وفاء الشوفي - أرغفة.. قصة قصيرة

ما زال يسكن خلف التلة .. أحتاجه أكثر من أي شيء .. لكن لم يَحن وقته بعد.
قدمايَ ترتجفان .. و أسناني تصطك.
احسُّ همساً يُحاك خلفي .. أخاف أن ألتفت للوراء فيصطدم وجهي بشبحٍ ... أو أن أقع بين يدي رجل.
أتخيل جنيةً شمطاء تشدّ شعري من الخلف.
قلبي ما زال يدقّ .. أحسه حجارةً ترمى في بئرٍ .. فتصدر ارتباكاً لدى اصطدامها بالقاع.
عندما خرجت من البيت ظننتها الثالثة و النصف ، أو الرابعة إلا ثلث، لكن مضت الساعات و لم يبزغ ضوء الفجر من خلف التلة.
يتقاطرون .. واحداً وراء الآخر. طابورٌ من الرجال النصف نائمين ، لم ينتبهوا لوجودي إلا حينما ملأ الضوء المكان.
لو رآني احدهم في طريقي لن يزيح نظره عني أو خطواته شبراً واحداً ، يرفع رأسه باعتزاز فإن لم أخفض بصري، رماني بكلمة محرجة ، و إن خفضته اقترب مني لألوذ بالفرار.
الكلب الذي نبحَ لدى خروجي من زقاق الحارة الترابي أجفلني و كادَ أن يوقعني مغمياً عليَّ من الفزع.
فتحت أفواهها الحجارة السوداء الملاصقة لطريقي لتصرخ عليّ بصمت. وحتى الشجيرات السوداء تصدر أنيناً مخيفاً على الرغم من وداعتها و حنانها أثناء النهار !
غطى الليل ألوانها التي تبعث السكينة و السلام.
أخطأت أمي التوقيت ، فهذه المرة أنا خائفة كثيراً. قلت لها : ( بعدنا بنصّ الليل) . لكنها أصرّت و رجتني حتى لا أتأخر صباحاً على مدرستي.
لم أعرف كيف نهضت .. كنت نصف نائمة ، عندما دثّرتُ رأسي بكوفية أخي و لبست معطف والدي وخرجتُ دون أن اغسل وجهي.
دسّت في جيبي ورقة نقدية و بقيت تراقبني خلف البوابة الخشبية إلى أن صرتُ شبحاً من اشباح الظلام.
ربما كانت تبكي .. وجهها بدا منتفخاً تحت ضوء مصباح الكاز الذي تحمله بيدها .. ناعسةً و مرتبكة.
ألقت نظرة عاجلة على إخوتي النائمين و لم تكلف نفسها عناء توعيتهم .. فقد تركوا هذه المهمة لي دوماً.
استعجَلت حتى لا يلومها أبي إن تأخرت بالنوم ، ربما استيقظت مرات عديدة في وقت مبكر و غلبها النوم.
بين ظلمةٍ و ظلمة يضيءُ وجهها الحزين ، ثم يغيم بين عتمة أشباح الشجر المنتصبة .. يلهث وحيداً و يسعى نحو جهةٍ الشرق ، يرقب التلال السوداء ليحتضن الشعاع الأول فيطمئن عليَْ. و لا يعود للإشراق أو النوم إلا بعد دخولي من البوابة الخشبية ، كاشفةً عن رأسي الذي لفحته أشعة الشمس ،
و بين يديَّ كومة عالية و شهية من الأرغفة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى