إبراهيم أحمد الإعيسر - أحزان تنتهي برسالة على جيميل الهاتف.. قصة قصيرة

(١)

لأمر طاريء خرجت من المنزل أو لسخونة المنزل بسبب إنقطاع التيار الكهربائي كنت ملزماً أن تخرج ، لكن لم تكن ملزماً بأن تجلس مع أولئك الناس أو تلك المجموعة من الشباب العاطل ثقافياً ومعرفياً وفكرياً ، الذين يجهلون من انت في معرفة العقل للذات والآخر - رغم أنهم يحملون شهادات جامعية في مختلف الأقسام التي منها العلوم الإنسانية - ولا تجهل انت من هم في معرفة الهو والأنا والأنا العليا عند سيغموند فرويد ، ذلك في مجلس غيبهم المعرفي أو الأبستمولوجي ، ولولا فرضية الواقع لكنت أن أكملت قرأتك الملحة لتقديم ورقة بحثية لقسم الفلسفة بجامعة السوربون حول الميتافيزيقيا .
حيث وقفت بعد مخرجك أو ذهابك إلى مقصدك "أولئك الناس" بصوتك الهزيل المسموع ملقياً عليهم تحية السلام أولاً ، وبتعمد غائظ منهم ليضعوك في حيز "انت لا تنتمي لنا ثقافياً ومعرفياً وفكرياً وإجتماعياً" لم يرد عليك أحد بينهم تحية السلام ! وهذه عادة قد تمر بك يومياً بين هذا المكان أحياناً وبين الطرقات وأمكنة المناسبات العامة التي تحضر لها مرات ولا تحضر لها مرات أخرى ، بحسب حالتك المزاجية (المتقلبة) إذ كنت انت الأنا في فلسفة الأنا أو كنت كائن مزاجي غير ملتزم بالموروث الإجتماعي في صورته الحاضرة إلى الآن، لكن انت لا تهتم لها أو لتلك العادة أو الظاهرة البشرية لهذا المجتمع ، بعد مرور ثانية واحدة فقط تضعها في سجن النسيان ، لأن ثقافتك البصرية والسمعية تعرف من يعرفونك جيداً ، وهم في الحقيقة شخص واحد لكن هو في نظرك يمثل قبيلة بأكملها ، هذا من خلال أن هذا الشخص يقدم نفسه أمامك في العادة كمثقف شامل ، عليم بحيثيات البنيوية: المحايثة، السانكرونية، الدياكرونية، الدال، المدلول، المحور، التركيبي، المحور، الدلالي، المجاورة، الاستبدال، الفونيم، المورفيم، المونيم. والسوسيولوجية ، والبطريركية ، والأناسيكلوسيس ، والديماغوجية ، والنوستالجيا ..الخ
ولسحن حظك الجيد أنه قدم بعد لحظات من جلوسك على حذاء قدمك اليمنى أو (سفجنتك) بين ظل أحد أسوار المنازل المشيدة من الطوب الأحمر ، ليشعرك بوجودك بين تلك الجلسة أو بقيمتك كإنسان ، ويفتتح حديثه قائلاً بعد تحية السلام التي رديت عليها انت وحدك؟
- أتعرف صموئيل هنتنغتون؟
ولأول مرة بجهل منك أجبت:
- من يكون صموئيل هنتنغتون هذا؟
- هو واحد من أشهر علماء السياسية الأمريكية ويعمل مديراً لمعهد أدولن للدراسات الإستراتيجية بجامعة هارفارد ، له نظرية بعنوان (صدام الحضارات) التي محورها أن الصراع في المستقبل سيكون بين الحضارات في المقام الأول ، وليس من المرجح أنه سيكون بين القوميات ، أو بين المصالح الاقتصادية المتعارضة ، ومن المرشح أن يصبح المحور المركزي في السياسات العالمية هو الصراع بين الغرب والحضارات الرافضة للهيمنة والقيم الغربية.
خالفته الرأي قائلاً بثقة:
- بأن الصراع سوف يكون صراع موارد بين النخب العالمية المركزية.

ثم أخذت للموضوع حيزاً آخر: ماذا عن صراعنا الإجتماعي الذي نعيشه في هذه اللحظة أو بين هذه الجلسة تحديداً ؟
ولكي لا تجرح الناس الذين تشاركهم الجلسة ولا تحس بوجودهم إلا عندما يرتبط الأمر بكشف حقيقتهم غير الملاحظين لها ، حولت حديثك إلى اللغة الإنجليزية التي لا يفهمون فيها إلا مصطلحات بسيطة لا تضيف في رصيدهم المعرفي شيء ، متسالاً:
- ماذا عن هذا المجتمع الذي يمارس عنصريتهُ ضد المثقف، والمفكر ، والأديب..الخ!؟
قبل أن يجيب عليك بلحظات ، كان قد تهامست تلك المجموعة المكونة من سبعة شباب تتفاوت أعمارهم ودرجة غبائهم من حيث فهمهم لذاتهم وللآخر ، مستخدمين لغة ساخرة عنكما ، وعنك انت بالذات ، وهو ليس بالأمر الغريب أو المدهش ، إذا كنت في نظرهم تمثل شخص منكفئ على ذاتك ، غير إجتماعي ، ومجنون، ولا تفهم في كثير من الأشياء ، التي منها الموروثات الإجتماعية المتخلفة ولعب الورق والضمنة!!
ليجيب عليك بعد ذلك بحيادية:
- العنصرية التي تشعر بها من تجاه هؤلاء الشباب هي عنصرية في الأساس غير متعمدة ولا تمس شخصك ، لكن طبيعتهم العقلية التي أخذوها من منهج مجتمعهم هي ما تجعلهم رافضين لعقليتك المختلفة عنهم ، وليس رافضين لك كشخص ، وإن كانوا رافضين لشخصك لم كنت هنا ، بينهم.
بعد هذا الحديث العميق الذي دار بلغة إنجليزية أدهشت الحضور ، تداخل أحد الشباب ليعرف عن ماذا تتحدثون ولماذا أنتم تتحدثون منفردين لوحدكم!؟ لكن سرعان ما تم تحويل الحديث إلى لغتكم الأم (العربية) ، وعن موضوع آخر يحمل عنوان (الأنثروبولجيا الثقافية) لم يفهم هذا الشاب شيئا بخلاف كلمة واحدة فهمها بصورة ضبابية هي (الإثنوغرافي) بعد ترجمة مسهبة منك أي عرف أنها تعني (الأعراق البشرية) أو ما يمكن وصفها بأنها منهجاً لجمع البيانات تعمل على فحص سلوك المشاركين في مواقف اجتماعية محددة، أو فهم تفسيرهم لهذا السلوك ، الذي قد يكون تشكل عن طريق القيود التي يشعر بها المشاركون بسبب المواقف التي يتواجدون بها، أو من خلال المجتمع الذي يعيشون بينه. لينصرف منكم سريعاً وهو مختل الفهم بعد هذا الشرح وقائلاً "أنتم مجانين"!.
ضحكتم عليه كم لم تضحكوا من قبل ، أو على الحكومة الغبية الخاضعة للوكالة الغربية التي تتلاعب بعقول أمثال هذا القوم ، لكن في داخلك لا تدري لم هناك شعور يلازمك دائماً بالحزن في كل مرة يظهر فيها هذا القوم بضحالة المعرفة!؟

(٢)

غادر الجميع بعدها أو بعد عودة التيار الكهربائي مباشرة إلى مساكنهم الفقيرة كفقر عقولهم ، ليخلدو للنوم تحت الهواء الاصطناعي الذي تقدمه لهم المراوح التي تفنن في صنعها عقل صيني لم يكلفه الأمر كثيراً غير عناء نظرة عميقة تجاه الطبيعة، ثم غادرت انت الجلسة متجهاً إلى أسفل القرية لشراء كيس صعوط ، فالصعوط هو رفيق البؤساء في رحلتهم بين اللاحياة ، ولأنك محب لإجراء إختبارات معرفية لأفراد المجتمع وجهت سؤالك الساخر لبائع الصعوط:
- الأوليغاركية هي التي تحكمنا لتحدد بأن الصعوط هو رفاهية البروليتاريا .. تتفق معي؟
ضحك البائع الذي يملك ابتسامة طفولية لا تفارقه عادتاً ، عليك ، بعد أن صورك في ذهنه رجلاً بلا عقل! وكانت إجابتهُ هي (ضحكة) ، هي ما جعلتك تناقض ذاتك برسم إبتسامة طفيفة على وجهك وحزن أمتلئ داخلك على حال هذا البائع. ثم إتجهت بعدها نحو المنزل لإرسال بعثك إلى الجامعة ، لكن ذاكرتك الضعيفة بضعف قلب فأر خانتك مسبقاً بأن تغلق باب الغرفة التي عليها ورقة البحث ، وتضع المفتاح في جيب بنطالك الكتاني المهترئ ، وهذا ما كلفك إفتقاد ورقة البعث ؛ بعد أن دخلت أمك إلى الغرفة وأخذت إثنين من أهم الكتب بين مكتبتك ، كتاب (المثالية الألمانية) لهنس زندكولر وكتاب (الفكر الغربي) لأنور الجندي ، ذلك مع ورقة البعث المهمة لك في تلك اللحظة تحديداً ، لتوقد بهم نار الطبخ أو تحديداً (عواسة الكسرة) في صباح غداً الباكر ، أي هي تريد أن تبقيهم معها في غرفة نومها لأنها تستيقظ باكراً لممارسة عملها الطبيعي في المنزل وانت لا تستقيظ إلا في حدود الواحدة منتصف النهار ، بعد سهرة طويلة تقضيها في مشاهدة المحاضرات العلمية على مواقع جامعات أوربية مختلفة.
لذلك إتجهت غاضبا وسريعا لتوقظ أمك التي أخلدت للنوم قبل دقائق ، وتسألها عن ورقة البعث التي أجابت لك بأنها وضعتها فوق الطاولة بين المطبخ .. لتتجه بلهفة نحو المطبخ وتكاد أن تنفجر من الغضب ، لكنك إنفجرت فعلاً بعد أن وجدت الورقة ممزقة على ثلاثة أنصاف ، ما بينها لبن مسكوب وبصاق مقرف وأثار أسنان صغيرة لإنسان صغير .. وهما ما أكدتا لك بأنه طفل أختك الصغير هو من فعل ذلك.

(٣)

حاورت نفسك متحسراً: كان علي أن أحتفظ بنسخة على حاسبي الآلي ، كان علي أن أنسخ عدة نسخ ورقية وأضعها في أمكان مختلفة ، كان علي..
وكان كل ذلك ليس ذو فائدة .. رجعت إلى غرفتك لتخلد للنوم ، لكن خيبة أملك الكبيرة لم تجعلك أن تصطحب النوم معك .. أجريت اتصال هاتفي مع حبيبتك عائشة لتنسى هذا الحزن ، أو لنقُل لتحاورها في أمور الفلسفة أو لتختبرها معرفياً .. لكنها سقطت في أول إختبار بعد هذا السؤال:
- انت فتاة إيثارية .. حينا تكوني عكس ذلك أو مثلي تماماً سوف نخطوا ما بعد هذه الخطوة؟
والذي كان ردها فيه هو (ضحكة) كضحكة بائع الصعوط تماماً!.

ضحكت انت الآخر وحزنت في داخلك في آن الوقت ، في مناقضة لذاتك ، ثم قلت "شعوب لا تعرف غير الآكل والشرب والحب والجنس ، وحتى هذه الاشياء لا تحسن اللعب فيها ، شعوب عبثية ، شعوب عبء على هذا الكوكب" ثم أغلقت الهاتف محتراقاً..

(٤)

ساجور سجارة رجل يسرف في إحتساء الخمر كما يسرف في السهر تحت عمود الكهرباء المجاور لمنزلك ، كثيراً ، أي ذلك العمود الذي يلعب فيه بعض الشباب الورق وأحياناً الليدو على هاتف الهاووي ، ولأن لم يزورك النوم في تلك الليلة ، حتى بعد انهاء المكالمة مع حبيبتك عائشة .. إتجهت لتشاركه عالمه الخاص ... حيث إرتشفت معه كأسان من (العرقي) هما ما جعالك تخرج من حيزك الساخر (الإختبار المعرفي) إلى حيز (البحث عن إجابة جادة هذه المرة) حينا وجهت له هذا السؤال وفي ذاكرتك "يقال عن هذا الرجل أنه خريج جامعة اكسفورد في علم الإجتماع" وليس جامعة السودان التي في رأيك المتواضع البسيط أنها ليست لها المقدرة العلمية لتخرج مخترع أو فيلسوف بقامة سارتر وبنجامين فرانكلين .. :
- لماذا هنا المجتمع يحب الإنسان الدرويش البسيط والفاجر مثلك - ضحكت هنا عند كلمة فاجر مثلك - ولا يحب الرجل ذو الفكر الغريب والعادات الغريبة المتمردة على عادات هذا المجتمع .. كمثال انت دائما شخص محبوب، الناس تحب مجالستك في كل مكان وزمان ، وتحبك أكثر حينا تكون مخموراً ، أي حينا تحدثهم عن مواقف أو حكاوي طريفة وقديمة حصلت لك في الخرطوم وفي لندن ، أما الشخص الفيلسوف مثلي الذي ينشر المعرفة بين الناس يحسب مع قبيلة (المملين) غير الواعيين!؟
- اوكي .. المجتمع هو مدرسة تُخرج المتمردين مثلك الذين تركوا هذه المدرسة وعملوا أعمال هامشية وهم في الحقيقة غير محبوبين ، وتُخرج المتعلمين الذين واصلوا في طريق العلم وأصبحوا أطباء ومهندسين ... وهم في الحقيقة محبوبين أي ما يمكن أن نسميهم (بالملتزمين) ، وهم دائما ما يجدون الإحترام الأعمى من المجتمع ، لكن هذا عيب كبير وانت تتفق معي في هذا العيب بأن الإحترام يجب أن يكون لصاحب الأخلاق والأحترام الذي يكنه للآخرين.
هذه نقطة ، النقطة الثانية للإجابة بموضوعية أكثر ووضوح عن سؤالك ؟ هو أن المجتمع نمطي لدرجة أنه حتى في حبه نمطي.
قلت له غاضبا:
- بعد كل هذا الدوران انت لم تجب على سؤالي؟ هل تكمن المشكلة في جامعة اكسفورد أم في عقلك!؟
ثم انصرفت بحزنك الذي يزداد عمقاً بين الساعة والآخرى إلى منزلك الملئ بالحزن.

(٥)

استيقظت عند الواحدة منتصف النهار بعد أن سبحت بمفعول الخمر في نوم عميق (نوم الميت) .. وقبل أن تتجه للحمام لفعل كل ما يفعله إنسان .. تصفحت رسائل الجيميل الخاص بك على هاتفك الخلوي .. لتجد هذه الرسالة التي إنتهت معها أحزان تلك الليلة:
السيد العزيز (ق.ج.م) شكراً لمشاركتك معنا في مسابقة الباحثين الفلكيين التي ينظمها سنوياً مركز البحوث والدراسات الفلكية بجامعة كامبريدج في المشاركة بنظريتك حول (انفجارات أشعة جاما) ، وهنيئاً لك بحصولك معنا على المركز الأول مناصفتاً مع الباحثة الألمانية رولينا أرثر حول بحثها عن (الأجرام الفلكية).
نحن بحسب سيرتك الذاتية ندري بأنك تعيش في واحدة من دول العالم الثالث المتأخرة في البحوث العلمية ، وبين قرية فقيرة تفتقد للبنيات التحيتة ، وليس لك شهادة جامعية - وهذا ما يدهشنا حقاً - وتعاني من البطالة ، لذلك نقدر مكافحتك لمنحنك جائزة تقديرية أخرى منفصلة عن الجائزة الرسمية ، هنيئاً لك السيد (ق.م.ج) ، كن بآلف خير .
لم تتمالك نفسك بهذا الفوز .. عبرت عن فرحك بكثير من الدموع .. أشعلت سجارة .. ثم بدأت تفكر بأن تعمل كرامة بهذا الفوز : أن تذبح خروف للناس بين القرية .. لكن تذكرت فجأة بأن الناس هنا تذبح الخراف والعجول في أفراحهم التي تتعلق بالزواج ، السمايات ، الطهور إذا كانوا برجوازيين ، وبتعافي المريض من مرضه ... لكن لا تفرح بأمر تافه مثل أن يفوز شخص بجائزة بحث علمي ! .. لتتراجع عن قرارك وتسبح مرة أخرى في نوم غائظ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى