أحمد رجب شلتوت - حينما يلوذ التاريخ بالرواية ليتخلص من زيفه

كان الأديب العراقي الراحل سعد محمد رحيم يؤمن بأن الرواية هي المعادل الفني الأعظم للحياة، فانشغل بها إبداعا ونقدا، وتبدى في نصوصه الروائية كما في كتبه النقدية مدى اهتمامه بالعلاقة بين الرواية والتاريخ، ومنها كتابه «السرد يُنكِّل بالتاريخ: رتابة السيرة وانتهاك الواقع»، الصادر عن دار نينوى في دمشق. يبدأ الكتاب بمدخل عن «الذات في السرد» يفضي إلى تسعة فصول أغلبها يدور حول علاقة الرواية بالتاريخ، تنكيلا وتشكيكا، وتتشعب الفصول فتقارب سرديات المنفى والمكان وأدب السيرة واليوميات.
شجاعة فاضحة
يقول رحيم مفتتحا كتابه: «الذوات التي تعتقد أن هويتها صلبة بما يكفي، وجوهرانية ناجزة، نهائية وقارّة خارج التاريخ، لن ننتظر منها أن تكتب رواية جيدة، لأنها أبداً لن تواجه ذاتها بشجاعة ديونيزية فاضحة وصريحة»، فالكتابة لديه «لعبة فضائحية تجعلك في النهاية مكشوفا»، إذ تكشف «ما لا نتحمل استعادته، ما نواريه عميقاً، ما نخجل منه، ما نخاف منه». ويذهب رحيم إلى أنه لا توجد كتابة خارج ذات الكاتب، حتى إن كانت عن الآخرين، مدللا بما كتبه هنري ميلر عن د. هـ. لورنس، فيذكر بالتشابه بين حياتي الكاتبين، ويقول أن اهتمام ميلر بالجوانب الشيطانية في إبداع لورنس هي انعكاس لصورة الذات عبر موشور الآخر، فهي سيرة تعرض الجانب الروحي والنفسي والعاطفي والأخلاقي فميلر «وجد في لورنس هويته الخفية ومغزى ذاته ومصيرها».
مناوشة التاريخ
يقول رحيم إن الكتابة أصلا هي تجربة حياة، إنها ليست نسيج الواقع الحياتي، ولا تأتي من خلف قدرتنا على الإدراك والمحاكاة، لكن الواقع لا يستطيع أن يكون كلي العلم، لذلك تشكك الرواية الحديثة في المسلمات وتعمل على تجريدها وتعيد ترتيب الوقائع انطلاقا من منظور معاكس، فالعمل الفني «يعيد ترتيب الواقع قلبيا وليس بصريا»، والروايات الحديثة تبدي الشك إزاء أشد المسلّمات رسوخاً، إذ تعمل على تجريدها من دعائمها اللاموضوعية واللامعقولة»، والروائي مطالب بأن يكون «خيميائيا يسعى لاكتشاف الوصفة السحرية لذهب المخيّلة». والتاريخ في عرف الروائي مملوء بالفجوات والفراغات، ولا يخلو مما هو ملتبس وغير مؤكد، وخادع ومعتم. وهذا على وجه التحديد هو ما يرغب فيه الروائي جاعلاً من التاريخ ميدان فعل للمخيلة، حيث المصادفات والاحتمالات والافتراضات ممكنات إبداع وحكي ومسارات متشعبة لأحداث تتخذ شكلها، ومنطقها الخاص. هنا على الروائي أن يتدخل مستغلاً تلك الثغـرات، ويتوقف الكتاب طويلا عند ساراماغو، مبينا إن التاريخ معه ينسل من بين أصابع المؤرخ من أجل فضاء أقل زيفاً مع الروائي، ففي الرواية يتم تجاوز ثنائية الحقيقي والمزيف لصالح الصنعة الفنية وحق المخيلة، هناك واقع زائف، ولكن ليس هناك خيال زائف يمكن أن تتهم به الروائي، وهذا ما يبرئ الرواية ويدين التاريخ، وعلى يد الروائيين يلوذ التاريخ بالرواية ليتخلص من زيفه، فساراماغو لا يراهن على حقيقة يطرحها الواقع التاريخي، بل على أخرى تقترحها المخيلة، وها هو في «تاريخ حصار لشبونة» يستنطق التفاصيل ويعيد التاريخ المكتوب إلى غرفة التحقيق ليفككه ويفضح خفاياه، ويهتم بما هو إنساني وأرضي أكثر مما يهتم بما هو من حصة الميتافيزيقيا. هذه الفجوة أو الثغرة في التاريخ المكتوب استغلها آخرون منهم، إسماعيل كاداريه في روايته «الوحش»، وقد يستغل الروائي فسحة تحفز لعب التخييل كما في رواية «الجنرال في متاهته» لماركيز و»مدن الملح» لعبدالرحمن منيف، أو وثيقة مهملة يمكنها أن تغيّر منظومة الأرشيف القديم كما في بعض روايات أمبرتو إيكو وصنع الله إبراهيم.
كاتب السيرة الذاتية يقف بين الروائي والمؤرخ يستعير بعضاً من وسائلهما وأدواتهما وتقنياتهما ليدخل حقلاً آخر، ويقول شيئاً مختلفاً.
السيرة واليوميات
يخصص الكتاب فصلين طويلين لمناقشة «الرواية وسيرة الروائي» و»أدب اليوميات»، ويشير إلى أن النصيحة التي يبديها دائما الروائيون الكبار لأقرانهم المبتدئين، أن يكتبوا عن الأشياء التي يعرفون عنها أكثر من غيرها، أي أن يكتبوا عن حيواتهم وعصرهم، ولهذا تضمنت الأعمال الخالدة شذرات من سير أصحابها، فكان همنغواي موجوداً في رواياته «الشمس تشرق غداً»، و»داعاً للسلاح»، «لمن تقرع الأجراس»، حتى روايته «الشيخ والبحر» يراها رحيم تأملا لأيامه الأخيرة على شواطئ كوبا، «حينما اعتكف العالم وبدأ يقضم نفسه»، وكان بروست موجوداً في «البحث عن الزمن الضائع»، وكذلك هيرمان هيسه في رواياته «دميان»، «سدهارتا»، ونجيب محفوظ في ثلاثيته، وإذا كانت الرواية والسيرة الذاتية جنسين أدبيين ينتميان إلى عائلة السرديات، فإن نقطة الافتراق الأولى بينهما هي أن الرواية عمل فني يستند إلى الخيال، وأن السيرة الذاتية عمل فني يستند إلى الوقائع، ومن هنا يمكن محاسبة السيرة وفق معايير الحقيقة والأمانة التاريخية، فكاتب السيرة الذاتية لا يقوم بوظيفة المؤرخ وهو معني أساساً باستجلاء صيرورة ذات إنسانية بعمقها النفسي، ومحدداتها الاجتماعية، وتكوينها الثقافي، على خلفية واقع تاريخي موضوعي. فكاتب السيرة الذاتية يقف بين الروائي والمؤرخ يستعير بعضاً من وسائلهما وأدواتهما وتقنياتهما ليدخل حقلاً آخر، ويقول شيئاً مختلفاً. وقد ترسخت السيرة الذاتية جنساً أدبياً على خلفية نشوء أفكار عصر الأنوار الأوروبي، كما هي حال الرواية، أي عندما صار الإنسان ذاتاً وعقلاً وحرية في المركز من اهتمامات الفكر الغربي، في هذا السياق صار من الممكن للذات الإنسانية أن تعلن عن حضورها في مكاشفة صريحة، وإضاءة لما هو معتم ومتوار وسري من الحياة، لكن عربيا وبدلاً من كتابة سيرهم الذاتية مباشرة لجأ الكتّاب العرب إلى الرواية ليتواروا خلفها، كما فعل سهيل إدريس في «الحي اللاتيني»، وتوفيق الحكيم في «عصفور من الشـرق»، وكان طه حسين في «الأيام»، رائداً في كتابة السيرة، على الرغم من أنه تجنب استخدام ضمير المتكلم وهو يتحدث عن نفسه مفضلاً عليه ضمير الغائب وكأنه يتحاشى مواجهة الذات.
كذلك تنتمي كتابة اليوميات للعائلة السردية، وقد تبدو كما لو أنها السرد بشكله الخام، بيد أنها حين تتوافر على عناصر فنية ناضجة يمكن وضعها في خانة الوثيقة التاريخية أو الأدب الرصين، أو كليهما معاً، لاسيما إذا ما كتبتها شخصية إبداعية أو تاريخية عامة، أو كانت تنقل تجربة إنسانية عميقة ومثيرة ولافتة للنظر. فهي توفر مادة أرشيفية غنية للدارسين في حقول معرفية متعددة مثل، التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا لأنها تلقي نظرة فاحصة على صورة الحدث الشخصي الجاري على خلفية الحدث التاريخي العام، ويرجع رحيم ندرة كتابة اليوميات لدى الكتاب العرب إلى سبب نفسي خاص بالأديب، وآخر عام يرتبط بمجتمعنا العربي، يتمثل في «صعوبة النظر الى مرآة الذات، وفي حالة تورط بعضهم، إلا أن يومياتهم ستبقى في الأدراج، وربما ستتعرض للتلف بعد رحيلهم»، فكتابة اليوميات تواجه عربيا الصعوبات نفسها، التي تواجهها السيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى