محمد بنميلود - كيف تعرف الشاعرات!؟

أعرف الشاعرات من نظراتهن الطويلة المطعونة بالأمواس، من البرق المباغت والعاصفة والمطر الغزير الذي يعقب مرورهن الخجول. أزرّر ياقة معطفي وأتنهّد. الكآبة الرخية للحقول، الملمس السام للحرير في العتمة والنزول الباكر للمساء فوق البّاركات الفارغة والمقابر. أعرفهن من تعب الزهرة برحيقها وانحنائها وانكسارها. من هالة السهر والقنوط والأمراض حول عيونهن. من رهاب الأماكن العالية ورهاب الاختلاط ورهاب الخنادق. أعرفهن من الپارانويا والقلق المزمن والسلّ والاضطراب ثنائي القطب واضطراب النحو والإعراب. أعرفهن من الابتسامة المشمسة وسط طقس سيّء، ومن الدمعة الجافة في الربيع التي تتبخر قبل أن تصل إلى الورود. أعرفهن من الوساوس وشمع العسل الفاسد والانتحار. من تورّم المفاصل ونحافة الساعد وفقر الدم. أعرفهن من الطوابع البريدية والحقائب الصغيرة ومن نسيان القهوة فوق الموقد. من اليمام فوق أنتينات العمارات العتيقة، رائحة حلوى المخابز ورائحة الأسبرين. من تعفّن الخوخ في آنية الفضة، في الدارة الكبيرة المهجورة، في المدينة التي لا يصل إليها سعاة البريد بالدراجات. أعرفهن من أبواب بيوت العائلات المشمعة، الأم التي ماتت بالسرطان والأب الذي أنساه الزهايمر قوانين الشرنطج وعدد أفراد الأسرة وعدد الركعات، والأخ البكر الذي هاجر منذ القرن الماضي بصور بالأبيض والأسود للأخوات النحيفات اليتيمات في جيبه. أعرفهن من القعاد الطويل قبالة شجرة في الخريف ومن الخجل المزمن أمام الأخوال. من الصبر برائحة البقدونس وعضّ الأظافر وتضبيب زجاج النوافذ والمرايا بالأنفاس. أعرفهن من تخمّر حبة الزبيب في حلمة النهد. من نوافذ القطارات التي جمّدها الصباح، من عطل شنيع في الغسّالة الكهربائية، ومن إيميلات الطلاق. أعرف الشاعرات من رحابة الفساتين وضيق الخاطر وتعرّق الرسغين. أعرفهن من خصوبة العينين وجفاف الرحم وتعملق أخيلة اللمبات والشموع والحرائق والنزوح على الجدران وفي الأحلام. أعرفهن من نضج النهار في مزهرية الجارة، ونضج اللوعة في القلب، ومن بقايا الشَّعر على المخدات في سكن الطالبات. كالنسيم الصغير في الفصل القائظ، كالعصفور يرتطم بالزجاج، وكالفراشة ترتطم بالنور. أعرفهن من عطرهن الذي لثياب الموتى، من خطواتهن فوق أوراق الأشجار اليابسة، في الزوبعة وفي الهدوء، على جنبات حقل وعند مدخل الميترو، على كولوار مهجور يربط بين سحابة وغيمة، قادمات من بعيد بالأيدي في الجيوب، بواقعية مفرطة، بالنظارات الكبيرة لإخفاء بؤس المجرة، بمكياج خفيف بلون الشفق، بطقطقات كعوب عالية فوق القلب كالحقن، قادمات وحيدات في اتجاه أسرتهن المفردة، بمناديل مطوية في أيديهن لمسح كل شيء، قادمات كملائكة النجدة بعد فوات الأوان، متعبات من الحب، بخطوات صغيرة فوق جسر خشبي سينهار، فوق سيراميك المستشفيات وفوق أوراق الكتابة البيضاء، كتابة القصائد ووصفات الدواء..
أعرفهن من اختفائهن المفاجئ كالولاّعات، من موتهن المبكر كأسماك الزينة ومن صحو الطقس بعد تلمس ثيابهن في الجارور القديم الملطخة بالدم وبالحبر وبالريحان، الريحان الذي مرّت فوقه الأيام..
أعلى