حاميد اليوسفي - الوعود الكاذبة.. قصة قصيرة

يجلسان كل مساء فوق كرسي من الاسمنت ، يُعطي بظهره للمقهى . حديقة لا يتجاوز عرضها عشرين مترا ، تفصل بين شارعين جانبيين ، وعلى طولهما تمتد المقاهي ، ومرائب بيع السيارات المستعملة . ريح جافّة وحارّة تهبُّ مع سقوط العتمة ، وخفوت ضوء المصابيح . عندما يجدان مقعدهما المُفضّل مشغولا ، ينتظران لبضعة دقائق ، حتى يفهم الجالس نفسه وينهض ، ويترك لهما المكان .
لا يرى بعض زبائن المقهى غير ظهريهما . يُمرّر يده حول عنقها ، وتفعل مثله . تبادُلُهما القبل الحارّة ، جعل البعض يُخمّن بأن يداهما الثانيتين ربما تتسللان إلى مناطق حساسة مثل الصّدر أو الصرّة . تضحك الفتاة وتسترخي ، ثم تضع خدّها على كتفه . يُبعدان وجههما عن بعض ، ويتحدثان قليلا ، ثم يسحبان يديهما من المناطق المحظورة ، وينتظران حتى يمرّ من أمامهما بعض النساء برفقة أبنائهن . يجتاز الأطفال المقعد ، وهم يلتفتون للتأكد من أن الجالسين يفعلان شيئا لا يرونه إلا في الأفلام والمسلسلات والغرف المظلمة .
تقول امرأة لصاحبتها ، وهي تتعجب :
ـ انظري يا أختي ! كيف تركته التي لا تُسمّى ، يضع يده بين فخديها بدون حياء !؟
تردُّ عليها المرأة البدينة بامتعاض :
ـ الله يمسخها ، في زمننا لم نكن نقدر حتى على السير بجانب من نحب .
تُوقّع المرأة الأولى على كلام زميلتها وتُضيف :
ـ كنّا نمشي مُتباعدين ، نرتعدُ ونطلبُ من الله ألّا نلتقي مع فرد من العائلة ، أو من الحي ، حتى لا ينكشف أمرنا ، وتتكسّر عظامنا ، ونُمنع من الخروج بقية عمرنا .
قالت المرأة البدينة :
ـ كان (الزيّار)* ، عِشنا حتّى شُفنا قلّة الحياء والفجور في هذا الزمن الأغبر .
لعنت صديقتها القنوات والمسلسلات التلفزيونية التي تسبّبت في هذه الكوارث . غير أن المرأة البدينة خالفتها الرأي هذه المرة ، وقالت :
ـ نعم نشاهد أكثر من ذلك في المسلسلات ، ونتمنى ، فقط نتمنى لو كُنّا مكان البطلات ، نرتدي المعاطف الجميلة ، وننزل من السيارات الراقية ، ونسكن الفيلات الفخمة ، ونرتمي بكل جوارحنا في أحضان من نحب . لو فعلت مثل بطلة مسلسل ، وذهبت مع صديقها إلى مقهى أو مطعم بالحي الشتوي* لحسدناها ، لكن أن ترتمي في حضن (شمكار) بحديقة مهجورة ، لا يملك ثمن فنجان قهوة ، فتلك بهدلة وليست حبا .
وافقتها المرأة الأولى الرأي ، ثم ضغطت بأصبعها على محجر عينها اليمنى ، وأنزلته قليلا إلى الأسفل :
ـ ويلي ! ويلي ! أنظري إلى قميصه ، الله يَقطَع لهما الجذر ، بهدلا الحب ومسخاه . عندما كنت أرى حسن قبل الزواج ، وهو يمر من الحي ، ويرتدي أجمل ما يملك من الملابس ، ويحلق ذقنه ، ويُصفّف شعره ، ويستعمل العطر ، وكأنه ذاهب إلى العرس، كانت العيون وحدها تتكلم . لم يضع يده على جسدي حتى كتبنا العقد .
قطعت المرأتان وأبناءهما الشارع ، ومالتا إلى اليمين ، فابتلعهما الزّحام .
جرى الوقت سريعا ، مرّ حوالي ساعة على صلاة العشاء . وقفت الفتاة ، سوّت ملابسها وعقدت شعرها وهي تنظر ناحية المقهى ، وتتحدث مع زميلها ، كأنها تُنبّهه إلى أن وقت العودة إلى البيت قد حان ، ولم تعد تتحمّل الإجابة عن سؤال والديها أين كانت ، فتجيب عند فلانة ، ثم أضافت وهي مُستاءة :
ـ حبل الكذب قصير ، وسأقع اليوم أو غدا . المسألة مسألة وقت .
ردّ وهو يتحسّر على تحوّل حُلمه إلى سراب :
ـ آه من حبل الكذب يا صديقتي ، إنّه مثل المشنقة يلتفّ حول عنقي . لو وفّى الوغد بوعده ، لتحقّق ما خطّطنا له ، ووجدت نفسي الآن رفقتك نجلس كزوجين في بيتنا ، أو نتجول بحرية حتى وقت متأخر .
بعض ضياع ثلاث سنوات من انتظار الوعد الكاذب ، اتفقا على التفكير في نقطة انطلاق جديدة ، كأن يُهيئا لاجتياز امتحان التعليم في بداية الموسم القادم .
قطع شعرة معاوية مع الوغدَ ، بعد أن زاره الأسبوع الماضي للمرة السادسة في مكتبه . لم يتمكن من الدخول إلا بعد أن انفجر في وجه الكاتبة ، وحارس الأمن .
صرخ الوغد ما هذه الفوضى ، قبل رفع رأسه على ركام من الأوراق ، ثم بلع لسانه وخفت صوته مثل كلب وديع :
ـ أهلا يا أحمد .
وتوجّه إلى الكاتبة والحارس :
ـ ألم أقل لكما بأن أحمد يمكن أن يدخل إلى مكتبي في أي وقت شاء ؟ لعنة الله عليكما ! اغربا عن وجهي . اجلس يا ابني .
نظر إليه أحمد بريبة ، وهو يعرف بأنه يكذب ويُجامل :
ـ لم آت لأجلس ، اسمع أيها الرئيس ، اشتغلت معك في الانتخابات بدون أجر ، ولكن مقابل وعد أن تجد لي شغلا إذا نجحت ، أليس كذلك ؟
ـ نعم حصل ذلك .
ـ لقد نجحت ، غير أنك في كل مرة تخلف وعدك ، وتقول : يكون خيرا إنشاء الله . ولايتك تكاد تنقضي ، ولم أر خيرا . يبدو أني أخطأت عندما عبأت لك الحي الذي أسكنه ، وصوَّتَ عليك بالأغلبية المطلقة . أُريد الآن جوابا واضحا .
وضع القلم فوق الأوراق ، وتلعثم لسانه :
ـ ماذا أقول لك ! والله العظيم حاولت أكثر من مرة ، لكن دون جدوى . أربع مدراء شركات وعدوني ، واخلفوا الوعد . الوقت صعب ، لم أعد أقدر على النظر في وجهك .
وقف أحمد زائغ النظرات ، خطر له أن يقلب المكتب عليه ، وليحدث ما يحدث . حاول تهدئة أعصابه ، قال و الشرر يتطاير من عينيه :
ـ الانتخابات اقترب موعدها ، أقسم بالله حتى أطوف على سكان الدائرة بيتا بيتا ، كما فعلتُ من قبل ، ولكن هذه المرة لأفضح نفاقك وكذبك وألاعيبك ، والأيام بيننا .
خرج غاضبا وجرّ خلفه البابَ بقوّة حتى كاد يقتلعه .


المعجم :
* (الزيّار) : التشدّد
* (شمكار) : متشرد
* الحي الشتوي : من أرقى الأحياء بمدينة مراكش يقع بشارع محمد السادس .


مراكش في 06 دجنبر 2020




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى