عصري فياض - كانوا ثلاثة..

قائد المجموعة اسمه فتحي، وعضوها الثاني صديقه محمد وكلاهما من مخيم جنين، وثالثهم الشاب جمال من بلدة ميثلون، وكان العام 1974 زمن الأحداث، وكانت معرفتهم كانت في العام 71 على خلفية عضويتهم في مجموعة مسلحة تابعة لحركة فتح، وبعد اعتقالهم ونسف منازلهم، وقضاء مدة محكومتيهم، خرجوا من السجن، فعاد فتحي الذي رحل للأردن بعد زواجه بالتفكير في تجديد تنظيمية وتشكيل خلية مسلحة بعد أن التحق بدورة تدريبية في لبنان بشكل سريّ...
رجع فتحي الذي كان يكنى أبو ثائر إلى مخيم جنين بعد عام تقريبا في الأردن، ووجد شقيقه مروح الذي اعتقل في العام 72 قد حكم بالسجن الفعلي لمدة اثنان وعشرون عاما، ففكر بتنفيذ تكليفه القاضي بتشكيل خلية من ثلاثة أعضاء، يكون هو على رأسهم، فعرض ذلك على صديق عمره محمد ، فلم يعارض، وعرض الأمر أيضا على الشاب المتوقد وطنية جمال ابن بلدة ميثلون، فوافق أيضا، وكان الاتفاق، انتظار التوجيهات عبر الشيفرة التي تبث عبر صوت الثورة الفلسطينية من أجل العمل، قال لهم أبو ثائر، يجب علينا الالتزام وانتظار التوجيهات، وبعدها لكل حادث حيث..
*
وكأن الشيفرة قد تأخرت بعض الوقت، ودخل الصيف من العام 1974، ولم تأتي، هذا الأمر اقلق محمد، فتوجه لقائد المجموعة أبو ثائر، وطلب منه الشروع بالعمل، لكن أبو ثائر حذره من مغبة التسرع،لأن القيادة العسكرية مطلعة ومتابعة لكل خلايا العمل الفدائي، وهي ادرى بظروف العمل ومتطلباته، صمت محمد دون أن يقتنع،وقرر التوجه للعضو الثالث جمال، وطلب منه أن يستعد لتنفيذ عمل ما،فالتقيا وكانت الخطة تشير لنية محمد بتكليف جمال بزرع عبوة ناسفه تزن 2كم من المواد المتفجرة في محطة الحافلات في مدينة العفولة..
سأل جمال محمد : ولكن كيف سيكون التنفيذ.. ليس لي دراية بجغرافيا المنطقة؟
رد محمد : لا تقلق، سأقوم بتصنيع العبوة وأوقتها،وسأضعها في سلة خضار، وأقوم بحملها إلى مجمع مواقف سيارات الأجرة في جنين،أنت ستكون بانتظاري لكن دون أن تتكلم معي أي كلمة، عندما تراني صعدت السيارة، ووضعت السلة في صندوقها الخلفي، تصعد وتجلس الى جانبي، وتتصرف كأني لا أعرفك ، وعندما نصل الى العفولة، ستحط بنا السيارة أمام مجمع الحافلات مباشرة، عندها اخرج أنا من السيارة وأتوجه غربا لبعض الوقت، وأنت تأخذ السلة وتدخلها إلى داخل المجمع وتزرعها في مكان مناسب، وتعود فورا للمغادرة إلى جنين، وبعد عودتك لا تتواصل معي إلا عندما أطلب منك ذلك ، أفهمت؟؟
رد جمال بالإيجاب
كرر محمد القول : سيكون توقيت انفجار العبوة الساعة الثانية عشر ظهرا لحظة الازدحام في المجمع، سنلتقي معا الساعة العاشرة صباحا، ننهي عملنا ونعود قبل الساعة الحادية عشر والنصف، وكل منا يعود لبيته بشكل طبيعي... واضح .؟؟
رد ربايعة :- نعم واضح
لنغادر ألان قال محمد ...سأتوجه ألان للبيت واحضر المطلوب مني، ونكون غدا في تمام العشرة في مجمع موقف السيارات العمومي
هز ربايعة رأسه مؤكدا،ونهضا كلاهما عائدان كل إلى بيته.
*
محمد يحمل السلة البلاستيكية شبه الممتلئة بالخضار والفواكه، وهي تخفي بين جنباتها العبوة الموقوتة، يسير بحذر وعيناه تبحث عن جمال، لقد رآه منتصب القامة يقرأ الصحيفة، وقف محمد خلف سيارة خط العفولة جنين، وعندما أدرك أن جمال رآه، فتح صندوق السيارة ووضع السلة ودخل السيارة، طوى جمال الصحيفة، وأسرع إلى التكسي قبل أن يمتلئ بالركاب، وجلس إلى جانب محمد في المقعد الأوسط، دقائق وبعد أن إمتلات السيارة ، تحركت نحو العفولة ..
عشرون دقيقة، وصلت السيارة التي تقلهما، وأخذت لنفسها مكانا أمام المجمع المقصود، نظر محمد إلى باب المجمع، فرأى دورية مما يسمى حرس الحدود والشرطة الإسرائيلية تقف بشكل غير معتاد أمام المجمع،صُدِمْ، لكنه تماسك وخرج من السيارة وتوجه غربا، وهو يطمن نفسه أن صديقه جمال سيتصرف بشكل لائق، وسينجح في زرع السلة في مكانها المناسب، سار في شوارع العفولة بعضا من الوقت، ثم عرج راجعا إلى المرآب ليعود إلى جنين قبل فوات الأوان، وصل ، وصعد السيارة، فتفاجأ بوجود جمال بداخلها، نظر إلى الساعة، لقد بلغت الحادية عشر تماما، "التكسي" يحتاج لبعض الركاب ليتحرك، فكر محمد في نفسه قائلا :-
كم أنت فذ يا جمال، استطعت زرع السلة والعودة مع وجود الشرطة وحرس الحدود؟؟
جاء راكب آخر، أصبح الوقت الحادية عشر والربع،محمد على أعصابه، لكنه يتردد كثيرا في الحديث مع جمال الذي يلتزم الصمت، جاء راكب آخر الساعة ألان تقترب من الحادية عشر والنصف،بقي راكبان، القلق باد على وجه محمد ومدفون في وجه جمال، أخيرا جاء راكبان رجل وزوجته، لقد إمتلئت السيارة، الساعة ألان الحادية عشر وخمس وثلاثون دقيقة، تحركت السيارة نحو جنين،هدأ روع محمد قليلا، وحتى يتيقن ويطمئن، مال نحو جمال الذي يجلس إلى جانبه وسأله :- قمحة ولا شعيرة؟؟
رد جمال : شعيره !!!
ذهل محمد من الرد وقال : الله يخرب بيتك وينها؟؟
أجاب جمال:لم أستطع الدخول.. إنها في صندوق السيارة!!
لطم محمد وجهه ونظر إلى الساعة ، فإذا هي الساعة الثانية عشر إلا ربعا...،توجه للسائق طالبا منه زيادة السرعة متحججا بوجود جنازة لأحد الأقارب ستخرج من مسجد جنين الآن.. وعاود إلحاحه بزيادة السرعة وعيناه لا تنفك ترتفع عن الساعة،حتى ضجر السائق من محمد واستشاط غضبا، وتجاوز الكثير من السيارات من فرط السرعة التي أكره عليها بفعل إلحاح محمد
وأخيرا وصلت السيارة إلى دوار المدينة الرئيسي قبل الموعد بتسع دقائق، أسرع محمد وحمل الحقيقية، ودخل حمامات المسجد الجديد متظاهرا لقضاء حاجة، وهناك فك سلك الساعة وأبطل مفعول العبوة قبل موعد انفجارها بأربع دقائق..........
*
كان لا بد من الرجوع لابو ثائر، ووضعه بتفاصيل ما جرى، برغم من توقع ردة فعله الغاضبة، وفعلا، لم يخفي محمد الأمر ، وابلغ صديقه وقائدة بما جرى، فاستشاط غضبا،وهدد بحل المجموعة إذا ما تم تكرار مثل هذا العمل، وبصعوبة هدأ محمد من روع أبو ثائر، وعاهده بأن لا يتكرر أي أمر إلا بعلمه، وطلب منه العودة للقيادة والطلب منهم التعجيل في تكليفنا في مهمات نضالية....
*
مرت أشهر، ولم يتغير شيء،وجاء شهر تشرين أول الذي يصادف فيه عيد ما يسمى " بيوم الغفران" لدى الإسرائيليين،فقفزت لعقل محمد فكرة تنفيذ عمليات استعراضية على طول الساحل الشمال لفلسطين المحتلة، حيفا وعكا وقيساريه والخضيرة ونهاريا، استدعى جمال ربايعة مرة أخرى، واخبره بنيته لتصنيع عدد من العبوات الأنبوبية، وحشوها بقوالب الخبر الإفرنجي الذي كان يعرف بخبز
" الفينو"، وتوزيعها على شواطئ السواحل الشمالية لفلسطين المحتلة،فما كان من جمال إلا الموافقة والقبول والاستعداد للتنفيذ، فكان الموعد صباح يوم الجمعة، حيث تسلم حقيبة الفينو من محمد وركب السيارة التي ستتوجه إلى حيفا، كان لا بد من الانتظار بعض الوقت حتى تستكمل حمولة السيارة، جمال يضع الحقيبة على ركبتيه ليتحكم في حركتها واهتزازاتها،فجأة تسرب دخان من احد قوالب الخبر، أدرك جمال أنها متقدمة انفجار، ففتح الباب بسرعة ليبعد الخطر عن باقي الركاب،وقبل أن ينفجر القلب ارتمي عليها وغطاه بجسده،فحصل الانفجار الذي مزق بطنه وقطع إصبعه ونال من عينه، ودمر الباب اليمن للتكسي.. هرع من كان في المنطقة لاستكشاف الأمر، أدركوا للوهلة الأولى انه انفجار ناتج عن عبوة، صرخ بهم وهو مدرج بدمه ابتعدوا عن الحقيبة، لا تقتربوا منها، تم سحبه من المكان بالحال ونقل إلى مشفى جنين وهو مدرج بدمه وصوته لا ينفك عن الهتاف والصراخ ببيت الشعر المعروف" إن للحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرجة يدق" حتى أغمي عليه وهو على سرير الطورايء،فهرعت إلى مكان قوات كبيرة من الجيش والشرطة والمخابرات الاسرائيلية وقامت باعتقاله من المشفى وتحويله مقيدا لمشفى العفولة العسكري.
*
لحسن حظ كل من فتحي ومحمد أن جمال دخل في غيبوبة لعدة أيام،هذه الغيبوبة أتاحت لفتحي للمغادرة إلى الأردن يوم الأحد، أي بعد يومين على الحادث، تبعه محمد يوم الاثنين، وتوجها سويا إلى لبنان وهناك قدما تقريرا عما حصل،فنصحتمها القيادة بالتروي وعدم العودة الآن، حتى تتضح صورة ما سيجري مع جمال، فتحي عاد الى عمان وإستاجر بيتا في جبل الجوفة ، احد جبال عمان السبعة، وأرسل لزوجته التي التحقت به، أما محمد، فقد مل الانتظار وقرر العودة إلى فلسطين لاعتقاده أن جمال لن يتحدث عن رفاقه في المجموعة، فعاد محمد بعد أربعين يوما عبر الجسر الذي كان يسمى حينها بجسر دامية، ليجد المخابرات الإسرائيلية بانتظاره، وحوِّل للتحقيق مباشرة...
توضحت فصول اعترافات كل من جمال ومحمد أمام المحامي، فكان لا بد من ترحيل ثقل التهم على العضو الثالث الموجود خارج الوطن بصفته قائد المجموعة، وتخفيف التهم عن محمد قدر الإمكان، وفعلا أصدرت المحكمة العسكرية في نابلس حكما قاسيا بحق جمال يقضي بالسجن الفعلي لمدة عشرون عاما، ومحمد بالسجن الفعلي خمس سنوات، وفتحي الغائب بالسجن الفعلي ثمانية وعشرون عاما، وهو منذ ذلك الوقت لم يعد إلى فلسطين بعد إن بلغ من العمر ثلاثة وسبعون عاما.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى