جوليد عبدي محمد - مصطفى.. الرجل الصغير.. قصة قصيرة

ارتفع آذان الفجر بنفس النّغمة الأنيقة لمؤذن المسجد …الله أكبر … الله أكبر … فتململ مصطفى في فراشه، فهذا هو التوقيت ذاته الذى تعوّد فيه على نداء أمه معلنة بدء يوم جديد مفعم بالحيوية والحركة، أم مصطفى سيدة فى الخامسة والثلاثين من العمر، ضئيلة الجسم ككل نساء البلدة، لا تكل، ومتعودة على العمل الدؤوب منذ صباها، تخوض معركة مع حياة مستحيلة لتعول أبناءها الخمسة بعد موت والدهم فى إحدى مستشفيات هرجيسا بعد أن استحال توفير متطلبات العملية الجراحية، وباءت محاولات إقناع الحكيم بالتّخلي عن شرط دفع تكاليف العملية مسبقاً، تلك التّكاليف الخيالية التي لا أمل فى سدادها فى المستقبل القريب، فدفع الوالد ثمنا لحياته أمام هذه المسرحية.
اليوم.. يوم السبت… بداية الأسبوع الدراسى. وكعادته خرج مصطفى من البيت بالزيٍّ المدرسى الذي أحضرته أمه من سوق الملابس المستعملة والمعروف عندنا (هو دايد)، ولحسن الحظ لا أحد يستطيع أن يعايره على ذلك، فملابس جل زملائه فى المدرسة من هذا السوق أيضا، وهو الاختيار الوحيد المتوفر ولمرة واحدة فقط فى السنة، ففى بلد مثل هذا، حتى الظروف المناخية باتت مناسبة وملائمة بعض الشئ لحياة الإنسان البدائى، فلا لزوم لملابس صيفية وأخرى شتوية ، ويمكن أن تكون للعدالة الإلهية يدٌ في الأمر؛ فالناس دائما متقاربون فى الحظوظ مهما لاحظنا غير ذلك.
الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر، أشعة الشمس عمودية قرب خط الإستوائى فى هذا التوقيت بالذات. وشدة الحر مثل الذى اشتكى منه الأعرابى لحجاج بن يوسف عن خطبتة التى أطالها قائلا ” القيظ أصابنا والشمس قد أهلكتنا … ” مصطفى يتصبب عرقاً وهو فى طريقه الى المدرسة، ومظهره مثير للشفقة، ما لمس شيئاً في روح الآنسة زهرة وهي إخصائية اجتماعية عاشت فى أوروبا منذ طفولتها وجاءت الى هرجيسا لقضاء إجازة نصف السنة ولكي تعمل فى نفس الوقت الدراسة الميدانية لرسالة الماجستير التى تحضر ها. نادته ليركب معها، لكنه تجاهلها تنفيذاً لتعليمات أمه بأن لا يقبل أي تعاطف أو أي شفقة من أحد، لوحت له بيدها من جديد، وبعد الحاح استسلم وركب السيارة التى لم يحصل له الشرف في أن يركب مثلها.
“أهلا وسهلا بك يا عزيزي”
“مرحبا” . رَدُ السلام بكلمتين والاكتفاء باسم الشحص بدون حفظ القاب معروف لدى أهل هذا البلد، وينادون الوزير باسمه بدون ألقاب تفخيمية وبدون حرج، وأغلب الظن بأنّ هذا ليس سوء أدب منهم .
“ما إسمك يا بطل” سألته بينما هو مندهش ويختفى جسمه النحيل فى كرسى السيارة.
” لست بطل ولا شئ من هذا القبيل، اسمي مصطفى”
” كم عمرك يا مصطفى؟”
” إحدى عشرة سنة ”
“لا غير معقول، انت أصغر من هذا بكثير!”
” كيف؟ ولم؟ ”
” حسناً، المهم إلى أين أنت ذاهب ”
“إلى المدرسة”

“وفى أي صف أنت؟”
” فى الصف السادس”
ساد الصمت برهة، ومصطفى ينظر من النافدة وفكره مشغول بكيف أصبح كل ما على الأرض يجرى، حتى الأشجار المعروفة بثباتها أصبحت اليوم تجرى وبسرعة على جانبى الطريق. وأثناء قيادتها بدأت بهدوء تعرّف عن نفسها. رغم إنه لم يبال كثيراً بما قالته إلا أنه وجد حديثها مبعث ارتياح وود، وبدأ يحكى لها عن حياة عائلتهم وانه أكبر إخوته وأبوه متوفٍ وهو الذى يساعد والدته فى العمل، ويهتم شئون البيت فى الصباح، وفى المساء يذهب الى المدرسة. فنظام الفترات الذى يعيشه العالم كله لا يعرفه مصطفى وهو الذى يعمل ويدرس فى نفس الوقت. كان يقص بفخر كيف أن له فى العمل طولا وذكرى فى المدرسة، وبدا سعيداً وهو يسرد لها خبرته العملية، كان بيع الخبز في أحد شوارع المدينة أول عمل له، لكن هذا العمل توقف بعد أن كثرت الأفران وبدأوا يبيعونه بسعر الجملة.
فالزبائن لم يصبح لهم وجود،وذكر لها كيف أن الحاجة فاطمة فضلت الشراء منهم بعد أن كانت تشترى منه عشرة أرغفة، وكذلك الرجل صاحب السيارة والذى كان يأخد من عندهم كل ليلة اثنا عشرة رغيفا وحتى جارتنا الخالة سعاد رأيتها وهى تشترى الرغيف من محل الجملة هذا. وفى الليل رويت القصة لأمى وقالت لى الناس عندهم الحق، كيف للناس أ أن يشتروا منا بالغالي وجنبنا من يببع بسعر أرخص. كل الناس ذهبت اليهم … أمى قالت كذلك، وأصبحت غاضبة من الخالة سعاد. والحق كان لنا عليها دين ماطلته علينا شهرا كاملا، وأقسمت أمى إنها ستخلصه منها صباح الباكر بالخير أو بالشر! وابتسم… صار لنا بعد ذلك محل لبيع الخضروات وهو أحسن من بيع الخبز فى الشوارع، قالها وهو ينهى حديثه، لكن فضول الاخصائية وشطارتها جعلته يكمل القصة. وحكى لها بغرور كيف تم قبوله فى الصف الثالث إبتدائى فى أول إختبار له لتحديد المستوى، رغم أنه لم يلتحق بأي مدرسة نظامية قبل ذلك، وإنما كان يتابع بعض الدروس المسائية المخصصة لأطفال اليتامى التابعة لمسجد الحى، وفى الليل كان يذاكر دروسه بضوءالفانوس الذي يعمل بغاز الكيروسين بزجاجه المكسور، وعلى ضوء القمر عندما يكون بدراً، وينام على الحصيرة فى وقت مبكر بعد تناوله لعشاء مكون من ثلاث شطائر لحوح(1) والذى تعمله النساء فى أوقات ما بعد المغرب مع زيت السمسم والشاي، هذا هو العشاء الرسمي في مدينتنا.

بينما كان الجرس يدّق، والصبية يتدفقون إلى الفصول، كان مدير المدرسة- وهو شاب فى أوائل الثلاثينات من عمره، خريج كلية التربية من إحدى الجامعات السودانية- يرحب زهرة بحرارة وجلسوا على كرسيين تحت شجرة ظليلة فى فناء المدرسة. كانا يتحدثان وكأنهما على معرفة مسبقة ، الناس كلهم يحسّون أنّ زهرة قريبة منهم لبشاشتها واحترامها للآخرين. سألها المدير بمرح: “كيف وجدت البلد يا آنسة؟!”

صمتت دقيقة والأسى بادٍ على عينيها ثم قالت: بالله عليك… كيف نقول للعالم أننا نمتلك أطول ساحل أفريقى، وثانى أكبر ثروة حيوانيه فى الوطن العربى، وأراضى زراعية خصبة بهذا الامتداد ويموت شعبنا بالآلاف جوعاً ونتسول اللقمة؟!.. يا للعار… وماذا عن الشباب الذين تبتلعهم البحار والمحيطات هرباً من عدوان ثلاثى(المرض والفقر والجهل) . وعن لصوص ثرواتنا البحرية بأنواعهم وأشكالهم، القريب منهم والبعيد، وعن المنظمات الدولية التي تجوب العالم بأكمله وهي تستجدي باسم هذا الشعب المنكوب، ثم تهدر المساعدات فى ترفيه الموظفين وعمل إحصائيات لا حصر لها، لكى يدفع المانحون أكثر، وماذا عن نار القبلية وجحيم المتشددين (الشباب المجاهدين)،وماذا عن… وعن …وعن …..؟؟؟.
صحيح يا أخت زهرة كل الذى قلتيه. وهذه فعلا بعض المشاكل التى نعانى منها ونحن خبراء فى سردها وساعة الحل بعيدة. وإنما قبل أن نلوم أحدا ونتهم الكل فى المؤامرة ضدنا فلا بد أن نسأل أنفسنا ماذا فعلنا نحن، أنا وإنت للوصول الى ذلك الحل. الذى أريد أن أقوله، نحن فى مجال التر بية نهتم بالعنصر البشرى وفى رأينا هو أساس حل المشكلة ونحن بدورنا هنا لإنجاز ذلك العمل ونريد أن ننتج جيلا يفتخر به البلد ويحب العمل ويحترم العلم ، أمثال مصطفى، قالها بجدية فى نهاية حديثهم. ومازحها مع ابتسامة “أما بالنسبة للشباب الهارب للخارج فاغلب الظن انتم الذين أغريتموهم ” …وضحك الإثنان … وأستأذن ليلحق بالحصة.
طلبت زهرة من المديرالسماح لمصطفى بالخروج لتودعه، فأتي الصغير مسرعاً نحوها يتطاير من الفرح، يقفز فى الهواء تارة ويضرب الأرض برجليه مرة أخرى، أسالت تعبيراته حنانها، فوضعت ذراعها حول كتفيه النحيلتين ، وسلمت له ظرفا لأمه بعد أن أعطته كيس حلويات له ولزملائه، بطريقة ما ذكرته بزيارات والده القصيرة له أثناء الدّوام، كان يدّس الحلوى في جيبه.. لاحظت زهرة لمحة الحزن في عينيه، هذا الفتى الفخور بعمله والمعتزّ بكرامته أذاب شيئاً في أعماقها.. هل قال المدير:” ساعة الحل بعيدة؟!”

همست له وهي تقرص خده “الدنيا حلوة والحياة جميلة يا مصطفى.. أنت رجل حقيقي.. انتبه لوالدتك وإخوانك..) لوحت له مودّعة

(1) رغيف بلدى رفيع مصنوع من الدقيق القمح والذرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى