محمد عباس محمد عرابي - رسالة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية للباحث /حسن هادي محمد

البحث البلاغي عند الأصوليين أطروحة تقدم بها الباحث :حسن هادي محمد إلى مجلس كلية الآداب / الجامعة المستنصرية، وهي جزء من متطلبات نيل درجة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية وآدابها بإشراف د . عبد الرحمن شهاب أحمد في شعبان 1425 هـ / تشرين الثاني 2004 م، وفيما يلي نص مكونات الدراسة ونتائج الدراسة ومقترحاتها كما ذكرها الباحث /حسن هادي محمد بنصها في رسالته للدكتوراه في فلسفة في اللغة العربية(البحث البلاغي عند الأصوليين) على النحو التالي :

مكونات الدراسة :

الفصل الأول: ( مقدمات تمهيدية للدخول في الموضوع):

كان الفصل الأول تمهيدا يتضمن أوليات تعريفية بدراسة الأصوليين للمعنى والدلالة ، فعرف الباحث البلاغة وأصول الفقه ، وطبيعة البحث البلاغي عند الأصوليين ؛ لبيان الصلة بين بحث البلاغيين للدلالة وبحث الأصوليين لها ، إذ الأخيرون يرتادون الدلالة العلمية لا التأثيرية العاطفية. ثم مفهوم اللغة عند الأصوليين ، ومفهوم الخطاب أو الكلام المنشأ عامة، والخطاب الذي يعالجه الأصوليون خاصة، وأقسامه وأنواعه، ومضمونه وموضوعه، ثم المناسبة بين اللفظ والمعنى، مما أدى بنا إلى بحث الوضع اللغوي للمفردات والتراكيب . ثم بين الباحث أبحاث الدلالة وانقسامها: باعتبار المتكلم والسامع إلى: حقيقية وإضافية (نسبية) ، وباعتبار كمال المعنى إلى: مطابقة ، وتضمن ، والتزام . وختمها بمفهوم البيان وتصور الأصوليين له عند عنايتهم بإيضاح المعنى بطرق البيان المختلفة، كما تناول موضوع القصد في استعمال المتكلم للألفاظ .

الفصل الثاني : عناصر الخطاب بحسب الوضع:

تناول الباحث فيه أقسام الدلالة من حيث الشمول (أو من حيث وضع الواضع للفظ) من: عام، وخاص، وما يتصل بهما من تخصيص العام بقرائن لفظية أو حالية، وما انفرد به الأصوليون عن النحاة في أسلوب الاستثناء- بوصفه مخصصا لفظيا- في دراسة تركيبية تخص المعنى. ويندرج في الخاص: المطلق، والمقيد، والأمر، والنهي. وقد حظيت صيغة الأمر عندهم ببحث وافر؛ لصلتها الوثيقة بالتكاليف الشرعية. وأيضاً تناول هذا الفصلُ المشتركَ اللفظي، ويغلب على كثير من الأصوليين كالمعتزلة في دراستهم المنهج العقلي المجرد، البعيد عن واقع اللغة، بينما الاتِّجاه الغالب عند عامة الأصوليين النظر إلى واقع اللغة، واستقراء استعمالاتها في أوضاع اللغة وتراكيبها، وتفسير كلامهم على وفق رؤىً وأعراف مبنية على ذلك، حتى اشتهر عنهم عبارات مثل (لا مجال للعقل في اللغات) و (لا قياس في اللغات) .

الفصل الثالث : الكلام من حيث الاستعمال ( الحقيقة والمجاز ):

تناول اللغة من حيث استعمال المتكلم لها في الكلام؛ لغرض التخاطب والتفاهم ، فدرس الحقيقة والمجاز ومميزاتهما وأسباب المجاز، وما اعتنى به الأصوليون، مما يتصل بهما من التغير الدلالي بأنواعه وأسبابه . وما تفيده مصطلحاتهم التي استعملوها فيه ، من شيوع الاستعمال ، وهو أهم ما يوجه الدلالة عندهم. وكذلك تناولنا فيه ما يتصل بذلك من أحكام الدلالة ، من حمل اللفظ أو التركيب إذا دار بين معنيين أو أكثر، من: وضع، وعرف، ومجاز، ومشترك . وقد استقصى الباحث في المجاز جزئياته أكثر مما استقصاه الباحث في غيره ؛ لأنه أكثر صلة بالبحث البلاغي من صيغتي المشترك ، والمترادف الذي أقصيناه – مثلا - .

الفصل الرابع: ظاهرة الوضوح والخفاء في دلالة النصوص:

تناول الباحث قضية فهم السامع الخطاب ، وما يصاحب ذلك من وضوح الخطاب وخفائه بالنسبة للسامع، الأمر الذي لا نكاد نجده عند دارسي المعنى قديماً وحديثاً في غير الدراسات الأصولية ، على الرغم من تصدر هذه المسألة مسائل المعنى ، لمن أراد استيضاح المعنى من أي نص، وتميزت دراستهم هنا بالمصطلحات الدقيقة لمراتب الوضوح والخفاء ، ووسائل توضيح الخفاء، مما له صلة بالدلالة على الحكم، من حيث القطعية أو الظنية، وإنها تعتبر عند التعارض بين الأدلة .

الفصل الخامس: العناصر السياقية والمقامية في الخطاب

تناول السياق ، إذ كشف الأصوليون عن معناه الواسع ، وسبقوا المحدثين في ذلك . وقد عرض الباحث فيه باختصارٍ نظريةَ السياق عند المحدثين (مالينوفسكى)، و(فيرث) وأتباعه ، وبعض اللغويين المحدثين، ثم عرضت مفهوم السياق عند القدماء من: مفسرين، وبلاغيين، وأصوليين، فتبين أن إدراك الأصوليين لقيمة السياق وأثره في الكشف عن المعنى الدقيق، وأن تفصيلهم لعناصره ، أكثر وضوحاً وأكثر إلحاحاً، ماداموا يهتمون بالكشف عن المعنى الدقيق، الأمر الذي لم تتنبه له السياقية الحديثة إلا بعد طول درس. فبيّنتُ فيه مفهوم السياق وأركان التخاطب: المخاطِب ، والمخاطَب ، والخطاب نفسه ، وما يحيط به من قرائن : لفظية ، وحالية ، مما يؤثر في بيان المعنى المقصود .

الفصل السادس: طرق دلالة النصوص على الأحكام ( المعاني ) :

تناول الباحث طرق دلالة النصوص أو (استثمار الخطاب)؛ وذلك انطلاقاً من كون النصوص متناهية، وأن الوقائع والأحداث التي تناولتها غير متناهية، وأن ما يتناهى لا يستوعب ما لا يتناهى . ولحل هذا الإشكال درسوا طرق دلالة الخطاب ، إذ تدل عباراته في سياقاتها: بالألفاظ نفسها ، أو بمعناها الذي تستلزمه، أو بفحواها، أو بما يفهم من المخالفة . وهي دلالات متلاقية غير متنافرة، مما شخصه الأصوليون من وسائل فهم النص ، ويجمع هذه الوسائل ثلاثة أبعاد كبرى؛ لأن ( اللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه ، أو بفحواه ومفهومه ، أو بمعناه ومعقوله ، وهو الاقتباس الذي يسمى : قياساً ) ، والمعقول يتنوع إلى : جزئي ، وكلي . فقسم الأصوليون طرق الدلالة على :

1- ما يستفاد من الألفاظ ، وهو : العبارة ، والإشارة ، والاقتضاء . أو بتعبير المتكلمين : ما يستفاد من المنطوق : الصريح ، وغير الصريح .

2- ما يستفاد من المعاني اللغوية : مفهوم الموافقة ، ومفهوم المخالفة.

3- ما يستفاد من المعاني الشرعية : الجزئية ( وهو القياس ) ، والكلية ( وهو الاستصلاح ) .

4- ما يستفاد من الأصول عند انعدام الدليل .

والأخيران ليسا موضوع الدراسة الحالية ، بل يبحثان في أصول الفقه عقلياً .

5- مراتب هذه الطرق ، والذي يعنينا مراتب الطرق اللغوية في الدلالة على المعنى .

وقد حددوا مراتب هذه الطرق في قوة الدلالة، فعبروا عنها بمصطلحات : عبارة النص ، وإشارة النص، واقتضائه ، وفحواه ، ومفهوم مخالفته ، وإن أقواها في الاستنباط العبارة ، تليها الفحوى عند الشافعية ، ويقدم الحنفية الإشارة على الفحوى، والاقتضاء في المرتبة الرابعة . أما مفهوم المخالفة فاختلفوا في الأخذ به والاستنباط به ، وقد ختم الباحث الفصل بملاحظات مهمة عن حقيقة الخلاف في الاستنباط به.

الخاتمة :

ذكر الباحث في الخاتمة أهم النتائج والملاحظات التي انتهى إليها من الدراسة

منهج الدراسة :

فقد اقتضى الحرص على تمهيد ببعض الأوليات ؛ للدخول في الموضوع ؛ لئلا يتكرر بعض المسائل المشتركة بين الفصول ، ولئلا يحصل استطراد أثناء ذلك . وكذلك قد حرص الباحث على وحدة الموضوع ، وتركزه في البحث اللغوي البياني للدلالة الأصولية على مستوى الكلام أو النصوص المنشأة ، متناولاً مالا بد منه مما يتعلق بمباحث لغوية كوضع العام والخاص وغيرها ، وما يتعلق بإيضاح فكرة من مسألة فقهية بُنِـيَت على مسألة أصولية.

فبحث الباحث علاقة المقتضى والمفهوم بالخطاب ، وسار في الدراسة بتدرج ، فدلالة الخطاب: بوضع ألفاظه ، ثم باستعمالها ، ثم احتمال السامع لها . ثم كون دلالته بألفاظه قبل دلالته بمعانيه (اللغوية).

وقد أستغني عن بعض المباحث ؛ لإغراقه في مسألة لغوية أو فلسفية أو أدلة نقلية أو غيرها ، فألخِّـص نتائجه ، وأحيل - ؛ للزيادة - عليه . وقد ناقش الباحث ما يحتاج إلى نقاش ، مؤيداً حيناً ، ومعارضاً حيناً آخر .

وحرص الباحث على بيان وجهتي نظر مدرستي المتكلمين والفقهاء ، فيما يتطلب ذلك ، وقد يلجأ الباحث إلى غيرهما ؛ لبيان جوانب من بعض المسائل ، كما أورد الباحث موقف ابن حزم من (المفهوم) . وقد كثر الاقتباس في البحث؛ لتعزيز النتائج بالأحكام والأدلة والشواهد ، فأشار الباحث إلى كل ذلك حرصاً على الأمانة العلمية .

ومما ينبغي التنبه له ، أن غرض البلاغيين هو تجريد المعاني المستفادة من النصوص بكل ما في النص من طاقات دلالية ؛ لغرض تحديد المعنى العملي ، الذي هو هدف العمل الأصولي ، والمراد فهـمه وتطبيقه في الواقع . ولذلك فإن مسار الدراسة قد اتخذت من اللغة لغة علمية ، (وهنا أضحت اللغة في عقولهم لغة علمية ، تتحدد بها الفكرة وتتضح ؛ لارتباطها بالحكم الشرعي المراد تطبيقه) ، فهي تختلف عن اللغة الأدبية ، فتنحو لتجريد اللفظ عن صفة الانفعال العالقة به أول وضعه واستعماله فيما وضع له ، إذ تهتم اللغة الأدبية بالمعنى الجمالي الذي لا يركز عليه البحث الأصولي ، متجهاً للمعنى العملي فحسب ، وذلك ما يظهر من تعريفاتهم للغة أيضاً .

نتائج الدراسة ومقترحاتها :

توصلت الدراسة إلى النتائج والمقترحات التالية التي ذكرها الباحث على النحو التالي :-



1 - تتركز دراسة الأصوليين للبلاغة على المعنى ووسائل الكشف عنه ، إذ تهتم به مختلف التخصصات العلمية ، ولا سيما أصول الفقه الإسلامي ، إذ ابتدعوا مباحث لم يأت بمثلها غيرهم .

2 - كان من ضرورة الربط بين البلاغة وأصول الفقه التمهيدُ بمقدمات تعرف بموضوع كل منهما ، وهو الخطاب المنشأ ، وتُـبَـيِّـنُ أنّ هدف البلاغة دلالة الخطاب من حيث تأثيرها في النفس، بينما يستهدف البحثُ الأصولي الدلالةَ العِـلْـمِـيَّة ، وهو إنْ تناول الدلالة الأُولى فإنه يوظفها للوصـول إلى المعنى العِلْمِي المحدَّد ، مستـبطناً قصدية المتكلم . وكذلك فإنّ البلاغة عند الأصوليين تتجه نحو الدلالة ، فهي بلاغة الدلالة ، حيث البحث في الدلالة يشمل كُلاًّ من : الدلالة التأثيرية في النفس ؛ للوصـول إلى المدلول العاطفي ، والدلالة التي يراد منها الكشف عن المعنى بمعرفة قصدية المتكلم .

3 - نظر الأصوليون إلى جهات متنوعة من دلالة الكلام ، فهنـاك دلالة حقيـقية ( أي : يقصدها المتكلم ) ، وهناك دلالة إضافية ( أي : بالنسبة للسامع ) . ومن حيث كمال المعنى فالدلالة إمّا مطابقة أو تضمن أو التزام . وشرحوا مفهوم البيان بما يخدم دلالتهم ، ذلك البيان المراد التزام المتلقي بتطبيق مدلولاته في واقع عملي ، حيث الخطاب الذي يبتغون الكشف عن مراميه خطاب تشريعي ، بَـيْـدَ أنّـه في البلاغة والفصاحة بالـغٌ حـدَّ الإعجـاز .

4 - ونظروا إلى الدلالة من حيث شمولها في وضعها اللغوي : فإمّا أنْ تشمل جميع المشتركين في مادة اللفظ ، أو فرداً خاصاً منهم ، أو هي مشتركة بين أفراد مختلفة لا تجمعها صفة عموم . ودرسوا وسائل : تخصيص العام ، وتقييد المطلق (وهو من الخاص) ، وتعيين المراد من المشترك . وكانت لهم آراء في توجيه النتائج النحوية في الاستثناء ، فناقـشوا شروطه كالاتصال الزمني والاتصال النوعي ( أي : الاستثناء المتصل ، والمنقطع)، وكالنسبةِ الكَمِّـية بين المستثنى والمستثنى منه . وهذا ما تناوله البلاغيون في موضوع الإطلاق والتقييد . وقد حظيت عندهم صيغ الأمر ببحث وافر ، من اقتضائه الفورية أو التراخي ، أو المرة أو الاستمرار . ويعد هذا مما ابتدعوه في مباحث الدلالة .

5 - بحثوا اللغة الموضوعة من حيث استعمالها في الكلام ، فالكلام بها إمّا حقيقة أو مجاز . وقسّموا كُلاًّ منهما حسب البيئة الكلامية المتداول فيها أو المنقول منها ، من لغوي وعرفي وشرعي ، وما يصحب ذلك من تغير دلالي في الكلمات . و أظهرت دراساتهم ما حظيت به الحقيقة الشرعية من سلطان بين الدلالات الحقيقية الأخرى . وكان أهم ما يوجِّه الدلالة عندهم هو شيوع الاستعمال .

وقد استقصوا أحكام الحقيقة والمجاز ، وما ينبغي المصير إليه من تشخيص الدلالة بأيٍّ منهما ، عند دوران اللفظ أو التركيب بين معنيين أو أكثر ، من وضعيٍّ أو عرفي أو مجاز أو مشترك. ويعد هذا من إبداعاتهم أيضا .

وقد ناقش الباحث هنا ما اشترطه البحث البلاغي لتحقق الاستعارة من عدم انطوائها على الاستحالة .

6 – وخَصَّ ما ابتدعه الأصوليون في دراسة المعنى هو بحثهم قضية الوضوح والخفاء التي هي من طبيعة النصوص ، ومستوى كل منهما ، وهو أمر يخص السامع المتلقي للخطاب . فميزوا بين تلك المستويات بمصطلحات دقيقة ، وأعطوا وسائل للكشف عن الخفاء الذي يطوي النصوص ، وما يتعلق بذلك من قطعية الدلالة أو ظنيتها ؛ لكي يصلوا إلى الدلالة المقصودة عند التعارض بين النصوص . وانفردوا عن البلاغيين بجواز استحالة المعنى الحقيقي في الكناية ، وهو أمر لا يمنع من إرادة ذلك المعنى . فالكناية عندهم أعم منها عند البلاغيين ، فهي تشمل الحقيقة والمجاز ، فلا تقابل المجاز ولا تعارضه .

7 - أما دراستهم للسياق فقد نظروا فيه إلى غايات بعيدة . وتتمثل في بحثهم له عصارة بحثهم للمعنى والكشف عنه ، فبينوا قيمة السياق وأثره في الكشف عن المعنى الدقيق ، وفصَّـلوا في عناصره أكثر وأوضح مما صنع غيرهم من دارسي المعنى قديماً ، الأمر الذي تنبهت له الدراسات السياقية الحديثة بعد طول عناء .

فتناولوا في ذلك دراسة القرائن المتنوعة من مقالية وحالية . فالقرائن المقالية عندهم لا تنحصر في الجملة الواحدة أو العبارة الواحدة ، ولا في المقطع الواحد أو النص المنشأ وحده ، وإنما تمتد إلى الكتاب كله ، بل إلى المنظومة الكلامية كلها ، وذلك بالنظر إلى مصدر النص المنشأ . وكذلك فالقرائن الحالية أو المقامية تمتد لتشمل : المخاطِب ( المتكلم ) وحقيقته ( أو شخصيته ) ، والمخاطَب ( السامع - أو المتلقي - ) وشخصيته ، وما يحيط بالخطاب من ظروف بيئية مادية ومعنوية ، فرأوا كل ذلك مؤثراً في توجيهِ دلالة الكلام وبيانِ معنى النص المنشأ ، وهذا ما يمكن تسميته بـ ( النظرة إلى السياق الأعظم ) .

كل ذلك لكي يصلوا إلى قصدية المتكلم ، فهي محور دراستهم ؛ نظراً لكون الخطاب الذي تتركز دراستهم حوله هو الخطاب الشرعي المراد إيصال معانيه أو مداليله إلى المتلقي ؛ لينشئ بها واقعاً عملياً يقع من نفسه موقع التقديس . فقرروا أن الدلالة التي يقصدها المتكلم هي الدلالة الحقيقية ( أي : التصديقية ) سواء كان التعبير فيها بالحقيقة أم بالمجاز . فههنا مفهوم آخر للحقيقة ليس هو المقابل للمجاز . وأن الدلالة التي يفهمها السامع قد تكون حقيقية بمعنى : أنها موافقة لقصدية المتكلم ، وقد تكون غير موافقة لها ، فهي حينئذ تصورية فقط ، فُهِمَتْ من اللفظة والتركيب ، فهي دلالة وضعية .

أما دراستهم لتخصيص العام وتقييد المطلق ، وكون الامر أو النهي للفور أو للتراخي، أو كونه للمرة أو للتكرار والاستمرار، وكذلك دراستهم للتعارض في الحقائق والمجازات ، بصوره المتعددة ، والترجيح بين ذلك ، وكذلك بحثهم في إيضاح الخفاء الذي يعتري النصوص، وبحثهم في وسائـله ، فلم تستقم لهم نتائج تلك الدراسات إلاّ من خلال العمل بمبدأ السياق الأعظم ، وتحكيمهم جميع قرائنه المرصودة ؛ لتوجيه المعنى وتحديده على وفق قصدية المتكلم .

8 - ومن أهم ما ابتدعوه أيضا بحثهم طرق دلالة النصوص على الأحكام . وذلك انطلاقاً من قاعدة : أن النصوص متناهية محدودة ، وأن الوقائع والمواضيع التي تتناولها غير متناهية، وأن ما يتناهى لا يستوعب ما لا يتناهى . فالكلام يدل بلفظ عبارته نفسه ، وسمَّوها : ( دلالة المنطوق الصريح ) ، ويدل بالمعنى الذي يستلزمه اللفظ ، وسمَّوها : ( دلالة المنطوق غير الصريح ) ، وهي دلالة صيغة الكلام ومنطوقه من : اقتضاء النص للمعنى أو إشارته أو إيمائه إليه . وهذا ما يستفاد من الألفاظ نفسها. وهناك ما يستفاد من المعاني اللغوية : ( أي : دلالةُ فحوى الكلام ومفهومِه ) ، وهما : مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة . وأن دلالته قد تكون وضعية تصورية تفهم من اللفظة والتركيب ، وقد تكون تصديقية معززة باستكناه قصدية المتكلم . وأنه يتنوع إلى مفاهيم متعددة ، منها الاستثناء والشرط والصفة والغاية والعدد وغيرها ، مما يعد من القيم الخِلافـية التي يهتم ببحثها الدرس الدلالي الحديث.

9 - كل ذلك يدل على مقدار الجهود التي بذلها الأصوليون في دراسة المعنى ، مما يعد إثراءً للدرس البلاغي ، وطاقةً لغوية يمكن أنْ تستثمرها الدراسات الدلالية الحديثة .

10 - اتسمت بعض الدراسات الأصولية في مباحث الدلالة بالطابع العقلي البعيد عن الواقع اللغوي ، وهو أمر عام في الدراسات اللغوية ، تأثراً بالمناهج العقلية، عند مناقشة الأفكار الفلسفية من النوع ذي التصور الذهني المحض البعيد عن الواقع العملي. بينما يغلب على جمهور الأصوليين النظر إلى واقع الاستعمال اللغوي وتقرير الحقائق اللغوية وتوجيه المعنى على وفق ذلك .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى