَّلذُّذ بمذاق طعمها. حينها، يكونان قد أَصابا من نجاح العيش معًا وطرًا.
وهو، تماشيًا مع نِظرة المرأة إِليه رجلًا، بالرُّغم من فتوَّته وصِغر سنِّه، يطلب إِلى النَّاطور، إِن كان يريد محادثتهما أو مفاتشتهما بأَيٍّ من الأُمور؛ فليتحدَّث إِليه هو "حديث رجلٍ لرجل"! فالكاتب، يرتقي بحديثه ويترفَّع ليماشي كِبرَ المرأة المعلّمة! فهي تشحذُ هِمَّتَه، وتشدِّد من عزيمته على المواجهة، مُستبطةً له الأَساليب الناجعة: "إِمسِكْه في ذقنه، فيذوب كالماء".
فالرُّوح تشحن الإِنسان بطاقة الخير، لتمكنه من التَّصدّي لقوى الشَّر الكامنة في المادّة، والتّغلُّب عليها.
المرأة هي روحه، وبالرُّغم من كمالها بالمعرفة، تسائلُه بأُسلوب تجاهل العارف:"أَلستَ ملاكًا؟" وهي، على يقين من معرفتها بأنَّه ملاكٌ يحرسُها، وبأَنَّه، وإِنْ يكُن ملاكًا، فواجبٌ عليه أن يسخِّر قوَّته كما وقواه، في سبيل الحِفاظ عليها والدِّفاع عنها.
فالسِّحر والخرافة يتراءَيان في الأُقصوصة بين مشهديّةٍ وأُخرى... فلمَّا مسَّت روح الملاك جسمًا مادِّيا، سقط من بين يديه مُتأَلِّمًا... وإن تألَّم، فما همّ؟ أَليست الغاية، أن يصيبَ النَّجاة من موتٍ مُحتَّمٍ؟ وها الصَّوتُ- صوتُ الأمّ الحبيبة- يأتيه مُطمئنًا، وكأنَّه صحا من غيبوبةٍ جاز بها لهنيهةٍ: "إِنهضْ، أَنتَ بخيرٍ، فالعناقيد تنتظر مَن يقطفها". ولكن، العناقيدُ التي تدعوه لقطافها، أَهي عناقيد الكَرْم أَم عناقيدها هي؟ أَظنُ أَنَّه ليس من اختلاف على تقاسم بهجةٍ وتوزيع مغانمَ بين الرُّوح وحبيبها!
ففي بعض الأَحيان، نُضطر لاحتمال مذاق الوجع للحظةٍ، كي نتخلَّص من أَلمٍ مُقيمٍ، ينهشنا لعمرٍ من الزَّمن!
عَجُبَ هو من تغيُّر لون العناقيد إِبَّان عودته إلى دالية الكَرْم، فما تركته المرأة الرُّوح ليشُطَّ أَو يتوه، بل خاطبته، مُهدِّئَةً من رَوعه لهول ما صدفَ من تبدُّلٍ: "لا تهتمّ يا بُنَيّ، الأَلوان كلُّها هي لونٌ واحدٌ". فاللّون الواحد الثّابت الذي قصدَتْ، هو لون الحقيقة... وإن كان الإِنسان يتزيّا، بلبوس تختلف وأَلوانٍ تتبدَّل!
فلمّا وعت الرُّوح - الوالدة- ذاتها، تلمَّست الحقيقة الملموسة بكامل بهائها، ووعَّت حبيبها عليها. حينها، شعرا معًا،َ أَنهما بلغا مِلءَ الكَرْم وغاية القِمَّة التي أَعدَّها الوهَّاب لخاصَّة المحبين أَحبَّته.
فالدُّكتور جميل ميلاد الدُّويهي، مُتقمِّصا شخص الابن الشجاع، يخاطب كلَّ قارئٍ يؤم كرمَهُ على القِّمة، لأَنَّنا جميعنا أَبناء الحقيقة، وعلينا أن نُفسِح بالمجال لنورها لأن يتغلغل في ذواتنا، فنستطيب حينها، مذاق خمرة الرُّوح الـمُعدَّة لكلِّ مدعوٍّ منَّا إلى وليمة العرس.
فالمرأةُ هي المرأةُ، بمثل ما أنَّ الحقيقة هي الحقيقة، وهي الـمُمتِّنة عُرى الإَخلاص حتّى الخلاص والخُلوص بمركب العمر، إلى شط أَمانٍ يضمُّنا في الهناك، كما رغبنا برفقة بعضينا ها هنا.
إِنَّ الشُّعورَ الحقُّ، أَلزم وأَهمّ مِمَّا ومِمَّن نشعر نحوه، لأنَّه الأَبقى.فما يبقى في قراراتنا من الحبِّ مذاقًا، لأَعظمَ وأَجلَّ مكوثًا بنا؛ من تذكارات فصوله مصداقيّة أَثرٍ. على ما أَعتقدُ، أنَّ هذا ما أَرادتِ الأمّ أن يَعِيه ابنها - حبيبُها. وهكذا، بدا فعلُ الإفهام بما غدا إِفصاحًا، على لسان المرأة بالـمُطلق، تخطِّيا لحصريتَهُ بينهما في أُقصوصةٍ نقرؤها.
ففي مدى النَّص، نشهدُ النَّفس مُخاطبةً صاحبُها. والكاتبُ، د.جميل، نشهدُ على الفرح يسكنُه، والضَّجكُ يقيم به، بعد أن تحقَّقت له النَّجاة. فروحهُ تلازمه بشغف الـمُحبَّة الهيمى في مُختلف المحطات والظّروف والمواقف. مرتاحٌ هانئٌ برفقة امرأة أَخلصت له الحُبَّ في شتّى اللَّحظات الحرِجَة، حتى غدا الخوف ينتابه، ليس من مُباغتة ناطور لهما في الكَرم، بل من هروب الحياة سويّة منهما، على حين غِرَّة! تأَكَّد لديه، إَنَّهُ وإِن وافته الـمَنيَّة وروحه لا زالت على قيد حياة، فهو لا يزال حيًّا يُرزَق. أمَّا وأَن يلاقيا حتفهما معًا؟ ففي هذا الحتف النِّهائي، وفيه ومنه الخوف الحقيقي الأَعظم!
ختامًا، أَيا صديقي، هل أَجلُّ خوفًا وأَعظمُ رِعدةً، من موت روحٍ طفوليَّةٍ تقلُّ صاحبها فوق مركبِ جناحيها إلى كَرمِ بقاءٍ لا تيبس عناقيدُه، ولا تنضب خوابي روحه، لتصلَ به إلى رحابٍ شاسعات، لطالما منّى نفسه العودة إليها بعد اجتيازه درب الإِياب؟!
جُلَّ مُنايَ أَن أَكون وفّقتُ إلى قراءَة نجوى كاهن معبدٍ تبتّل الكلمة صلواتٍ عند كلِّ شهقة ريشة وهبوب سراج.

***
1- قصّة الكرم على التلّة لجميل الدويهي:

كانت تمسكني من يدي، وتأخذني إلى كرْم لنا. هو ليس لنا حقيقة، بيْد أنّه شيء من أفكارنا، وأحلامنا البعيدة بُعد السماء عن الأرض...
ليس من أمر مستحيل. تقول لي، وهي تنظر في عينيّ الصغيرتين، وتهمس: كآبة هي مدينة... ليست مألوفة عند الصغار.
وكانت تسير معي. ولا تتعب... والأولاد في حيّ العرَب يسخرون منّا: قال عندهم كرم! الكرم ليس لكم… عنب أسود لم يخلق مثله الله.
أتشاجر مع الأولاد في الحيّ. أبادلهم الكلام القاسي. فتقول: لا تدع الكبار يسمعون. الكلمة السيّئة عندما تخرج من فمك تصبح جريمة. والرجال يغضبون كالنار في الهشيم. لا تخبر أبداً أنّك تشاجرت مع الأولاد، ولا تحقّر أحداً من الناس… يمكنك أن تعضّ على الجرح وتتجاهل.
وأسألها عن الكرم هناك على التلّة، حيث نحن ذاهبان بعزم لا يلتوي. وأقول: سمعت من الأولاد أنّه للناطور.
تجيب وهي تضحك: هو لنا. الناطور الأعرج أخذه منّا عنوة، ونحن سنستردّه.
- كيف؟ هل نقوى على ذلك الشرّير، ولا نملك أداة لنحاربه؟
- لا تخف. عندما يخاف الإنسان يصبح ميتاً. الشجاعة تحرّرنا.
نصل إلى التلّة، والشمس في أعلى السماء، امرأة من لهب، تحرقني، وتكوي جبهتي، فأمسح العرق الهاطل من وجهي. وأرتعش، لأنّ المواجهة مع الناطور ستكون صعبة… سلاحنا الإصرار.
ويصرخ الناطور من خيمته: إلى أين؟
فنجيبه: إلى أشجارنا، وعناقيدنا السوداء كالليل. كعيون الخيل الهاربة من المعركة... ما هي مشكلتك؟
ينزل الرجل العملاق من خيمته، على درج من الخشب، فيكاد ينهار تحت ساقيه الطويلتين. إحداهما أقصر من الأخرى، فيتمايل جسده كشبح مخيف. كان ظلّه فوقي مثل جبل. خفت على ظلّه أن يكون ثقيلاً عليّ، فأتحطّم.
يخاطبنا الناطور بصوت أجشّ: أليست وقاحة أن ترفضا أوامري، وتعودا إلى هذا المكان؟
أسارع إلى القول: إسمع أيّها الرجل الطويل القامة كسكّان الكهوف. إذا كان لك شأن معنا، فتحدّث إليّ... رجل لرجل.
- أنت يا صعلوك؟
- نعم أنا. صعلوك وسأنتصر عليك…
يهجم عليّ الناطور، ويمسكني من عنقي، ويرفعني فأظنّ أنّ الأرض أصبحت بعيدة عنّي. وأصرخ…
أسمعها تقول بلهفة: إذا أمسكته من ذقنه، يذوب ويصبح كالماء…
- وكيف أمسكه؟ هو أطول منّي…
- ألست ملاكاً؟
كانت كلماتها بمثابة البرق الذي التهم روحي. مددت يدي الصغيرة، وأمسكت بالناطور من ذقنه، وتعلّقت بها، فأصبح يذوب، ويتلاشى، فسقطتُ منه على الحضيض، أنوح من الألم.
قالت لي: إنهض. أنت بخير… العناقيد تنتظر من يقطفها.
قمتُ عن الأديم بثقل، وهرولت نحو الكرم، وعيناي شاخصتان إلى العناقيد. لم تكن سوداء، بل شقراء، يقطر منها سائل شهيّ. فركت عينيَّ غير مصدّق أنّ لون العنب قد تغيّر. التفتّ إليها، فرأيتها تضحك وتقول: لا تهتمّ يا بنيّ. الألوان كلّها هي لون واحد يرتدي ثياباً مختلفة… هل فهمت ما أعنيه؟
هززت برأسي موافقاً، وقلت بصوت خفيض: فهمت. ثمّ رحت أضحك، ويردّد الوادي صدى ضحكتي.
كانت تراقبني بشغف وأنا أقطف حبّات من الذهب، مسرعاً مسرعاً، كأنّني أخشى على اللحظات الجميلة أن تنتهي، وأن تهرب منّا الحياة على حين غرّة.



عنّايا، في 21/11/2020



* من كتاب الأديب سليمان يوسف ابراهيم "سراج العشايا - قراءات في قصص قصيرة لجميل الدويهي"
يصدر عن مشروع "أفكار اغترابيّة" للأدب الراقي سِدني – 2021

1606488357760.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى