أحمد الوارث - صوت مكتوم.. قصة قصيرة

لمّا غفت عيناي، تسلل إليّ صوت مكتوم، لكنه مزعج. أصَخْتُ السمع إليه جيدا، وأنا أحاول تمييز صاحبه، مستحضرا في الوقت ذاته أصواتا شبيهة اعتدت سماعها من الأشباح في الأماكن المظلمة والمخيفة.
كلما خَفّت حدة الصوت، مضيْتُ وراء أسئلتي المترتبة عن حالة الضجر جراء هذا الوباء اللعين، المسمى كورونا، والذي جعلني، من شدة خوفي، أفرض على نفسي الحجر الصحي، منذ التحذيرات الأولى، حيث وجَدَتْني، بعيدا عن الأسرة، ببيت ورثناه عن الوالد، في عمارة قديمة، لا يعرفني فيها أحد، بسبب ندرة ترددي إليها، أو ربما يعرفونني وأنا لا أدري.
في المقابل، كنت أعرف أن الجوار في العمارات يحمل المرء على سماع أصوات الجيران، وهم يتحادثون أو يتضاحكون أو يتخاصمون، وقد يصل النائمَ شخيرُ الجار، وتستطيع المرأة الجزم لابنتها بأن ما سقط في مطبخ جارتها فتكسر هو كأس من زجاج أو آنية من فخار. أما أزيز الثلاجة، سيما إذا كانت قديمة، فحدِّث ولا حرج، ناهيك عمن يصاحب المطرب في غنائه بصوت مرتفع أو يغني ويرقص...
كنت أعلم بذلك كله، فرتبت له الأمر في خلدي. بَيْد أني لم أحسب لذلك الصوت المكتوم حسابا. صرت، كلما غفوت سمعته، وكلما سمعته انتبهت من نومي، إلى أن أتعبَ فأسقط كما الميت. وفي كل تلك الليالي كنت أتفقد هاتفي بين فترات متقاربة، خشية أن تكون التي زعمت أني لها أعز الحبائب قد اتصلت بي دون أن أنتبه، لتخفف عني وطأة هذا الظرف الأغبر ولو قليلا، لكن في كل مرة كان يخيب ظني، فترتفع درجات توتري ومعه حزني.. حتى تسرب الشك إلى نفسي.. فمن يدري؟ لعل، في غيابها الطويل عني، كانت تنتظر الخلاص بمماتي.
في اليوم العاشر أو ربما التاسع، تملكني الهلع أكثر من ذي قبل، بسبب الأخبار المتكررة عن كثرة الوفيات عبر العالم، بمرأى من العلماء والرؤساء ومسمع. كنت أعرف، منذ البداية، أن ضحايا كورونا، في المقام الأول، هم المسنون، أو المصابون بأمراض مستعصية، وتأكد مع مرور الأيام أن الموت يأخذ فيهم أكثر مما يدع. لكن ما كان ليخطر على بالي أن التطبيب سيغدو بالتفضيل حسب الأعمار. ومن كثرة التفكير في هذا الأمر بالذات، دب في أوصالي تعب شديد، فتكورت في مكاني مثل قطّ مرعوب، أفكر في الاحتمالات المنتظرة، وأنا ألعن منظمة الصحة العالمية التي صنفتني وأقراني، منذ شهر فقط، ضمن فئة الشباب، بينما نحن كهولٌ.
في هذا الخضم، رفعت نظري إلى السماء، أطلب اللطف فيما جرت به المقادير، فوقع على البذلة العسكرية لوالدي، معلقة على باب الحجرة، منذ سنين خَلَون، كان قبل موته يسأل عنها كثيرا... اقشعر بدني، فهربت بنفسي، ألعن الإعلام الفاسد الذي صار أكثر سوءا وفظاعة مما كان قبل كورونا، وألعن عشاق الأخبار المضللة في وسائل التواصل الاجتماعي الذين تفوقوا على الوباء نفسه في الجبن والخبث، وقتل الناس فزعا، في اليوم، بدل المرة، ألف مرة، من دون رحمة.
وحينما عسعس الليل، وحاولت النوم، استفزني الصراخ من جديد، وغدا أكثر إزعاجا، حتى لقد خلته يأتي من البيوت كلها، بما فيها غرفتي التي أجلس تحت سقفها، أكاد، من شدة الهلع ، أتصور الوباء جاثما على كل شيء ينتظر الفرصة كي يتسلل إلى خياشيمي. بدلت المكان... ثم غيرت الفراش... لكن لم يقر بي مضجع.
في النهاية، رميت باللحاف بعيدا، وغادرت الغرفة، أتتبع مصدر الصوت، إلى أن وجدتني واقفا عند عتبة سطح العمارة. كان المنظر هناك مروعا، زاده اصفرار نور القمر والصمت المهيب بؤسا وكآبة. وقفت مشدوها أحاول أن أفك طلاسم الحياة في هذا العالم، فرأيت غرفا أو قل أعشاشا كأنها صناديق أعواد الثقاب المغربية القديمة، على مدار السطح، سوى أنها مشـــيدة، هنا، بالخشب والقصــدير، يكاد من فيها يصـــرخ في وجه البؤس: نحن هنا جاثمون، فارحل إن أحســــست بالقنوط ...
انتابني شعور بالغثيان، فحنيت رأسي، وعدت أدراجي لا ألوي على شيء، إلى أن وجدت نفسي أجلس على فراشي، في قلب غرفتي، والصوت اللعين لم يبرح مسمعي.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى