عبدالسلام بنعبد العالي - لا أملك إلا مـا يبـــعدني

يُبدي البعضُ انزعاجا كبيرا من الكتابات التي تستعين بالاقتباسات، و"تتّكئُ" على بعض المفكّرين الذين غدت أسماؤهم حُجّة يعتمد عليها و"يُستند" إليها، ودعامة تستمدّ منها الأحكام صدقها، وتنهل منها الخطابات أهميتها. وهم ينصحون كتّابنا أن يُقلعوا عن استنساخ غيرهم، ويُثبتوا كفاءتهم وقدرتهم على الإبداع بأن ينطلقوا من "درجة صفر الكتابة".
رغم براءة النصيحة وحسن نيتها وغيرتها على فكر"نا" وإبداعـ"نا"، فهي تنطوي على مفهوم معيّن عن الكتابة، ونظرة بعينها إلى الفكر، بل ربما تفترض فهما معيّنا للهوية وموقفا بعينه من التراث الفكريّ.
المُسلّمة الأولى التي تفترضها هذه النظرة هي أنّ الاقتباس أمر يتمّ دوما بوعي وسبق إصرار. والحال أنّ الكاتب غالبا ما يقتبس حتى إن ظنّ أنّه صاحب الفكرة وأنّه السبّاق إليها.
إنّ الكتابة توليد للفكر واللغة، ومن يقول اللغة يقتحم اللاّوعي ويدخل غياهب التاريخ. لذا نجد من المفكرين من ذهب إلى القول بأنّ اللغة هي التي تفكّر وتكتب، وأنّ يد الكاتب هي دوما "يد ثانية".
هذا الاقتحام لغياهب التاريخ يطرح مسألة التراث الفكريّ وكيفية تملُّكه وتجاوزه. وهي كما نعلم مسألة معقّدة يتوقف النظر فيها على فهمنا للفكر وللقطائع والانفصالات.
وهذا الفهم يتدرّج من مجرّد الموقف الوضعيّ الذي يعتبر القطيعة انفصالا مطلقا يجبّ فيه الحاضر ما قبله، إلى الموقف الجينيالوجيّ الذي ينظر إلى التراث الفكريّ على أنّه ينطوي على ما يحجبه ويغلّفه، فيعتبر تجاوزه تراجعا لا ينفكّ إلى الوراء، كما يعتبر التملّك الفكريّ انفصالا دؤوبا تتعيّن فيه الهوية بالمسافات التي تبعدها، أكثر مما تتحدّد بانصهارها وتوحّدها مع ما تزعم تملُّكهُ.
حينئذ يغدو التّفكير بالضرورة حوارا، ولسنا نقصد بالحوار هنا شكلا يتّخذه الفكر، وإنّما نمط وجود يحدّده. هنا يغدو كلّ فكر،بما هو كذلك، حوارا مع الفكر. إلاّ أنّ الحوار لا يعني الجدال من أجل إفحام الخصم وجرّه إلى التّسليم بما نُسلّم به، وإنما انفصالا لا يكلّ عمّا ينفكُّ يـأتي صوبنا. إنّ استرجاع ما قيل ليس معناه أن نكتفي بالشروح والتعليقات، وإنّما أن نجد أنفسنا لا أمام المتطابقl’identique المجترّ والمكرور، وإنّما أمام الشيء ذاتهle même ، أمام كلام متعدّد ما انفكّ يعود صوبنا في الوضوح الغامض لما سبق أن قيل. إنّ الحوار مع التراث الفكريّ يهدف إلى بلوغ الشيء ذاته الذي قيل بأنحاء مختلفة. تلك هي مهمّة الفكر، وذاك هو مرمى الحوار.
إنّه ما يفرض علينا نوعا من التماهي مع المفكّرين بهدف إحداث الانفصال وتوليد الفوارق.


عبد السلام بنعبد العالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى