نقوس المهدي - الحمام سيرة الورع والشهوة

وحمَّامٌ له حرُّ الجحيمِ = ولكنْ شابَهُ بردُ النعيمِ
رأيتُ به ثواباً في عقابٍ = وزُرْتُ به نعيماً في جحيمِ
أبو منصور الثعالبي


الحمام ذلك المكان الذي يعيد تكويننا كرة اخرى .. صلتنا الاولى بالعري و النقاء و الطهارة و الطراوة و الدفء و الخيال .. و بالعطش ايضا.. حتى و نحن مغمورون بالمياه .. و نستشعر بين احضانه حميمية غريزية تربطنا بالمنطلق و بالرحم و الوجود .. الحمام ليس مكانا و حسب ، و هو يمارس فينا شريعة التطهير ، انه ولادة و تجدد و انبعاث ذاغل في العمق ، يصلنا بالحبل السري لشعائر طقوسية و روحانية و صوفية موغرة في عمقها و قدسيتها و صفائها ، و مرتبطة اساسا بالماء و الحلم معا .. ذلك هو التحول الكيميائي الجميل اللايوصف واللامثيل له في البهاء ، و الشديد الانصهار الكلي في حميمية الدفء الجميل والعميق لعالم مغلق ، و مطبق من الهيولى و البخار و النداوة و الرطوبة و الحرارة ، و الارتخاء، و مغلف بقدسية المكان و رهبوته و سطوته و سخائه.. تتساوى فيه الحياة بالموت ما ان نسلم اجسادنا لفضائه الذي يهيؤها للانبعاث من جديد تماما كما يزفها للحافة ، الضفة الاخرى للبعث و النشور..

مكان فعل الاستحمام فيه يختلف عن الاستجمام في النهر و البحر ، لاننا لانستحم في النهر مرتين بحسب هيراقليطس .. بينما نستحم في الحمام عشرات المرات لنتخلص في كل مرة من ادران الجسد و اوصابه و اوساخه و اتعابه .. و في كل مرة نتفقد و نجدد اللقيا مع عالمنا السري .. و مع ذواتنا و اعماقنا و عقدنا و اعضائنا الاعمق حميمية .. و في كل المرات نحس بذلك الخدر الجميل الليسري في مفاصلنا و يغمرها باللذة و النشوة و الرهبة و الراحة..

اي مقام هذا مثل الحمام يتقاسم سمتي الورع و اللذة، و الحرارة و البرودة .. و الاستعجال و الحذر.. و الاستحمام و الاستجمام.. النعيم و الجحيم.. و يتساوى فيه بنو البشر فقيرهم و غنيهم ، كبيرهم و صغيرهم.. يتخلصون من الرياء و الزيف و الصرامة و الابتذال و الاقنعة.. عدا انه يجمع بين نقيضين اساسهما البرودة و الحرارة ، الطهر و الوسخ، النقاء و الدنس ، و يذكرنا بالعالم الاخروي ، و الاشباح و الارواح و الاساطير و التاويلات العديدة، بقدر ما يبقينا رهيني الواقع و الهاجس الدنيوي في نفس الآن ..

موضوع الحمام و فضاؤه و جمالياته و قسيفساؤه و دفؤه قد يخيل للقارئ العادي انه غير ذي شان كبير و بلا اهمية.. لكنه يعني للقارئ اللبيب عدة اشياء كمكان و فضاء فيزيقي اولا ، و ذا ابعاد فلسفية عميقة وانطلوجية راسخة ثانيا واخيرا



.
00.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى