سعيد عاهد - عبد الكبير الخطيبي مناصرا لإدريس الشرايبي و”الماضي البسيط” (*)

أنهى إدريس الشرايبي باكورته الروائية سنة 1953، لكن ناشر «الماضي البسيط» الفرنسي لم يقدم على إصدارها إلا في 1954، والمغرب والمغاربة في خندق موحد ترفرف فوقه راية المطالبة بالاستقلال وطي صفحة الحماية «الغاشمة». وللرواية تفاعلات تستحق أن تروى، خاصة أنها جعلت صاحبها «يتبرأ» منها (1)، كما أن لعبد الكبير الخطيبي من إدريس الشرايبي «الماضي البسيط» موقفا شجاعا ورصينا، غير مسبوق ومفكرا فيه بعمق، يستحق الاستحضار والتمعن.

لنترك الشرايبي يلخص عمله المؤسس للأدب المغربي، بل المغاربي، المكتوب بلغة الآخر: في هذه الرواية الأولى «يتعلق الأمر بشاب مغربي، متكون في إحدى ثانويات الحماية الفرنسية، يحاكم دون رأفة المجتمع الإسلامي الذي نشأ فيه، ويهاجر إلى فرنسا إيماناً منه بقيم الغرب».
محاكمة المجتمع المغربي التقليدي وسلطة الأب المفرطة وإيمان الابن بقيم الغرب وحضارته ستهب مادة دسمة للعناوين الاستعمارية الفرنسية لتبرير استمرار عهد الحجر مغربيا. ومن جهته، وبعيدا عن أي اعتبار أدبي، سيجد مكون من مكونات الحركة الوطنية آنذاك، فرصة سانحة لهجوم منهجي وممنهج على الكاتب المفتقد لأي «نفس أبية»، الذي باع نفسه لشيطان «نصفه قرد ونصفه الآخر نعامة»، ذلك «القاتل للأمل» المدعو إدريس الشرايبي، وذلك على صفحات جريدة «الديمقراطية» الصادرة بلغة… الآخر!
عقبها، وفي مقال نشره في 4 فبراير 1957 على صفحات الجريدة المتهمة إياه بالخيانة نفسها، وهي سابقة نادرة في تاريخ الأدب عالميا، سيتنكر الشرايبي لابنه الشرعي. لكنه، وبعد عشر سنوات من فسخه لشهادة البنوة، سيتسلح بفضيلة الاعتراف ويصرح: «أقر بأنني كنت في حالة ضعف حين تنكرت لـ «الماضي البسيط». لم يكن ممكنا لي أن أتحمل ادعاء أن أكون متعاونا مع المستعمر. لقد كان علي أن أقاوم، أن أتحلى بشجاعة أكثر».
سيكون الخطيبي أول من يرد الاعتبار لإدريس الشرايبي «الماضي البسيط» على صفحات «Souffles « التي بعثت نَفَسا غير مسبوق في انتماء الكتابة والفكر المغربيين إلى قضايا عصرهما، وذلك قبل أن تخصص له المجلة ملفا خاصا بعنوان «إدريس الشرايبي ونحن» (العدد 5، الفصل الأول من سنة 1967). لكنه رد اعتبار لا محاباة فيه ولا وجود لمنطق «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، كما تستلزم ذاك موضوعية المفكر واحترامه لاسمه ولقرائه.
في العدد الثالث من المجلة المؤرخ بالفصل الثالث من سنة 1966، سيكتب عبد الكبير الخطيبي في باب «موقف» تحت عنوان «إنصافا لإدريس الشرايبي» (ص: 48):
«نشر شاب مغربي في حالة تمرد يوما «الماضي البسيط». وقد أثار الكتاب زوبعة لحظة نشره: حدث ذاك سنة 1954، أي في رحم أوج الأزمة الفرنسية-المغربية.
«ولد المؤلف الاندهاش بفعل عنف تمرده ضد الأسرة والقيم التقليدية، وعلاقة الكراهية القائمة بين الابن ووالده الموسوم رمزيا بـ»السيد». هذا الأخير يمثل النظام والقانون واستمرارية القيم البالية، بينما يطالب الولد بحقه في اعتناق قيم الغرب كسبيل للتحرر. ونتذكر جميعا نهاية الرواية: متعبا ومفلسا ومعانيا من هذا التمرد الحاقد، يترك السيد ابنه يرحل إلى فرنسا.
«على غرار العديد من المثقفين الأفارقة، استقر إدريس الشرايبي في باريس منذ سنوات طويلة، وهو مستقر هناك إلى حدود اليوم، يكسب رزقه من كتاباته، مع العمل في هيئة الإذاعة والتلفزة الفرنسية. ويظهر في المغرب، بين الفينة والأخرى، من يعيب عليه هذا المنفى الاختياري. ففي سنة 1957، سيهاجمه صحفي على أعمدة جريدة «Démocratie» (ديموكراسي)، منتقدا بشدة فوضويته وتناقضه. كما تعرض، مؤخرا أيضا وبشكل سطحي وجائر، للسب والشتم هذا الروائي الموهوب الذي يظل، حتى إشعار آخر، أفضل كتابنا، شئنا ذلك أم أبينا.
«وبلا ريب، فسياسيا، يعتبر موقف الشرايبي غير واقعي. وعلى الرغم من كل شيء، فالفعل والنضال يجب أن يمارسا داخل البلاد. كما لا نحتاج إلى التذكير بأن فرنسا ليست في حاجة إلى مثقفين مغاربة. لكن هذا المبرر ليس كافيا لإذلال الشرايبي، ذلك أن المكوث بالبلاد لا يفضي بالضرورة إلى تفادي الخيانة أو التوظيف من طرف جهة ما. وفضلا عن هذا، فالمنفى ليس واقعا سهلا على الإطلاق، إذ يولد الاقتلاع من الجذور وعيا شقيا. فبعيدا عن بلده، وغريبا إلى هذا الحد أو ذاك عن المجتمع الجديد، يصير المنفي بين براثن حالة شاقة وزائغة.
«فما الذي يمثله الشرايبي بالنسبة لنا حاليا؟
«استفز الشرايبي، بطريقته، حملة الضمائر المرتاحة المتشبثة بالتقاليد والدفاع عن البنيات الاجتماعية المحافظة، وهذا فضل يحسب له. لكن الشرايبي لم يعد يعرف جيدا، انطلاقا من منفاه، ما يحدث عندنا، حيث ضاع منه الواقع الذي كان يلهمه. وهو ما تخلقت عنه شوائب روايته الأخيرة «إرث مفتوح».
«منفصلا عن المجتمع، اختار الشرايبي عزلة الكاتب الذي يعتقد أنه يتجاوز العوارض. لكن، ما تبقى لديه غير أن يصف لنا تمزقه ومنفاه، إلا إذا انتقل (في كتاباته) إلى تيمات أخرى لا علاقة لها قط بالمغرب؛ ذلك أن الممسكين بناصية الكفاح مثقفون غيره. هكذا، وبشكل تراجيدي، فالغائبون، حتى لما يكونون على حق، يُجبَرون على مكابدة نيران مآل النسيان والإنكار.»

هوامش:

*) نشر هذا المقال ضمن العدد 14 من مجلة «الصقيلة في النقد والإبداع» (نونبر 2020)، ونعيد نشره باتفاق مع الكاتب.
1): انظر التفاصيل ضمن دراسة د. رشيد بنحدو المنشورة ضمن المؤلف الجماعي: «إدريس الشرايبي: سلطة الكتابة وسؤال الهوية» (منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2010)، وهي متوفرة كذلك في العديد من المواقع الإلكترونية المغربية والعربية.

سعيد عاهد


بتاريخ : 04/12/2020


أعلى