هيفاء حسين عبد - رسالة كراهية مؤجلة.. قصة قصيرة

في ذكرى زواجنا الأربعين قررت أن أخرج من نطاق الصمت الذي ظلت فيه روحي لسنوات عدة قررت كسره وأن أنطق أخيرا ولكن بخفية وخلسة بيني وبين ورقتي رفيقة دربي التي لطالما حدثتها عن حياة أبنائي وعن أحلامهم ولكني لم أحدثها قط عن زوجي العاق والذي كفر بحقوقي الزوجية وتجرد من إنسانيته تركني ضعيفة هشة غير قادرة على تربية فلذة أكبادي الأربعة.. زوجي الذي اختفى ولم يسمع له خبر ولم يره أحد أجهل سبب اختفائه المفاجئ. أعدت حساباتي وعاتبت نفسي وأغرقتها بالأسئلة ولكن الإجابة تظل كما هي أنا بريئة، أنا لم أرتكب أي ذنب. أعطيته الحب والاهتمام الكافي، لم أجرحه ولم أسئ إليه قط، فلم تركني؟!

بحثت وبحثت وكدت أن أفقد عقلي من هول الصدمة والأسئلة المتراكمة في ذهني، وأحبه فهو الحبيب الأول لقلبي والذي شعرت معه بالحب ومعه أصبح لعالمي طعم خاص ..نكهة لذيذة فتحت أبوابي للكتابة وصرت كاتبة بروح حبه.. وقعت في غرامه لحظة لقائنا الأول فهو نسخة طبق الأصل عن رجل أحلامي وسيم وعنده تعليم أكاديمي من المستوى الرفيع له حضور طاغ وجميل ولديه وظيفة راقية تعرفت عليه عن طريق صديقة لي فهو صديق قديم تكرر لقاؤنا وتواعدنا كثيرا أصبحت أعشقه بجنون وأفتقد رؤيته في كل لحظة وثانية كانت فرحتي لاتوصف.

عندما تقدم لخطبتي رفضه والدي في البداية ولكنه بعد إلحاح طويل من أمي ومني وافق على مضض كنت أتقافز واتمايل طربا من السعادة وخرجت احلامي من إطارها الليلي لتشاركني فرحتي في وضح النهار بعد أسبوع والذي مر علي وكأنه سنة تم زفافنا ودخلنا عش الزوجية، عشت أجمل أيامي والتي أصبحت ذكريات أحملها بين ثنايا قلبي أقتات منها عندما أصاب بجفاف عاطفي، حملت ووضعت طفلتي الأولى أسميتها “فرح” نسبة للسعادة والفرح الذي غمر حياتي، أدخلتْ فرح البهجة والسرور إلى عشنا فمهما كنا سعداء تظل ضحكة وبهجة الأطفال تنقصنا، مرت السنوات وكبرت فرح وأنجبت بعدها أحمد وليلى وعمر.

عمر… آه ياطفلي الصغير وشبه اليتيم! لم تر أباك ولم تسمع صوته، اعتبرت نفسك يتيماً مقارنة بإخوتك الذين لديهم مخزون قليل من الذكريات مع أبيهم سامحني ياصغيري أعلم بأنك في داخلك تحمل علي غضبا جماً، ﻹنك ياحبيبي تعتقد بأنني السبب في ابتعاد والدكم، ولكني أقسم بخالق الكون بأنني بريئة مما تعتقده. كيف أكون السبب في رحيله وأنا التي كنت أسهر على راحته آه ياصغيري ويا آسفي عليك كبرت دون أن يتقن لسانك أحرف “بابا”

انسابت دموعي حارقة خدودي حاولت حبسها، ولكني ضعيفة انهمرت بغزارة وكأنها نهر أصابه الفيضان، امتلأت الورقة التي كنت أكتب بها، قلبتها وواصلت الكتابة على الصفحة التي تليها لم أفرغ بعد مكنونات صدري الذي اختنق من كثرة الكبت لا أزال في البداية أريد أن أنفسّ عن مشاعر كتمتها لأربعين سنة لا أدري لم اخترت الكتابة في مثل هذا اليوم، ولكن هناك صوت ما في داخلي يقول لي: أكتبي ولا تتوقفي إلى أن يجف الدم في عروقك …إلى أن تتغير الأزمان، إلى أن تعود الأمور إلى مجاريها إلى أن يتحقق العدل الإلهي إلى أن توافيك المنية.. أكتبي ليحفظ التاريخ قصتك عن ظهر قلب وتصبح خنجرا في قلب كل زوج ظالم، إلى أن يعرف آدم مدى قوة كلمات حواء على تغيير قوانين العالم. أكتبي وكوني جسدا على الأوراق لكسر قانون الممنوعات قاتلي بالقلم وأفرغي ذخيرة حبرك لقمع الظلم كوني ثورة النساء البائسات… أنا بائسة؟!

لا..

ربما تعيسة تناسبني أكثر مرت الساعات على بدئي الكتابة والليل يكاد أن ينجلي، صمت غريب يلف حولي ولا يتخلله سوى صوت رقصة قلمي على الورق وصرير كرسي المهترئ الذي لطالما تشاجرت معي ابنتي البكر فرح بسببه، كانت دائما تقول: “أمي هذة الخردة التي تسمينها كرسياً يفسد علينا جمال أثاث منزلنا، قبيح المنظر وقديم لم لا تلقينه في مكب في النفايات، مكانه الأصلي هناك” ولكن بعنادي وإصراري استطعت الإحتفاظ به.

صغيري عمر أخلد إلى النوم باكرا عليه أن ينام لكي ينهض في الصباح الباكر فغداً هو يومه الأول في الجامعة، يااه .. مرّ الوقت سريعاً أتذكر لحظة ولادته وكأنها البارحة، واليوم غدا طفلي شاباً وسيماً في المرحلة الجامعية.. فعلا الوقت لا ينتظر أحداً يمر مر السحاب ولا يعود. أخذ الصمت من عمري الكثير وأمتصني الحزن ولم يبق لي من نفسي شيء، وفقدت روحي، وتخلى عني قلبي ورحل مع الحبيب. عشت حياتي فاقدة معنى العيش بسلام، في داخلي صراعات وضياع، غمرتني البرودة، وتجمّد قلبي إلى الأبد لولا الإيمان الذي يصدني عن الانتحار لربما انتحرت منذ زمن طويل ولحررت روحي من قيد الكابوس الذي أعيش فيه، لقد ربيت أطفالي أحسن تربية وعلمتهم وشهدت على كل لحظات نجاحهم وسعادتهم شاركتهم أحزانهم وأفراحهم لا أعلم حقا كيف استطعت أن أغدقهم بالحب، وأن أعطيهم حنان الأم، ألا يقولون:”فاقد الشيء لا يعطي” أي فاقد الحب لا يعطي؟

الأمومة هي جزء من كيان حواء أوجده الله فيها منذ الخليقة، هل ياترى كنت أما لهم؟ هل أنا جديرة بحمل وسام الأمومة؟ فمنذ رحيل زوجي انقلبت دنياي رأساً على عقب، وضاعت وجهتي، واختفى بريق شخصيتي وفقدت هويتي،لم أعد أعرفني أصابني التوتر وسرق الأرق مني النوم، لم أذق طعم الراحة لليال عدة أهملت منزلي، وأطفالي باتوا شبه مشردين، ولولا رحمة ربي وبقاء أمي إلى جانبي ﻷصبح صغاري في الشوارع والطرقات.

بعد سنة من التقوقع والهزال وسوء الصحة، استعدت عافيتي وصببت كل اهتمامي وتفكيري على النجاح في حياتي الجديدة فأنا الآن أم عازبة لا تعلم مكان زوجها والسبب وراء اختفائه، وعليها رعاية صغارها، ابنتي فرح بدلا أن أهتم بها هي التي تهتم بي وتراقب مؤشرات ضغظ دمي صارت تطبب روحي وتحاول إسعادي بشتى الطرق، صغيرتي لا تعلم أن جرح الحبيب لا شفاء منه ولكني أسايرها لكي لا تتعب أكثر، أحاول الابتسام بصعوبة والضحك بمشقة أكثر، مرت السنوات تخرج كل من فرح وأحمد وليلى أصبحت فرح طبيبة ماهرة، وأحمد الذي لا يكف عن تسريح شعره مهندساً بارعاً، وصارت ليلى موظفة في القطاع الحكومي مستشارة لوزارة الصحة والذي كان منصبي سابقاً، كبروا وتزوجوا وتركوني، آمل أن ينصف القدر بناتي ولا يعشن معاناتي، أنا وعمر والخادمة ثلاثتنا فقط نعيش في هذا المنزل الكبير، افتقد شقاوتهم وصراخ ليلى التي كانت تشكو من مزاح أحمد وفرح طبيبتي أفتقد لمستها الحنونة، وعناق أحمد الذي كان يعانقني في كل مرة يعود فيها من عمله، كان يقول لن أتركك أبدا يا منى عمري، لقد تركتني وذهبت بعيدا عن أمك يا أحمد لا يمكننا التحكم بالقدر! تفقدت كم من الصفحات قد كتبت فوجدت أني أنهيت للتو الصفحة السابعة ولكن هناك ساعة بينها وبين السادسة أين ذهبت تلك الساعة ربما أهدرتها بالبكاء وبسرحان بالي الذي ذهب ليبحث عن ذكرى جميلة تنبض بالحياة في أزقة ذاكرتي المسنّة فمثيلاتها قد ذبلن وطرن مع أوراق الخريف. لسنوات قاتلت النسيان ببسالة، وكنت المنتصرة دائماً على ساحة الذكريات هل تعلم ياحبيبي أنك لم تفارق ذهني للحظة، ولم أخنك قط،لم أفكر في غيرك ولم يزر أحلامي سواك، امتنعت عن الزواج إخلاصا لك.. ماذنب أبنائك صلب ظهرك حين تركتهم وهم في حاجة إليك، اعتقنت حبك وعكفت على محرابك أمارس طقوسا تحميني من كيد الإنس ومن تحريضهم لي عليك… أكتب إليك هذة الكلمات يازوجي وياخيبة أملي ياجرحي ويا ألمي يادائي، وياشقائي.. أين أنت من دموعي التي لم تحتملها وسادتي ،أين أنت من حزني الذي كادت أن تبيض عيناي بسببه؟ أين أنت من سهري وهجراني للنوم؟ أين أنت من اتصالي برقمك المغلق علّك تفتحه يوماً ما؟ أين أنت من شكواي وظمأي ؟ أعطيتك كل عمري دون أن أنتظر منك أي مردود، ظانة أن الحب لا يؤدي إلى طريق مسدود.

أكتب إليك كلماتي التي تحمل لوعتي وحرقتي، حبي وكرهي، انتظرتك دهراً فلم كفرت بالوصال؟ لم كفرت بحبي وعشقي؟ تمنيت لو يصلني خبر موتك ﻷرتاح.. موتك خير لي من أن أجهل مكانك. أعي جيدا بأن كلماتي هذة لن تصلك أبداً.. ولكني أتمنى أن تأتي ريح لتأخذها إليك أربعين سنة وأنت لا تزال مختفيا هل مت؟ هل أنت على قيد الحياة وتقبع في زنزانة ما؟ بحق ربك قل لي أين أنت؟
هل أتوقف عن كل شيء؟ هل أفعل مثلك وأنساك وأكفر بحبك أهجر ذكرياتك وأرميها في صقيع ذاكرتي؟ هل أجهضك من رحم قلبي وأحرق جثمانك؟ هل أختبأ في أغوار نفسي وأغلق مسامي وأطفأ روحي؟ هل أفسخ علاقتك وأقطع رباطنا المقدس؟ لقد تعبت وبهت جمالي وضاعت أنوثتي وصار الحزن متمثلاً وكأني الحزن نفسه. صرت كالماء شفافة، وعيناي الغائرتان أصبحتا كالكتاب المفتوح يقرأني كل من ينظر إلي يقرأ قصتي وتعاستي، حتى وإن حاولت أن أستعيد حقوقي فلقد فات الآوان على ذلك، من يريدني ومن سيجازف بالزواج مني بعد هذا العمر؟ فأنا عجوز شمطاء تتمتم باسم حبيبها وتهذي وتحلم به. برب الحياة والكون أخبرني أين ستكون من عقابه؟ أين ستكون من عقوقك لزوجتك؟ أين ستكون من سخط الرب؟ أتمنى لو تختنق بكلماتي هذه وتموت على إثر سم الكراهية التي تتغلغل بداخلها، بل أتمنى لو أقتلك بيدي هاتين. ليتني قتلتك على فراشك قبل أن تقتلني ..

أتمنى لو أعاقبك وأجعلك عبرة وعظة لكل من حاول ان يسير على خطاك، وأصنع منك وشما أوشمه على جبين كل زوج طاغية، وجائر كافر بحق زوجته وأطفاله وتصبح درساً لكل بني جنسك، ليتني أصلبك على ساحة عامة، ويشهد التاريخ على موتك وتكتبها الكتب وتمتلئ به الصفحات لكي لا يفكر آدم آخر أن يرتكب جرمك، ولكي لا تصبح زوجة أخرى ضحية ظلم الزوج.
أكتب إليك كلماتي وكوصية لحواء أخرى تقع في حبها لتصبح أفعى تلدغك بسمها وتنفثه عليك وتذيقك من الكأس التي أشربتني منها، فالجزاء من جنس العمل، عش ذليلا مقهوراً.. عش بتعاستك! هنيئاً لك بؤسك وشقائك ولا سلاما على روحك إن مت وسأظل أدعو عليك إلى أن ألفظ أنفاسي الأخيرة.

من: قاتلتك وكابوسك

وصل الآذان إلى مسامعي.. عذباً كالعادة إنه أذان صلاة الفجر، انسكبت الطمأنية في روحي وشعرت بالراحة تغمرني، واستيقظ الأمل في قلبي وعاد ينبض بشكل طبيعي، لقد أزاح عنه هموماً وغيظاً بثقل الجبال، شعرت بالراحة أخيرا أفرغت كل شيء وعدت خفيفة كزهر الياسمين وعادت الابتسامة تعلو ثغري من جديد، نهضت لأتوضأ وأغسل من جسمي بقايا الحقد وتفاصيله. صليت راجية الرب أن يساعدني على نسيانه وتخطي المحنة فهو الغفور الرحيم، دعوت الله كثيرا وتضرعت إليه ليمدني بالقوة وأن يثبت إيماني وأن يقوي من صبري وعزيمتي.

وبينما لا أزال جالسة على سجادتي، دخل وابتسم بسعادة، فنظرت إلى النافذة أشارك زهور حديقتي فرحتها بالصباح الجديد، مشى نحوي بأطراف أصابعه بهدوء وطوقني بذراعيه طبع قبلة على خدي وقال : لم أرك سعيدة هكذا يا أمي الجميلة من قبل، ترى من الذي أعاد إليك سعادتك التي يئسنا من إعادتها إليك؟ هل هناك من طلب يدك؟

لكزته في بطنه وقلت: ماهذا الذي تتفوه به ياعمري، لا.. أبداً. وإنما الحياة عادت لتدب في أوصالي، وهذا بفضل ربي وعطفه علي، ضحكنا وأدركت أنني إذا لم أكن سعيدة فلن أستطيع إسعاد أحد…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى