وليد إخلاصي - عبد السلام العجيلي

أشهد أن العجيلي ليس بحاجة إلى شهادة منا، فالشيخ عادة هو الذي يشهد علينا. إلاَّ أنني أريد أن أقول في الرجل ما يجب للأجيال الجديدة من المثقفين والكتاب من ضرورة أن يذكروا دوماً ما هو عنه وفيه، فلا أظنه باحتلاله واحداً من منابر القدوة في حياتنا إلاَّ ويستحق رتبة المشيخة الأدبية بامتياز.‏
وأشهد أن بلداً كالرقة تستحق أن يكون لها العجيلي ابناً ورمزاً، وإن أرضاً كسورية تنبئ خصوبتها عن ولادة إنسان اسمه عبد السلام العجيلي خيرَ أمٍ لخير ابن.‏
قد خرج العجيلي من عمق الصحراء السورية نقياً كذرات الرمل فيها وقد تحولت إلى تربة أزهر العلم في طياتها ليصبح طبيباً يداوي الجراح والألم. وما لبثت روحه أن تفتقت عن حكواتي قدره أن يشهد على عصره، كما أن اهتمامه بالآخرين تفجر ليمارس السياسة فترة من حياته فيكون عيناً لها على الوطن وعيناً على ذا كرة زمن يلهث هرباً من ضياع. وكانت (الرقة) بلده على بساطة أرضها التي اكتوت برياح الغبار الموسمية قد حملت في عمقها المحمل بالتاريخ جنينَ كائن أطلَّ على الحياة وقد كتب له أن يكون واحداً من رموز عصرها الحديث.‏
وكأنما قدَّر للعجيلي في حياته أن يكون رسول رحمة لآلاف المرضى من أهل المدينة وبدو صحرائها المتناثرة من حولها، فكانت عيادته محجاً للذين يطلبون العلاج والدواء أكان سحراً تشع به رعاية الطبيب أم أقراصاً تنبض بالشفاء. وسنجد أن أطفالاً قد ولدوا لنساء البدو قد حملوا اسم عبد السلام تبركاً بشيخ الحكمة الذي تحولت عيادته إلى صدر حنون يقصده المرضى من كلّ فجّ عميق، وكأنما صنف المحتاجين قد حقن العجيلي بالقوة فيتأكد انتماؤه إلى رحم الأرض التي أنجبته.. ولو أن الزمن عاد إلى الوراء لوجدنا ساحر القبيلة يدور بين الخيام في الأحياء المتناثرة وهو يوزع تمام العافية، ولتبين لنا أنه قد حمل في الزمن الحاضر اسم عبد السلام العجيلي، فما أعجب التاريخ في تناسخه!.. أكانت تلك كل الحكاية، أم أن الزمن وهو أعظم الرواة له إضافة؟‏
بلى فقد اشتعلت في صدر الشاب جمرة الوطن ليلتحق في أيام النكبة الأولى بجيش الإنقاذ الذي هب لنجدة فلسطين التي التف على جسدها أخطبوط الصهيونية بأذرعه الشرسة، فاندفع العجيلي بإيمان راسخ أن روحه قد خلقت للدفاع عن وطن العروبة المهدد من غرباء ينتمون إلى عصابة حملت العداء لكل البشر، ولم تكن المعركة عادلة فكانت عودة العجيلي الخائبة مع من تبقى من المعركة بداية الإصرار والانتماء ليس للبلد الذي ولد فيه فحسب بل إلى الوطن الذي تمدد في أعماقه إلى أقصى الحدود التي نطقت بالعربية بكلامها وأحلامها.‏
ولم تكن حكاية الزمن هي التي تحتل كل مساحة العجيلي، بل إن العجيلي الذي شدّه الأدب إليه في أيام فتوته قد استيقظ الجوع إلى المعرفة عنده فجعل يلتهم آلاف الصفحات من كتب التراث ومن دواوين السفر في أزهى عصوره ومن حكايات وأمثال وسير، فتكونت لديه ثروة مبكرة من مخزون الأدب والحكمة كان له الأثر في تفجير موهبته الخفية. وهاهو ينظم الشعر كتابة وارتجالاً ثم ما لبثت حكايات قرأها واخترعها أن دفعته إلى كتابة القصص والروايات كحكواتي عصري ولكنه أصيل فأضاف إلى مخزون القصّ العربي الحديث أهمية بالغة، والتي لا يميز فيها الواقع الملموس من المتخيل والمخترع، فكان واحداً من أهم البنائين لصرح الأدب الحكائي في الثقافة العربية.‏
ومن طرف آخر وبالرغم من ارتباطه القدري بالإبداع الأدبي فإن العجيلي سيجد نفسه بعد أن لمع حضوره كنائب في البرلمان ممثلاً للشعب الذي نال استقلاله حديثاً، وهاهو بعد سنوات بات وزيراً للثقافة وكذلك وزيراً للخارجية. ومازالت ذكراه يوم كان على رأس المؤسسة الثقافية تسجل له وتؤكد على العلاقة السامية بين المسؤول وبين المهمة التي يتولاها. إلاَّ أن الجانب السياسي للعجيلي ستتأكد أهميته لاحقاً وذلك عندما تحول إلى ذاكرة وطنية ظهرت في الأعمال التي كتبها عن السياسة السورية في مرحلة دقيقة من حياتها.‏
وأذكّر بحكايات رحلاته في أرجاء مختلفة من العالم، فقد رسم بها حقائق عوالم زارها بألوان الدهشة والكشف عن وقائع قدمت لنا صوراً بالطيف التاريخي الذي أتقن العجيلي استخراجه من أبعاد اللغة وأسرارها. وأذكّركم بحكايات سجل فيها بفنية يحسد عليها انطباعاته الطبية وقد تخفت تحت قناع (عيادة في الريف)، فلا هو كاتب مذكرات فحسب بل إنه باحث إنساني حقيقي حسبت حكاياته ظاهرة أدبية/طبية تفتح الأفق أمام حضور جنس أدبي. إلاَّ أنه لم يقتصر في مغامراته الكاشفة عن ذلك الجنس بل كان في محاضراته يبتدع جنساً أدبياً آخر.‏
وحكاية المحاضرات التي تكاثر الطلب عليها كما لم يحدث مع كاتب آخر، وقد كان العجيلي يتحدث في المحافل والأوساط الثقافية في أكثر من بلد عربي وأجنبي فتجتمع عليه الأبصار وتتعلق به الآذان، فيختلط على جمهوره أمر المحاضرة التي جاء بها، هم يتساءلون إن كان العجيلي يكشف عن أمور جديدة كباحث جاد أو أنه يبتدع وسيلة مبتكرة للقص أو أنه يلبس الموضوع الجاد عباءة الحكاية المخترعة.‏
في محاضرة قديمة له بعنوان (الدم المطلول) روى العجيلي وقائع حادثة اجتمع فيها على التقادم ثلاثة رفاق. تحدث الأول عن شاعر اشتهر بالتجديد وقد اخترق حدود القصيدة المألوفة بمواقف شعرية سبقت زمنها فكان مخلصاً لعالمه الذي يعيشه عبر إبداعه، وحدث أن وجد الشاعر ذات صباح قتيلاً في مكتبه وقد اخترقت جسده رصاصة آثمة، أما الثاني فقد حدثهم عن صديق له يعمل طيباً أعطى خبرته دواء للناس وخفف عن مرضاه أوجاعهم بعلم ودراية حول عيادته إلى مقصد للناس بعد أن اشتهر في المدينة الكبيرة كنطاسي بارع، وذات يوم استيقظت المدينة على نبأ مصرع الطبيب وقد تضرجت جثته بالدماء وتلوث نقاء عيادته برائحة الجريمة التي لا تغتفر، وروى الثالث واقعة هزت كيانه فقد بلغه أن واحداً من معارفه الشيوخ قد قضى بلا معنى في اعتداء عليه دون أن يراعي المجرم المجهول حرمه السنين التي يحملها العجوز على كتفيه.‏
وسيتبادل الرفاق الثلاثة نظرات التحسر على فقدان أولئك وهم الشاعر والطبيب والشيخ العجوز، وسيلعنون سوء الحظ الذي يلحق بالإنسان مهما كانت صفته أو موقعه. إلاَّ أن المحاضر سيكشف في نهاية مقولته عن حقيقة لم تخطر على بال مستمع، فالرفاق الثلاثة كانوا يتحدثون أصلاً عن شخص واحد، وما كانوا ليشيرون إلاَّ إلى شخص اجتمعت فيه صفات الشعر والطب والشيخوخة، والذي لم يكن سوى (علي الناصر) الذي كان طبيباً من حلب وقد اشتهر ببراعته في الطب وبموهبته الشعرية الحديثة بالرغم من أنه تخطى عتبة السبعين من العمر. وكانت المحاضرة مرثية صادقة قدمها العجيلي عن صديق له. وكانت تلك المحاضرة نموذجاً لما يمكن أن نسميه بالمحاضرة/القصة وهي بظني أقرب ما تكون إلى الحداثة في القص النثري، فكأن الحكواتي في داخل العجيلي أسفر عن حقيقته في تغلغل الفن في نسيج ثقافته التي يصعب الإمساك بها بعد أن اختلط الطب بالوفاء بالموهبة بحكمة الإنسان المتبصر في روح العجيلي المتوقدة.‏
فأشهد أيها السادة الحضور أن العجيلي الإنسان فله حديث آخر، وأتحدث الآن باختصار عن العفة التي يتسم بها وكأنه وضع قاعدة لنفسه ستنسحب على ما يجب أن يكون عليه المثقف الحقيقي من خلق رفيع في العزة وفي التعاطف مع الآخرين وفي الارتباط بالبيئة التي ربته وبالسماء، التي ظللته وكأنه جاء إلى الحياة ليصبح أنموذجاً يستحق الاقتداء به، وها نحن نشهد الآن على ذلك.‏


(1) جريدة الأسبوع الأدبي العدد 999 تاريخ 25/3/2006م .


وليد إخلاصي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى