د. سيد شعبان - حكاية الثعلبان والفيل!

كنت محتالا حين كتبت أنني لن أسر إليكم بما دار في ذاكرتي.
أرجو ألا أكون كذبت عليكم هذه المرة؛ إنها عادة نشأت عليها؛ حيث تحلو الخرافة في بيوت مسكونة بالجن الأحمر.
أو لعلي ممن تدثروا بثياب الأجداد فيرفلون فيها وهم لا يشعرون، نحن هنا نعتاش على المفردات التي نسمع بها ومن ثم نقتاتها فإذا بها تدب داخلنا وتسري كالنمل لا تصدر صخبا.
حاولت جاهدا أن أتخلص من داء الحكي؛ غير معقول من رجل ابيض شعره وانحنى ظهره أن يصفه الناس بالمواوي؛ يبدو أن خازن الكلام لم يعرف طريقه إلي بعد؛ وإلا كان فرض علي ضريبة يسمونها ثمن الحكايات الغريبة.
معلمي الأكبر لم تنطل عليه حيلتي؛ لديه فراسة قلما تخيب، لقد صدق حين أخبرني بثقته في أوبتي سريعا إلى مشاغباتي أو لعله فعل هذا مشجعا لي ونافيا عني الخمول الملازم لي ردحا من الزمن.
كثيرا ما يرفدني بنصحه، يتابعني حين أمسك بالقلم، اصطفاني دون لداتي؛ هذا ظني الذي يخيالني، ليس علي من ملام أن أقر بهذا، بطبيعة الحال ينقم علي الآخرون محبته لي.
تبين لي بعد كثير مما قلت أنني مصاب بهذا الداء، جنون الفن الذي يستبد بصاحبه، على أية حال سأحكي لكم اليوم عن ثعلب وجد فراء شاة كنا ذبحناها في العيد، نفعل هذا دون اكتراث لما يكون من أمر الفراء؛ جاء إلى حديقتنا متسللا ليفترس واحدة من شياهنا الطيبة، لما عثر على ضالته فرت منه حيث مأمنها الذي تحوطه الكلاب الوفية، جرت وراءه ومن ثم أعادته إلى موطنه قرب سياج الحديقة، في طريقه عثر على الفراء، حلا له اللعب معنا، تلبس بالفراء، ولأن جدتي طيبة القلب؛ تحب أن تضم إلى الشياه والعنزات أخريات ممن ضل بهن الطريق، يقال إنها مصابة بداء التخليط، أو لعلها حسنة النية.
زغردت وأخرجت دقيقا ونثرته على رأس وفراء الشاة الوافدة، حين مسحت بيديها وجدت ثنية وفرجة موضع السكين، ظنت ذلك جرحا قد التئم وترك بعض أثر؛ كانت أول أمارة على خدعة سنقع فيها، ليتها انتبهت!
ولأنها طيبة جاءت بحزمة من العشب ووضعتها أمامها؛ تراقصت الشاة المزيفة وصارت تقعى على رجليها الخلفيتين، لا ذنب لها، إنها تجيد تقليد العنزات ضحكت كثيرا، بل رأيتها تحمد الله أن جاءتنا شاة ستكون حديث القرية كلها؛ نعقد في المساء حفلة سمر بعدما ننتهي من صلاة العشاء يكثر الحكي وتبادل الخبرات في ترويض الحيوانات؛ أبي يكره منها الثرثرة، على أية حال خبأت منه الشاة التى جاءتنا بحيلة ومكر، عندنا حمل وديع، له فراء ناعم، يثغو في حنو، كان مقدمه ربيع القطيع، حمدنا الله كثيرا، لم نر مثله في الجمال، متناسق الألون يهتز لحمه كأنه ابن ثلاث سنوات بل وبارع في اللعب، حين يراني يقفز كالحاوي في سيرك المولد.
سرح الخيال بجدتي طوال الليل تقص غرائب الشاة الوافدة: إنها تعرف سر الديك الذهبي الذي يقف حارسا على بئر فرعون الموصل من صان الحجر حتى إبطو تلك التلة المعمورة بالذهب والتماثيل؛ جاءت إلينا نساء القرية كل واحدة تطلب من جدتي أن تترك لها الشاة ليلة لتطعمها؛ إنهن يتفاءلن بها؛ جدتي غالت بشاتها؛ ستكون الدجاجة التي تبيض لنا ذهبا؛ لقد صدقت كذبتها على الأخريات؛ وهذه طامة ماحدث، آمنتها على الحمل الوديع، استدرجته- وهي الثعلبان- وعند باب الحظيرة التهمته؛ انتفخ بطنها؛ أحضرت لها الخالة مسعودة؛ امرأة من الغجر بارعة، يعرفها الثعلبان- خدعها العام الماضي بنفس الحيلة، وﻷنهن يخفن المعايرة تخفي كل واحدة مصيبتها عن الأخريات؛ حتى لا تكون أمثولة بين أيديهن يتندرن عليها ليالي الشتاء أو حين تنيم الواحدة منهن الصغار سيما ولا أشهى من لوك الحكايات القديمة- حين رآها فر هاربا؛ وبكت جدتي ذات الثمانين عاما كنزها الذي طار به الغراب.
لا يغضبها من هذا كله غير شماتة العجائز فيها، يبتدرنها ومن ثم يطلبن أن تقص عليهن ما فعل الثعلبان حين آوته وباركته بالدقيق، ثم يلتفتن ويغمزن بحواجبهن اللاتي تساقط شعرها وبدون ناحلات مثل كيزان الذرة الفارغة أو فمهن الخاوي تصفر فيه الريح.
تناثرت أقاويل أن الأفيال تجيد رقصة الباليه في بحيرة البجع؛ الروس يهبوننا السمك المملح وحين تأكل العثة ثيابنا يرسلون إلى كفرنا فرقة البولوشوي، تتقافز في مهارة فوق الأسلاك، يقسم ابن الحلواني؛ ذلك الولد ماكر يلعب بالبيضة والحجر، إنهم هناك يوزعون جنيهات ذهبية على المتفرجين، سال لعاب أهل كفرنا، أفيال ترقص وتتقافز في مهارة القرود، كل واحد بات يحلم بأن يجد امرأته تحاكي أنثى الفيل، لكن ثمة عقبة يصعب تجاوزها؛ كلهن ضامرات بائسات فالشتاء الطويل فعل بهن العجب؛ تقبل جمعية الفيلة من يتعدى وزنها المائة كيلو جرام ولا يقل طولها عن المتر الواحد، حتى تكون الواحدة أشبه بكرة تتدحرج!
ذهبوا وكلهم طامع أن يجد لديه حلا، أدار فكرة وراء أخرى في عقله، نأتي بمنشار ونقص من أرجلهن ما يكفي؟
ثم بعد نستعير منفاخ عجلة الأخرس الذي يلقي بالمسامير في الطريق عند مدخل القرية؟
ابن الحلواني لديه كتاب به أسرار وأشكال غريبة مفردات تتراقص بين السطور، يهب لهم أرغفة خبز وحبات الفول النابت لكن الأوعية مثقوبة، مر لا عبو السيرك بكفرنا، كل واحدة تمنت أن لو تراقصت على تلك الحبال، إنهن بارعات في التمايل والجري على أطراف الأصابع، حبهان وشخاشيخ وعلب صفيح، ودع وحجر في كفرنا مقام لولي من أولياء الله، أشجار الكافور العملاقة تميل ساعة الغروب لتتوضأ من شط النهر، حكاية وراء حكاية وكفرنا مفتون بصبايا بيض؛ خصور نحيلة وعيون كحيلة؛ كلما تراقصت الفيلة تسللت القرود في حارات الكفر، دمى ذهبية وأقفاص من عاج، وماتزال خزانة جدتي ملآنة بالحكايات تسردها ليالي الشتاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى