هشام جعيط - التجلي وانطلاق الوحي

إنّ تكشف شخصية ماورائية للنبي وانطلاقة الوحي في الوقت نفسه مذكور بصفة واضحة في القرآن في سورتي التكوير والنجم. وسورة التكوير أقدم من الثانية، ويبدو هذا في أسلوبها على أنها دقيقة في وصفها: فالوحي قول من (رسول كريم) أرسله الله وليس بالتالي قول الله مباشرة. وهذا الرسول (ذو قوة)، وأخيراً فإن النبي رآه (بالأفق المبين). والأرجح أن هذه الرؤية تمت في الأول، وأن قول هذا الرسول المبلغ الأمين هو الوحي القرآني الذي قد يكون ابتدأ مع الرؤية ـ لكن سورة التكوير لاتبين ذلك ـ وتمادى بعد ذلك.

المهم هنا أن الشخص الميتافيزيقي ليس الله ذاته وإنما مبعوث منه، وأن محمداً رآه، وأن القرآن قوله لكن عن الله. وهذه السورة ترجع الأمور إلى تجربة ماضية وتوضحها إلى حدّ ما ويجب بالتالي ربطها بسورة النجم التي ترجع بذاتها إلى التجربة الأولى بكل دقة وتفصلها تفصيلاً موضوعياً وكما انطبعت في نفس محمد، على أنها تتحدث أيضاً عن تجربة رؤية ثانية. وإليكم هذا المقطع الأساسي:

والنجم إذا هوى (1).
ما ضلّ صاحبكم وما غوى (2).
وما ينطق عن الهوى (3).
إن هو إلا وحي يوحى (4).
علّمه شديد القوى (5).
ذو مرة فاستوى (6).
وهو بالأفق الأعلى (7).
ثم دنا فتدلى (8).
فكان قاب قوسين أو أدنى (9).
فأوحى إلى عبده ما أوحى (10).
ما كذب الفؤاد ما رأى (11).
أفتمارونه على ما يرى (12).
ولقد رآه نزلة أخرى (13).
عند سدرة المنتهى (14).
عندها جنّة المأوى (15).
إذ يغشى السدرة ما يغشى (16).
ما زاغ البصر وما طغى (17).
لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18).

هذا المقطع أساسي لأنه يبيِّن بكل نصاعة لحظة تجلي المخارق لمحمد التي تلتها فوراً لحظة الوحي، ثم تتلوها رؤية ثانية. وهنا أستعمل كلمة (رؤية) وليس (رؤيا) لأنه اتضح لي أن القرآن لايقصد رؤيا في المنام ولا حتى في حالة خاصة من انخطاف وغير ذلك، بل رؤية بالبصر يصدقها العقل ولا يخدعها الخيال. رؤيتان في الواقع الفضائي ـ الزمني بيِّنتان واضحتان تمام الوضوح وبالوعي الكامل.

ولئن تكاثرت الضمائر المستترة هنا حتى صعب على المفسِّرين والمترجمين ردّها إلى فاعل واضح، فالفهم الصحيح للنص لايترك مجالاً للشك، فيبدو كل شيء بيِّناً.

(صاحبكم) وهو فاعل هو محمد، (إن هو إلا وحي) أي القرآن، (علمه): الهاء قد ترجع إلى الوحي أو إلى محمد، (وهو بالأفق الأعلى) أي هذا الشديد القوى وليس محمداً ـ خلافاً لترجمة (ماسون) المغلوطة ـ (فأوحى إلى عبده ما أوحى): هذه الآية مثلت إشكالاً للمفسرين: أهو الله ويكون الفاعل مستتراً أم جبريل؟ نحوياً يكون هذا الكيان هو الذي أوحى ويكون محمد عبده. من المفسرين اعتماداً على عائشة مَن أرجع الضمير المستتر إلى الله بخصوص هذه الآية فقط: أي فأوحى [الله] إلى عبده ما أوحى، ولا يعني هذا البتة أن الله هو الذي تجلى، ومنهم اعتماداً على ابن عباس من قال إن هذا الكيان ذا القوة هو الله ذاته، (ليس في كل نوره) إذ لاتدركه الأبصار كما ورد فيما بعد في القرآن.

الحقيقة أن في هذه الآيات غموضاً وشيئاً من التردد بين شخصية الله وشخصية هذا الـ (شديد القوى). إن القرآن يريد أن يصف التجربة الأولى كما برزت للنبي في شيء من الغموض لأنها فعلاً مباغتة وأولية. بقي أن الوحي وإن كان مصدره الله المتالي، فإن الناقل له هو مبعوث الله كما ورد في سورة التكوير، وكما سيرد فيما بعد في الفترة المدنية: (قل مَن كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله).

ليس من المستحيل أن يعتبر القرآن في هذه الفترة أن محمداً (عبد) هذا الشخص الماورائي الذي يبقى غامضاً في هويته، فهو بين الله وبين (الملك) أو امتزاج لهما كما سنرى، فتستقيم العبارة نحوياً. وهذا الشخص الذي (دنا فتدلى) هو الذي أوحى سواء من لدنه أو عن الله. فهذه التجربة الأولى مشوبة بكثير من الغموض، وهو ما يريد أن يعبِّر عنه القرآن في قصده لوصف انطباعات محمد ونفسيته وتقبله لهذا الحدث العظيم الاستثنائي. ومن الملفت للنظر أن القرآن هنا يستعمل كلمة (وحي) وفعل (أوحى) خلافاً للتكوير حيث ترد عبارة (قول) لكنه قول (الرسول الكريم) وكأنه من لدنه سوى أنه ينعت بالأمين. وفي هذا المعنى ما يشير إلى التبليغ عن الغير. أما مفهوم الوحي في هذا السياق فيكاد يكون مستعصياً على الفهم: أهو كلام خارجي يسمع وفي دنو الشخص من محمد ما يبرر ذلك، أم عملية خاصة وخارقة تدخل الكلام أو حتى المعنى فقط في نفس محمد وتطبعه فيه؟ ومفهوم الوحي والإيحاء يرمز في العربية إلى الإلهام الداخلي وكذلك في القرآن بخصوص الأنبياء وغيرهم، إذ يبدو الوحي كرسالة داخل النفس أو أمر بدون وعي من المتلقي. ومن وراء ذلك فكرة أن الله يمسك بالأنفس والأفكار والإرادة، لكنه لايتكلم هو ذاته فيها بالصوت المتموضع في الزمان والمكان. وقد نزه القرآن الله بصفة فريدة بحيث لايشاء أن يجعله هو الموحي مباشرة للنبي، فالقرآن تنزيل وقد (نزله جبريل على قلبك). الله في القرآن متعال جداً، لايمكن تصوره، لكنه خلافاً لـ البراهما الكسول أو للإله الغنوصي، هو إله نشط في شؤون العالم والإنسان. إنه بعيد جداً وقريب جداً.

ومن هذه النظرة القرآنية إلى الشخصية الإلهية المتقدمة على الأديان السابقة، يبدو من المستحيل أن يكون الله ذاته قد تجلى للنبي أو أن النبي اتصل به مباشرة في المعراج مثلاً. فالرؤية الثانية في سورة النجم تشير فعلاً إلى (نزلة) أخرى بكل وضوح وتظهرها بما لايقل وضوحاً على أنها (نظرة بالبصر). على أن هذا حصل عند (سدرة المنتهى) التي لايمكن اعتبارها أبداً كموضع من مكة ـ كما يرى ذلك المستشرقون ـ بل هي إذ بدت لمحمد كمشهد واقعي بديع وخارق، فهي رمز لتناهي الأرواح والوجود كله وانتهائها في الفضائي ـ الزمني، وبالتالي إلى أن الله هو اللاّمتناهي، وقد فهم علماء المسلمين إلى حدّ ما هذا الأمر في قصتهم للمعراج التي هي اختلاق ذو قيمة دينية رفيعة. ولم يفهم المستشرقون تعبير (المنتهى) وحطّوا من مغزاه، بينما ترد العبارة نفسها في سورة النجم ذاتها (آية 42) (وأن إلى ربك المنتهى). ومن الملاحظ أن النبي في الرؤية الثانية توقف بصره عند هذا المنتهى، منتهى المصائر (فما زاغ... ولا طغى). ولا يعني ذلك فقط عدم الغلط والاشتباه والتنبه الكامل الحسي للمعطى للنظر، بل قد يعني كما ذكر ذلك المفسرون التحديق في الموضوع بقوة كي لايهرب البصر إلى اللاّمتناهي الذي من خلف. وفي الحقيقة ليس هناك خلف ولا أمام ولا فوق ولا تحت، فهو ما وراء العالم والوجود بصيغة الاستعارة، وهو ميدان الله بصيغة الاستعارة دائماً، إذ ليس لله ميدان ومستقر. كما أن العبارة القرآنية (فرأى من آيات ربه الكبرى) لها دلالة عميقة.

ورجوعاً إلى مشكلة التجلي، فإن كل منطق القرآن ضد فكرة تجلي الله ذاته، وما وجد في النص المقدس من تأكيدات على كلام الله لموسى أو جدال الله لإبراهيم بخصوص قوم لوط، غنما هو استرجاع للتراث اليهوي القديم حيث كانت الأنتروبومرفيا طاغية. وقد أراد القرآن بذلك عدم التعارض مع التقليد اليهوي، واعتماد استمرارية التوحيدية حتى تصل إلى فترة التنزيه القرآني الأسمى وعمق النظرة إلى الشخصية الإلهية وكنه الوجود. كذلك نفى القرآن بكل قوة التشخيص الإلهي في المسيح وكفر من قال بالتثليث. فليس القرآن رجوعاً إلى اليهودية الأولى ولا إلى اليهودية التالية من فوق المسيحية، إنما كان تجاوزاً لكل ذلك جميعاً مع إلحاح على تواصل التوحيدية من نوح إلى إبراهيم وفيما بعد إلى بني إسرائيل والمسيحيين وحتى الصابئة، لأن الإله إله واحد هو الله، وهو كوني وعالمي في آن فلا يسمى بـ (يهوه) عندما يتجلى لموسى بل الله، وهو الله دائماً من الخلق إلى الساعة إلى الأبد. وهو مبدأ الوجود الذي أوجده وقبل أن يوجده وإن أراد فسخه. فهو الوجود بعينه، إنما وجود بصفة خاصة به حاول القرآن حصرها بلغة البشر وموجهة إلى البشر. ولعل أمثل مقاربة للكيان الإلهي تلك الموجودة في سورة النور: (الله نور السّموات والأرض...).

وهذا كله يمنح رسالة محمد وجاهةً كبيرةً، ولهذا حجة قاطعة بأن الله ذاته لم يتجل لمحمد في رؤيتيه، ولا يفيد أن يقال إن الله على كل شيء قدير. فهو ليس كذلك لأنه لايقدر أن يتجاوز هويته ولا يقدر مثلاً أن يعدم نفسه، ولا أن يزيح حكمته ولا قوته.

ورجوعاً إلى التجلي الأولي والثاني، فيمكن بعد كل هذا التحليل أن نثبت بكامل القناعة عدة أمور:
1 ـ رأي محمد جبر ـ إيل أي قوة الله بالعبرية، ولذا نُعت بـ (ذي قوة) و(شديد القوى) ككيان يدركه الحس معلقاً في الهواء أي كشخص هوائي، ورآه ثانية بـ (الصبر). والأمر واضح فهي ليست رؤيا في المنام بل رؤية بعين الرأس.

2 ـ هذه الرؤية ليست من الخيال إذ (ما كذب الفؤاد ما رأى) وفعل (رأى) يرجع إلى محمد وليس إلى الفؤاد: (كذب) يعني خدع وليس كذب، و(الفؤاد) هو مركز الخيال والمشاعر وقد يعني العقل أيضاً كقوة إدراك وهي التي تضفي على المشاهد بالحس الإيمان بوجوده وتصدق الحواس.
3 ـ لايكذّب المرء فيما شاهده بصفة واضحة جلية وفي حالة نفسانية هادئة، ولا يجادل في ذلك لأن الرؤية أكبر برهان على الواقع والحقيقة إذا ما حصلت في اليقظة وباكتمال الشعور، ولذا يقول القرآن: (أفتمارونه على ما يرى). وبالتالي، فالرؤية تلعب الدور الرئيس في اللقاء مع الماورائي وأكثر بكثير من السمع الخارجي وتلقّي الصوت الداخلي. فالمشاهدة هنا مشاهدة حسِّية واقعية لكيان متموضع في المكان والزمان.
4 ـ إلا أن هذا الكيان ليس كغيره، فقد ظهر (بالأفق الأعلى) أي في كبد السماء، ثم تنزل شيئاً فشيئاً متحدياً قوانين الانجذاب حتى وصل إلى محمد واقترب منه (قاب قوسين أو أدنى). والمقصود في رأيي مسافة رميتين. ولا يذكر القرآن شيئاً عن مظهر هذا الكيان السماوي سوى أنه (استوى) في السماء، والكلمة قد تعني الجلوس على النمط الملكي حسب المعاجم القديمة والترجمات الحديثة، أي الملك الجالس على عرشه. لكن يعني هذا الله ذاته (ذي العرش) كما تقول سورة التكوير. والأرجح أنه قد يكون جالساً ماداً رجليه حسب وصف ا بن هشام مالئاً الأفق (بجسمه). وما هو أرجح أنه كان في وضعية الوقوف ثم تدلى بعد ذلك: فاستوى إذن يعني الوضعية السوية، وهي هنا في اعتقادي وضعية عمودية ومستقرة.
5 ـ لانعرف شيئاً عن حجم هذا الكيان وليس بالضرورة أن يكون عظيماً ضخماً، فلا ذكر لذلك في القرآن، وليس حتى بالضرورة أن يكون مادياً كي يُرى شكله. فنحن نرى النور وأشعة الشمس وليس النور من المادة في شيء.

6 ـ اقترب هذا الكيان من محمد فأوحى إليه، والأرجح أن هذا الوحي كان بالأصوات المسموعة المحسوسة،، وإلا فلماذا يقترب منه بهذه الدرجة. وتذكر سورة التكوير أنه (قول رسول كريم). على أن المقصود بـ (القول) ليس ضرورة التبليغ بالصوت الخارجي، وإنما المقصود أن القرآن ليس من قول محمد وإنما أتى من رسول عن الله كيفما كانت الصفة. وإذ يذكر القرآن أن التنزيل وحي وأن الوحي يجري في داخل الضمير، أي باختراق للنفس النبوية، فقد يكون اللقاء الأولي بالصوت الخارجي استثناء، إلا أن القرآن واضح فيما أتى من بعد إذ يقول: (نزله [جبريل] على قلبك). وإنما (الوحي) في المعجم القرآني كثيراً ما يعني الأمر الآمر على الأغلب من دون شعور ووعي من الموحى إليه، أي التأثير على الإرادة والغريزة واللاوعي، فيوحي الله إلى النحل (النحل، 68، 69)، وإلى السماوات بعد خلقها (فصلت، 41)، وبخصوص محمد والقرآن، هناك فصل بين الوحي كعملية تبليغ وتأثير وبين القرآن ذاته. فالله أوحى القرآن، لكن القرآن هو نتيجة الوحي، وهذا واضح في الآية التالية: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) (يوسف، 12). فالقرآن هو الموحى به وليس الوحي ذاته، فهو (الذي أوحينا إليك) (الإسراء، 73)، وكذلك ولئن شيئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) (الإسراء، 86).

إن الوحي يقع على كل شيء في العالم وأنه الوسيلة التي يتحكم بها الله فيه، فهو في صلب العلاقة بين الله والوجود كيفما كان. والحقيقة أن بخصوص النبي كثيراً ما يرد أن الله يوحي إليه ولم ترد إلاّ مرة واحدة، بعد التكوير والنجم، قضية جبريل في كونه (نزله على قلبك بإذن الله) في سورة مدنية (البقرة، 97). ولست من الذين يعتقدون أن النص القرآني يتطور مع الزمان والظروف. فالأساسي فيه لايتغير من الأول إلى الآخر.
ففي التكوير، حصل الوحي عن طريق (رسول كريم)، وفي النجم عن طريف (شديد القوى) الذين أوحى إلى عبدالله محمد ما أوحى، وفي البقرة: (قل مَن كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) (البقرة، 97)، وفي النحل: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا) (النحل، 102)، وفي الشعراء: (نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين) (الشعراء، 193 ـ 193).

7 ـ وهنا تتضح الأمور، إذا كان في التجلي الأولي من الممكن أن يكون الوحي من (الملك) بالصوتن فهو حدث استثنائي. ومن الواضح أيضاً أن في غير هذا الموقع، نزله (الروح الأمين) وأسمي في مقام آخر بـ (الروح القدس). وانكشف اسمه أخيراً في البقرة بأنه جبريل، وهو الاسم المعرب لجبرائيلن نزل الوحي على قلب النبي أي بصفة داخلية كصوت الضمير، لكي يعي النبي أصله وهويته، ويعرف أنه ليس صادراً عن الأنابل موسوماً بالغيرية.

فمن الأول يبدو القرآن متناسقاً في وصف ظاهرة الوحي إلى النبي. إلا أن لحظة التدشين الأولى للوحي ليست كغيرها، وكذلك الثانية في النجم فهي ملتصقة برؤية ترمز إلى التعريف بعلاقة خاصة بين الله والنبي وتخبو الرؤى فيما بعد نهائياً ـ خلافاً لما تذكره خرافات السيرة ـ حتى لايبقى إلا الوحي الداخلي مع إمكانية سمع صوت خارجي. ولئن كانت هذه الرؤية (أمبريقية) كرؤية شيء ما خارجي بالبصر والعقل والإدراك، فهي ليست بالرؤية الموضوعية حيث فيها يقدم الموضوع ذاته لكل الناس، وليست في الحقيقة برؤية أمبريقية لشيء من العالم المعطى، إنما هي خاصة بالنبي مع أنها ليست ذاتية ولا من الهلس ولا حتى تجربة، بل لها سند في الواقع الخارجي. فهي تكشف من الحقيقة الماورائية مكتسبة حسب القرآن لكل شروط المصداقية.

ومن حيث خصوصيتها للنبي وصفتها الخارقة للقوانين الأمبريقية للطبيعة وتمكين النبي من المقدرة على إدراكها، فهي ليست بالرؤية العادية وإن جرت في اليقظة وبكامل الوعي والهدوء النفسي ـ خلافاً لما ذُكر في السير ـ . هي رؤيا لا بمعني الحلم لكن بمعنى إدراك ما لايُدرك عامةً وعادةً. أي أنا هنا ندخل في واقع لا إنساني وحقيقة تفوق الإنسانية. ولذا يكون من الأرجح أن نقول عن محمد إنه من أصحاب (الرؤى) كشأن كبار الأنبياء ومؤسِّسي الأديان، بل حتى في درجة أدنى المتصوفة والنساك، حيث يتكشف للإنسان الواقع الماورائي، هذا علماً بأن القرآن ينبذ بشأنه المعجزات. وتذكر لنا كتب التفسير أن محمداً كان يرى في اليقظة المشاهد أمام عينيه وكأنها واقع حاضر مثل مشهد القدس وغير ذلك ومثل الوقائع الحربية كبدر حيث يشاهد الملائكة يقاتلون ولا يراها غيره: (بجنود لم تروها) يقول القرآن (التوبة، 40). وكل هذا صحيح وليس ببهتان وكذب، فلا معنى لذلك بل على الأقل يتوجب تفهم تركيبة النفسية النبوية إذا أراد المرء استبعاد تدخل الماورائي.

-------------------------
المصدر : الوحي والقرآن والنبوة


هشام جعيط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى