أحمد هاشم الشريف - الثقافة العربية.. هلى تعاني من الأخ الأكبر؟

أمام طغيان أجهزة الإعلام الرسمي.. وشروط الحكومة الثقافية صار المثقف العربي يخضع لها في كثير من الأحيان..وتخلى عن تمرده ـ خميرة إبداعه وتفرده ـ ليحظى برضاء هذه الأجهزة.. بعد أن صار الرضاء الرسمي وليس الشعبي.. هو وسيلة الاعتراف بالأدباء والمفكرين في عالمنا العربي.

صحيح أن الأخ الأكبر كان موجوداً في النظام العربي.. قبل أن يتنبأ "جورج أورويل" بظهور الأخ الأكبر الذي يحكم العالم في النظام الغربي.. وقبل أن يظهر بالفعل في النظام الرأسمالي بدلاً من النظام الشمولي.. وتصير له شمولية ـ بعد أن انفرد بحكم العالم ـ لا تقل في طغيانها عن أعتى النظم شمولية.. ففي نظامنا العربي القديم مات شاعرنا طرفة بن العبد مقتولاً بسبب جرأته في النقد وحدة لسانه.. ودفع بديع الزمان الهمذاني ثمن تمرده وسخريته من أهل عصره فدفنوه حياً.. وعندما فتحوا قبره بعد أيام من دفنه وجدوه جالساً وقد أسند رأسه بيديه.. فقد كان الرأس مثقلاً بالكثير من الأفكار الخلاقة التي قبرت معه.. لكن صورة الأخ الأكبر تغيرت كثيرا في العصر الحديث.. مع انبعاث النهضة العربية.. وقبل أن يطغى طوفان الإعلام.. وتمتلك الحكومة الثقافية في قبضة يدها وسائل النشر والاعتراف والترويض للأدباء والمفكرين.. ومهما قيل من أن عبدالله النديم عاش مطارداً.. وعبدالرحمن الكواكبي مات مسموماً.. وعبدالحميد الديب كان غارقاً في البؤس.. الذي جعل حافظ إبراهيم شاعر النيل ينتعل الدماء بدلاً من الحذاء.. وهو يسعى وراء وظيفة تضمن رزقه.. فقد كانت النهضة تحتاج إلى إبداع المثقفين وتنوع أفكارهم بعد عودتهم من البعثات الأجنبية.. واستطاع طه حسين أن ينتمي إلى حزب شعبي يمتلك حق الاختلاف معه.. وأن يكون أسعد حظاً من فولتير شبيهه الفرنسي.. فيبلغ كرسي الوزارة ويطبق أفكاره عن التعليم المجاني.. وعندما قامت ثورة 19 جلس عباس العقاد إلى جانب سعد زغلول قبل وزرائه.. باعتباره صاحب الفكر الذي يسبق العمل.. وعندما قامت ثورة 52 وقف جمال عبدالناصر يؤازر توفيق الحكيم.عندما أقدم وزير المعارف على فصل الحكيم من عمله.. بدعوى عدم إنتاجه.. وانتهى الموقف بفصل الوزير.. وكان عبدالناصر يقول مفاخراً.. طردت وزيرا من أجل مفكر.. وعندما قامت إحدى الصحف المصرية بحملة ظالمة تتهم فيها الحكيم بسرقة كتابه "حمار الحكيم" من الأديب الإسباني رامون خمينيث صاحب كتاب "أنا وحماري".. سارع عبدالناصر للتصدي للحملة بتكريم الحكيم وإهدائه وشاح النيل.. ومهما قيل عن شمولية الأخ الأكبر في عصر عبدالناصر.. فقد كان الاتجاه الغالب هو التحرر من التبعية الأجنبية، وانطلاق الملكات الإبداعية للأدباء والمفكرين.. وفي هذا العصر توالى ظهور جيلين من كبار المبدعين في الخمسينيات وفي الستينيات.. وكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس أفضل أعمالهم الأدبية والفكرية الداعية إلى التغيير.

ولم تكن الحكومة الثقافية قد ظهرت إلا في صورة وزارة للإرشاد القومي.. تولى مقاليدها فتحي رضوان ونجيب محفوظ ويحيى حقي وطائفة من كبار المبدعين.

كانت أبصارهم متجهة إلى الشعب.. وليس إلى كبار المسئولين.. ولم يكتب توفيق الحكيم كتابا في مديح عبدالناصر.. وكذلك لم يفعل نجيب محفوظ الذي انطوت أعماله على نقد التجاوزات وكشف الأخطاء.. ولم يكتب عباس العقاد عن ثورة يوليو 52 كلمة واحدة.. لأن ولاءه كان لثورة 19.. وعندما تسلم جائزة الدولة من عبدالناصر قال لعبدالناصر: إنني أقبل الجائزة باعتبارها تقديرا من الشعب.. فقد كان الأديب المفكر في ذلك الوقت يستمد شرعية وجوده وسلطانه المعنوي من جماهير قرائه.

الخطر على الإبداع

الآن تغيرت الصورة.. وصار المثقف يستمد سلطانه من الأخ الأكبر في إعلام بلده.. ويسعى إلى الجوائز الرسمية ويصارع أقرانه للحصول عليها.. وليس أمامه خيار آخر سوى أن يعيش في عزلة.. ويعمل في صمت بعيدا عن أجهزة الإعلام.. كما فعل الدكتور جمال حمدان والعلامة محمود شاكر.. والفيلسوف عبدالرحمن بدوي.. الآن تزايد الخطر على الإبداع بعد أن حول الأخ الأكبر إلى مبدع.. يقدم النموذج الأمثل للإبداع إلى الأجيال الجديدة. وبعد أن كان من كبار الإعلاميين صار من كبار المبدعين.. وكبار المنظرين وأصحاب الرؤى في مجال الثقافة.. فهو يوصف بالفنان الكبير إذا كان من هواة الرسم.. وبالأديب الكبير إذا كان قد جرب كتابة القصة أثناء الدراسة.. وفي عام واحد ظفر بعض الوزراء بجوائز الدولة التقديرية.. التي منحت من قبل إلى لطفي السيد وطه حسين والعقاد والحكيم.. فاختلطت صورة صاحب الفكر بصورة صاحب السلطة.. رغم أنهما ضدان.. ولكل منهما مجاله وعمله.

يحدث أحياناً أن يقترب رجل الفكر من رجل السلطة.. أثناء الثورات الكبرى.. كما حدث بين أندريه مالرو وديجول.. وبين جوركي ولينين.. وحسنين هيكل وعبدالناصر.. بشرط أن تبقى مساحة اختلاف بينهما.. حتى يثري كل منهما عمل الآخر.. ولكن هذه المواقف التاريخية مضى أوانها.. وبعد أن كان لينين يحاور ماكسيم جوركي ظهر زدانوف وزير الثقافة الروسي الذي ظل حتى منتصف الخمسينيات.. يصادر أعمال دستويفسكي.. وخلال هذه الفترة ظهر جوزيف مكارثي في أمريكا.. يفتش في عقول المثقفين عن الرأي المخالف لرأيه.. ليصفه بالخيانة عن طريق لجان التحقيق.. ولهذا ظل موضوع الحرية يشغل عقول كبار المثقفين في النظام الغربي.. وفي مقدمتهم جان بول سارتر وبرتراند راسل.. وجورج أورويل الذي تنبأ في روايته "العالم 1984" بظهور الأخ الأكبر الذي يحكم العالم.

إبعاد المثقف الحقيقي

أليس ما يحدث في عالمنا العربي اليوم.. من تدجين للأدباء والمفكرين.. وتفريغ لأجيال جديدة من المثقفين في حضانات أجهزة الإعلام وإدارات الحكومة الثقافية.. هو الذي مهد لإبعاد المثقف الحقيقي من موقعه المؤثر بين الجماهير.. ليحتل مكانه معلق كروي يجمع العرب حوله كما كانت تفعل أم كلثوم.. ألا تجد كلماته وهو يلهب مشاعر الجماهير.. بحركة الكرة بين أقدام اللاعبين.. أضعاف الصدى الذي كانت تحدثه أم كلثوم.. هي تتغنى بقصائد كبار الشعراء.. ومحمد عبدالوهاب وهو يشدو لفلسطين."أخي جاوز الظالمون المدى".. وأحمد شوقي وهو يخاطب دمشق عندما ضربها الجنرال ساراي الفرنسي بالقنابل.. "وللمستعمرين وإن ألانوا.. قلوب كالحجارة لا ترق".

علينا إذن أن ندق ناقوس الخطر.. وندق الباب بالأيدي المضرجة كلما غابت عن الساحة قضايانا المصيرية.. وكلما تحول أديب ملتزم بقضايا الواقع إلى كاتب إعلامي مدجن.يرقد طوال العام ليظهر في مناسبة رسمية.. وقد انتهى من كتابة مسلسل تلفزيوني محدد له سلفاً.. وكلما تحول مفكر قومي إلى صائغ توصيات في لجان المؤتمرات الحكومية.. وكلما أنكر فنان تشكيلي نبع إلهامه وشخوص واقعة.. ليقدم مسوخاً مشوهة لأشكال سيريالية.. واصفاً إياها بالمتعة الجمالية والبصرية.. لأن هذا المسخ هو المطلوب باسم الحداثة في المعارض الرسمية.. بعد أن صار للفن لغة مشتركة في نظام الكوكبية.. وسوف نحتاج إلى أكثر من ناقوس وأكثر من باب ندقه كلما كتب أديب عربي بيده من الشمال إلى اليمين.. بلغة فرنسية أو إنجليزية.. لينضم إلى قافلة الفرانكفونية أو الساكسونية.. أو كتب بلغة عربية وعينه على قضايا مجتمعات غربية وقراء أجانب.. ليترجم أدبه ويرشح لجوائز عالمية.. فيعترف به العرب بعد أن اعترف به الأجانب.رغم أنه لم يقدم مضمونا يضاف إلى رصيدنا ويناقش قضايانا.. وإنما كان همه أن يتلاعب بالأشكال الفنية.. ويستبدل محسنات البديع العربي بمحسنات غربية.

الأفكار هي نفس الأفكار

ورغم ذلك لم نسمع عن مفكر أو أديب يضخ بإبداعه دماء جديدة في شراييننا.. طوال العقود الأخيرة.. فالأسماء التي تدعى للمؤتمرات الثقافية.. هي نفس أسماء المثقفين من حوالي نصف قرن.. والأفكار هي نفس الأفكار التي تدور في أروقة الأكاديميين من الصفوة.. التي انعزلت عن حركة المجتمع.. والصفحات الثقافية في الصحف تحولت إلى سرادق لتأبين العمالقة الراحلين الذين لا يجود الزمان بمثلهم.. لقد شاخت ثقافتنا وترهلت وتجمدت وصارت تقدم إجابات قديمة لأسئلة جديدة.. وتتوالى الأحداث التاريخية والتحديات الحضارية التي تستنهض الهمم للتجديد والابداع.. ولكن طبقة سميكة عازلة تعزل الأجيال الجديدة والدماء الشابة عن التفاعل والتلاقح والإخصاب مع الأحداث والتحديات.

قد تتمثل هذه الطبقة العازلة في موظف حكومي يطارد المبدعين.. الذين يثيرون ـ بسبب نزعتهم إلى الاستقلال ـ شغباً فكريا يرفضون فيه التبعية.. أو خروجا على الحدود التي رسمتها الحكومة الثقافية.. أو تمرداً على الثقافة الاستهلاكية التي تروجها الأجهزة الإعلامية.. وتجعل من معارض الكتب مناسبة لمصادرة بعض الكتب،والترويج لكتب أخرى خفيفة الوزن.. لأن الكتب ذات المحتوى والمراجع غالية الثمن.

هؤلاء الشبان يحملون نفس بذور التمرد التي حملها طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس فأخصبت أرض الإبداع.. ونمت من خلال كل نبتة شجرة متفردة في حديقة الثقافة العربية.

وهذا الموظف الحكومي لا يهمه غير قص الأشرطة.. وإزاحة الستار عن جدار من الرخام.. نقشوا عليه بعض الأسماء.. والإعلان عن أن ليس في الإمكان أحسن مما كان.. والظهور على شاشة التلفزيون وهو يتلقى التهنئة.

كيف نحرر أجيالنا الجديدة.. ونحطم هذه الطبقة العازلة..ليجيب الشباب عن أسئلة العصر.. ويواجه المثقفون تحديات الإبداع بالثقافة المضادة لثقافة الأخ الأكبر?

هذا هو السؤال الذي ينتظر الإجابة ونحن على مشارف قرن جديد.



أحمد هاشم الشريف
يونيو 1998



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى