نزار حسين راشد - قرار إبعاد.. قصة قصيرة

وقت ما بعد الظهيرة، ممري إلى ساعة صفاء، تتيح لي التفكير في الما بعد،وترتيب ما علي أن أفعله، هل أبيع البيت؟ هل أتقدم إلى السلطات بالسماح لي بالسفر؟ وكيف سأحصل على الفيزا؟ لا بد لحازم أن يتقدم بطلب ضم العائلة،أو بلجوء سياسي،وفي هذه الحالة سيساومونه، وحازم أعرفه جيداً، لا يساوَم ولا يساوٍم،هل سيلجأ إلى محامٍ؟لا أدري مدى مرونة القوانين هناك،ولا مدى سوء النية لدى السلطات،ربما ينقذه لو فكّروا بطريقة واحدة،أن يمنّوا عليه دون مساومة،ليكسبوا ثقته،ويتركوا له فرصة رد هذا الجميل!
الساعة القديمة استراحت عقاربها المتعبة،وضمّت ساقيها في احتشام قروية فاجأتها نظرة متطفلة،أتمسّح بجدران الألفة كقطّة تتلمس الطمأنينة بتفقد الأشياء التي تعرفها،منذ جاء قرار الإبعاد وحتى اللحظة التي غادرني فيها،وأنا مشتّتة متوترة،تحركاتي مبعثرة،حتى داخل المنزل،وفي المرات القليلة التي أخرج فيها،أسير في الشوارع على غير هدى،ضائعة الخطوات وكأنني زائرة غريبة،حتى شوارع بلدتي أصبحت غريبةً عني،الشعور بالفقدان والخسارة يكرّس الشعور بالغربة،لم ألجأ لأحدٍ من الأقارب ليواسيني،لا جدوى،فلا شيء يعوّض عن الغياب،الإنتماء والوجود كله مرتبط بشخص واحد،شخص يلخّص معنى الوطن،تحتشد فيه كل تلك المعاني،التي تضفي القداسة على كل ما نفعله معاً.
في لحظة الوداع الأخيرة،اعتصر يدي،وأطال احتضانهما بيديه،وكأن كفيه أقطابٌ كهربائية تشحنانني بالطاقة،لا زلت أشعر بضغط راحتيه،وأشعر بالقوة،وأن علي الصمود والتشبث حتى تسحبني يداه إلى شاطيء الأمان،وتلقيان بجثتي هناك،لا أريد أكثر من أن يكون حولي،حتى لو كنت مجرد جثة مرهقة،ليس فيها إلا بقية حياة،يكفيني أن يتنفس جمري تحت رماد جاثم أعرف أنه سيسفوه ولو بيديه العاريتين،ويبعثني من تحته لأتنفّس في الهواء الطلق،مستعيدة حريتي المكتومة،والتي صادرتها ظروف جائرة،لم يكن لنا حيلة في دفعها،أليس هذا ما يسمونه التفكير الإيجابي؟نعم!فنحن الفلسطينيون لم نيأس أبداً،وهكذا لم نندثر ولم نفقد الذاكرة،لا بل إننا نجدّد حيواتنا كل حين، بطريقة سحريه لا سبيل لهم إلى فهمها!
وها أنا الآن ألملم شعث روحي،بعد أن تلقيت مكالمة من السفارة،لأذهب وأحصل على الفيزا،يفترض أن يفرحني ذلك،أني ذاهبة للقاء حازم، وأن شملنا سيجتمع ويلتئم ذلك الفراغ الموجع،ولكن بدلاً من ذلك سيطر علي الألم والحزن،فأنا أعلم أنه لن يكون هناك عودة،وأنني سأكمل برحيلي ملحمة اللجوء،وسأحمل في جيب معطفي المفتاح،كما فعلت جدتي قبل خمسين عاماً،حين حملته في جيب صدرها!
كان لقاؤنا حميمياً في المطار،وتعانقنا بحرارة ولكنه لم يقبلني على شفتي كما يفعلون هنا، حياءً و حفاظاً على التقاليد،وكان هذا مؤشراً مطمئناً إلى أن هناك عتبات لن نتجاوزها،وأننا سنبقى ضيوفاً على هذا المجتمع الغريب الذي وفّر لنا المأوى،وسيبقى كذلك لا أكثر،ولن نصبح جزءاً منه أبداً!
بدأت اضع لمساتي في الشقة الصغيرة،وكأنني نمرة تترك رائحتها على أشجار الغابة،موقعة صك ملكيتها،لحيزٍ ما في هذا الفضاء المفتوح.
وبرغم كل شيء تنفست الصعداء وشعرت بالراحة،واستعادت روحي عافيتها،فهنا سنكمل مسيرتنا معاً يداً بيد،وهنا سنكافح معاً لتعبيد طريق العودة،فخارج الوطن لا يوجد إلا طريق واحد:طريق الكفاح الذي يعبّد طريق العودة،لا أدري ما هو السر في أننا لا نفقد الامل وكلما طال الطريق كلما شعرنا بقرب نهايته،إنه الإيمان الذي لا يهزم أبداً،بل يكبر ويشمخ بالتحدي،كاشجار الغابة تماماً،التي أتأملها كل صباح،وأستمدّ من صلابتها الماثلة القوّة والعزم.

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى