عمر نفيسي - "البعد الصوفي وإشكالية الإبداع والتلقّي في النتاج الشعريّ لدى بلعطار".. قراءة في قصيدة للشاعر الزجال ادريس بلعطار

النوبة فيك
ف هذ الشدة
هيتي بالنحيط
فرحة وعزو
عري فينا
الحق كسدة
إلا كساه خيط
الغل طرزو
حفري ..حفري
لطلتنا نفذة
كان لڭاها حيط
وظفارنا عكزو
جيبي
على ضبابة
وسيرة حطابة
جيبي
على غابة
كان عوادها كزوا
جيبي على بربش
وملوك حنش
واليابوري بو العوامة
وملك للسما
وملك للما
وشكون حررزوا
حتى جف جناني واخرب
......

هيتي: غني (الهيت) غناء ل عبيدات الرما بالجهة الغربية للمملكة.
النحيط: البكاء والنحيب
كسدة:جسد
جيبي على: غني ل...
بربش: اسم طائر.
ملك لحنش: جزء من محلة غنائية تنتمي للون الاسود في الليلة الكناوية
اليابوري: كناية على ملك الماء في أسطورة كناوية

دائما وبحب أجدني أتفاعل مع نصوص الشاعر الزجال ادريس بلعطار، وأعيش التجربة الشعرية التي عاشها ، أو أكون قريبًا من ذلك. فسرعان ما ترمي بي القراءة الأولى لقراءات متعددة إلى أن أجدني أجري مع جريان صياغة الشاعر . وكم من مرة وأنا أتناول نصا لبلعطار تساءلت كيف أكون مستعدا مند الوهلة الأولى في اقتحام النتاج الشعري لبلعطار وأحيانا أبدأ في وضع نقط دون أن أكمل القراءة الأولى ... سؤال لازلت لم أجد له جوابا ...
النص الذي بين أيدينا وقع فيه ما ذكرت فما إن أكملت القراءة الأولى حتى ربطني بأصفاده وأنا داخله . ثم أسقط بين راغب في الخروج منه ومعاتبا لنفسي لما قرأته ومنحته ناصيتي وعاشقا للبقاء فيه . لأقتنع أنني أمام نص لشاعر كبير وما يقع لي هو شيء يتلقاه كل متلق واع أمام نص بادخ لشاعر واع بآلياته الشعرية .
وهنا أتذكر شعر أبو الطيب المتنبي حين يقول مفتخرًا بما يحدثه شعره من ابتلاء لدى متلقي شعره؛ فيقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها …. ويسهر القوم جراها ويختصمُ
وتذكري لهذا البيت جاء ووضعيتي مع هذا النص الذي مررت عليه مرور الكرام بعد مغرب البارحة وأيقضتني هواجسه منتصف الليل لأسهر من أجله وأختصم جراءه مع ذاتي
وحتى لا أطيل فتلك إشكالية الإبداع والتلقّي في النتاج الشعريّ لدى بلعطار حيث تبقى نصوصه ذات جمال ملائكي ما إن تتمكن منك كقارئ حتى تغريك بكل أشكال الزينة .
وهذا النص له جذبة ناتجة عن اشتغال الشاعر الزجال على مصطلحات ثراثية تقذف بك مباشرة داخل شطحات صوفية .
النوبة فيك
ف هذ الشدة
هيتي بالنحيط
فرحة وعزو
النوبة فيك/... النوبة أو الدور مصطلحات متصوفة توحي بوصول الموعد للاجتماع وترتيل الأهازيج الصوفية وأوراد الذكر والعيش لساعات في أجواء روحانية خاصة،
ونجد مصطلح النوبة لدى متصوفة الزوايا بالمغرب له موقع مهم في خطاباتهم وفي ابتهالاتهم وتوسلاتهم لشيوخهم الأموات والأحياء
كما جاء استعمال لفظة " النوبة /النوبة فيك/ مولى نوبة/ له علاقة ضرورية بموكب كبار الطريقة ومشايخ الذكر في احتفالات المدائح النبوية وقراءة الأوراد الطريقية .
حيث استعملت لفظة النوبة فيك للتوسل والنداءات عند العامة المريدين مستحضرين قدسية المشاييخ
واستعملت عبارة مولى نوبة والمولى دون السيد وفوق الخادم ويوجد بين المنزلتين صفة الصاحب ونقول مولى نوبة هو صاحب النوبة أوالذي فيه النوبة كما جاء في النص الشعري الذي بين أيدينا (النوبة فيك)
النوبة فيك/فهد الشدة ... والعبارة الشعرية تفيد التوسل والتهييج عبر الإبتهالات للوصول إلى السمو من أجل اللقاءالروحاني مع المتوسل إليه كان إلاها أو شيخا في محط القدسية لأجل إنقاد المتوسل من مأزقه الذي يجعل نهايته بيد المتوسل إليه فقط
هيتي بالنحيط /فرحة وعزو... وهذا الهيت كما شرحه الشاعر الزجال في ذيل كتابته لنصه هو غناء عرف بجهة الغرب وهو مزيج بين نداءات وشطحات لها طقوس الجذبة . وما دمنا نتناول نصا زجليا فقد استوقفتني تجربة زجلية تأثرت بهذا اللون الثراثي (الهيت) وهي تجربة الشاعر الزجال المرحوم محمد الراشق وكما حكى لي في إحدى الجلسات التي كان مزاجها نقاشا زجليا فزوجته المصونة التي تنحدر من أصول غربية وعلاقته الوطيدة بأصهاره كانت سبب تأثره بنمط الهيت وهذه موضوعة غلبت في ديوانه الأول " الزطمة ع الما ".
هيتي بالنحيط / فرحة وعزو ... نتساءل ما علاقة الهيت بالنحيط ..؟
فالشاعر الزجال هنا ولصنعته الشعرية الفائقة قد اشتغل على المتقابلات الشعرية أو ما يسمى كلاسيكيا بالتضاد والمقابلة وهذا النوع من الإشتغال مشفرة رسائله وموجهة للنخبة . فقد يحدث متعة جمالية لدى القارئ من وراء هذه المفارقات التي تتيح له فرصة البحث والكشف عن أسرار هذه الهيئات وسبر أغوارها، وعلاقة ذلك كله بالدلالة النصية، وبذلك يسهم المتلقي في كشف رسالة البث الشعري.
الهيت /الفرحة
النحيط / العزو
فالهيث مثلا له علاقة ضرورية بالفرحة لانتمائه للأهازيج والنحيط له علاقة ضرورية لإنتمائه للمآثم والعزاءات والمفارقة لتحقيق التضاد لها علاقة اعتباطية اختار الشاعر الإشتغال عليها للمتعة والجمالية .
عري فينا
الحق كسدة
إلا كساه خيط
الغل طرزو
لازالت التوسلات جارية والجذبة قائمة لدى هذا النص المجذوبي من أجل رقي النفس و الكشف عن تبطين الحق في السلوك الإنساني ، فالتعرية بكل مفاهيمها القدحية قد تكون صحية من أجل إظهار الحق ولهذا أتانا التعبير الشعري ب "عري فينا الحق كسدة" لأن تعرية الجسد توحي بإظهار العورة وهذا يعتبر خطابا مقيتا ، إلا أن الخطاب الشعري يعتلي بمقاصده ومضامينه لأبعد المفاهيم وعلى المتلقي أن يدرك مقاصد التعبير الشعري عبر استقراءاته مخلفا وراءه كل ما يفسد الفهم تقديرا لقدسية الشعر . ونقول أن تعرية الجسد في نص ادريس بلعطار كان حضورها من إجل الإغتسال والتنقية حيث لا جسد يكمن تنظيفه وهو مستور بسترة . ونقاء الجسد لا يتم إلا بنقاء الروح ...فالتعرية وعلاقتها الضرورية بالكساء والحق داك البعد الغيبي الذي لا يتحقق إلا بنقاء الروح الخالية من الغل .
كلها توظيفات استعملها الشاعر الزجال بتقنية فائقة البناء والإلتواء التعبيري الغير معهود في الكتابة الشعرية الزجلية لا لدى هؤلاء ولا لدى أولائك ...ف عري / كساه/خيط/طرز في مقابل /الحق/كسدة/الغل... وهنا المفارقة والتماس يلامسان في آن واحد تلك الخطوط الرفيعة في اشتغالات الشاعر الموسومة بالصنعة ودقة النسيج الشعري .
حفري ..حفري
لطلتنا نفذة
كان لڭاها حيط
وظفارنا عكزو
النداء التوسل والعيط كلها أدوات لازالت حاضرة في النص رغم بلوغنا ما بلغنا في تأويله وهذا دليل على وفاء الشاعر للونه الشعري . والتجديد داخله ، فالنداء والتوسل والعيط هم لبنات تأسست عليهم العيطة وبلعطار كشخصية شعرية زجلية لها ارتباط بالمتن العيطي لا ينتابنا أدنى شك في دعمه الإبداعي لهذا اللون عبر التجديد والبحث واستعمال آليات بناء النص الحديث أثناء بناءه لنص المتن العيطي وذلك من أجل تجويده
حفري.. حفري /لطلتنا نفدة ... يا ترى من ينادي بتعبيره الآمر بالحفر ...؟؟؟/
فالشاعر يأمرها متوسلا بأن تحفر منفدا لمرور رؤيته ، تلك الرؤية التي كانت حبيسة حائط ولم تستطع الأظافر من إنجاز ثقب لمرورها وتحريرها
فأي رؤية هي التي ينشد لها الشاعر حريتها .
والأكيد أنها تلك النظرة العامة الشاملة المتماسكة المترابطة التي يقدمها لنا الشاعر من خلال شعره والتي بات الشعر الحديث يتبناها .
كما أن المأمورة التي أمرها الشاعر متوسلا بصيغة الأنثى قد تكون القصيدة .
فإذا أجزنا هذا الإستقراء أنه هو الأقرب فعجز الأضافر ما مقصده أو ما تأويله إذا كان العجز نتاج ظعف
والرؤية من منطلق البعد الصوفي تبقى متحررة فتنفد إلى أقطار السماء من أجل الإتصال الروحي .
إذن فالشاعر له مقصد أدبي شعري وأحاط الرؤية بمفهومها الإبداعي الشعري وما اكتنفه من غموض والتباس وما اختلفت عليه من وجهات نظر .
جيبي
على ضبابة
وسيرة حطابة
جيبي
على غابة
كان عوادها كزوا .
لعلاقة هذا الشاعر كما وسبق ذكرنا بالمتن العيطي وبالعيطة عموما كلاما وإيقاعا وموسيقى لا يستثني الهنيهة في اتصاله بمصطلحاتها رغم كل ما وفره من آليات للتجديد في البناء الشعري.
ف تعبيره : جيبي على ضبابة /جيبي على غابة لا يتجاوز الحيز العيطي إنشادا
فلفظة جيب أوجيبي بصيغة الأنثى هو نداء للقول والقول شعرا أي أن لفظة جيب تعني قل الشعر .
وتروج العبارة بين شيوخ السواكن فمثلا نجد أن ساكن العلوة يقال عنه عند زعم الشيوخ على إنشاده فيأمرون بعضهم البعض بلفظة "جيب على جدك" أي قم وانشد مناقب جدك شعرا حتى يحصل التواجد الصوفي أو ما يسمى بالحال .
وإن الملاحظ من خلال تأويل هذا النص وأغلب النصوص لبلعطار أنه هناك موضوعة أساسية يحتفي بها وهي الكتابة الشعرية الزجلية وأن موضوعة النص الذي نتناوله الآن تتمحور حول الشعر إذ حملت الفقرة الشعرية الأولى نمط غنائي ثراثي ينبني أساسه على المتن العيطي وهو الهيت.
وكذلك الفقرة الشعرية الثانية تأكد عبر التأويل أن الشاعر يخاطب القصيدة ويجادل في بنيتها من خلال الرؤية الرؤيا.
وفي الفقرة الشعرية كذلك لم يغادر هنيهة وهو يجادل المبنى والمعنى الشعري من خلال الألفاظ ذات الإرتباط بالإبداع الشعري و التي تستعمل للدلالة على الشعر وقول الشعر .
جيبي على بربش
وملوك حنش
واليابوري بو العوامة
وملك للسما
وملك للما
وشكون حررزوا
حتى جف جناني واخرب
وفي الفقرة أو المقطع الشعري الأخير كذلك ظل يتوسل القصيدة الرافضة والتي لا زال يداريها من أجل الوصال أن تقول شعرا في بربش وهو جنس من الطيور كما ورد في فهرسة الشرح التي تقدم بها الشاعر في ذيل كتابته .
وأن تقول شعرا في مناقب ملوك حنش على الطريقة الصوفية وكذلك بالنسبة لليابوري بو العوامة وملك للسما وملك الما وشكون حرزوا أي من منع تناوله حتى جف جنان الشاعر واخرب .
ف جنان الشاعر هو روضة غناء مزهرة بالكلمات الملونة الرنانة والتعابير المموسقة والأحاسيس الجياشة وجفافها معروف عند أهل الكلام بنوبة تنتاب السجية بين الفينة والأخرى .
والشاعر في هذا المقطع يقدم قرابين لملوك الجان وشيوخ السجية الغيبية عبارة عن تهاليل وأمداح شعرية من أجل أن يظل شلاله الإبداعي ذافقا...
وتبقى المناهج الإستقرائية قاصرة ذات تأويلات تقريبية ويبقى الإبداع هو الفعل القول الحسن . وتحية لكل إبداع حسن ينتزع منا اعترافات لن تغادرنا إلا رغما عن أنوفنا.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى