خيرة جليل - التشكيل باراديم تترابط فيه جذور الفن الإفريقي بالأمريكي بالولايات المتحدة الأمريكية : تجربة التشكيلي حميد قشمار من واشنطن..

أعود إلى ما قلته سابقا بالعديد من مقالاتي النقدية، إن ما تشهده الساحة العربية والإفريقية حاليا خاصة والعالمية عامة من نشاط وحركة ودينامكية بالمجال التشكيلي لا يعبر عن قطيعة مع ما كانت عليه المدارس التشكيلية أو ما وصل إليه التشكيل في الحداثة و ما بعدها، إنما يعبر عن الاحتقان بالساحة الثقافية والاجتماعية الاقتصادية وما يشهده العالم من تغيرات فكرية وفلسفية إلى درجة غابت فيها معاير الجمال والفلسفة المؤطرة للإبداع . كما هذا لا يعني أن عالمنا العربي عامة والإفريقي خاصة لا توجد به تجارب جادة ربطت الحركة الإبداعية بالنشاط الثقافي الجاد المتطلع إلى أحداث تغيير ، وهذا هو ما أسعى إلى الوقوف عليه في مقالاتي النقدية متبعة منهجا تحليليا تركيبيا للخروج بقواعد نقدية تبعدنا على المجاملة وتؤسس للنقد التشكيلي العلمي الجاد. كما أسعى إلى استعراض مجموعة تجارب تشكيلية مغربية ومغاربية إفريقية عبر سلسلة مقالات نشرتها، هي تجارب متنوعة في مساراتها الفنية وأساليبها التعبيرية و إتجاهاتها الفكرية، وأنا على وعي تام و مدركة لحقيقة أنها لا تمثل التجارب الوحيدة التي تحظى بموقع الأولوية و الأهمية بل هدفي هو تقديم نماذج تصويرية و نحتية و غرافيكية بهدف دراستها و استعراضها في محاولة للتعريف بمبدعين لم يأخذوا حقهم من طرف الإعلام الوطني أو الدولي للتعريف بفنهم وجودته وعمقه الفكري، بل يشكلون أطيافا مختلفة من النسيج التشكيلي العربي الإفريقي المعاصر والآخذ بالنضوج و الارتقاء إلى جانب التجارب العالمية. و من حرصي على الوقوف إلى جانب الإنتاج الإبداعي الذي عمق صلة الإنسان بالحياة باعتباره حلقة مهمة من حلقات الثقافة و ركيزة قوية من ركائزها بل قاطرة للتنمية والتطور والانفتاح والتعايش في سلام، سنتناول اليوم تجربة تشكيلية تميزت بعمقها وبعد دلالتها ، لأنها تربط بين نذرة العمل الجاد والجودة فيه.
تجربة اليوم هي أعمال التشكيلي حميد قشمار ابن منطقة الراشدية بالجنوب الشرقي للمغرب ، فمن هو هذا الفنان؟ وما هي المدرسة التي اختار التعبير في إطارها ؟ وكيف ينظر إلى الإبداع بصفة عامة والتشكيل بصفة خاصة؟ وكيف تعامل مع المنشأ التشكيلي ككل؟
التشكيلي قشمار من مواليد منطقة الراشدية التي عُرفت عبر تاريخ المغرب بانفتاحها على ثقافة الصحراء رغم لسانها الأمازيغي، شكلت ملتقى الحضارات مع مرور القوافل التجارية منها منذ أقدم العصور وحكمتها لقرون الأعراف القبلية رغم خضوعها للسلطة الدول الحاكمة، مما جعل الذاكرة الجماعية محرك أساسي لكل الحياة بقصور المنطقة، رجوعنا للزمن القديم ليس عبثيا وإنما لأنه من مكنزمات العملية الإبداعية لحميد قشمار كتشكيلي.
هذا التشكيلي الذي بعد اتقانه للمدرسة الواقعية، فضل الإبحار بالتجريدية الهندسية تارة والغنائية تارة أخرى و الحركية في غالب الأحيان. تعامله مع المنشأ الفني شبيه بالتعامل مع حلقات زمانية مترابطة ومتداخلة فيما بينها، بعضها استمرار لبعض دون أن تلغي بداية واحدة نهاية السابقة.
في التحليل والتفسيرلأعماله الفنية نلاحظ أنها تشكل تركيبة رمزية تحكي قصص تاريخية إجتماعية...جماعية في نوستالجية كبيرة وحنين لجذوره المغربية الأمازيغية خاصة والصحراوية الإفريقية عامة، والتي في ارتباطه بها تشعره بالفخر يلخصه في لوحات مثيرة للاهتمام بلغة بصرية شاعرية انسيابية متمردة تعكس غنى مخيلة المبدع، كما تحمل المتأمل إلى عوالمه الفكرية الخفية لتخلق انسجاما بصريا حيك بحبكة ذهنية رائدة في مجال البحث التشكيلي الرمزي واللوني: الشكل والدلالة (symbole et la thématique) وهذه الانسيابية في التنزيل الرمزي يشكل تنزيل ثقافي تشكيلي يجعل من الفنان سيد لوحت ومتمكنا من نسيجه التشكيلي على اللوحة التي تحس أنها تعج بالألوان والأشكال والانحناءات والعقد التي قد تحتاج مدة زمنية طويلة ونفس طويل ودراية فنية وحبكة تقنية تحمل المتأمل في سفر تأملي عميق . وفي معظم الأحيان
يستغني على الريشة ليعمل بيده عن طريق تقنية العقد والنسيج والقطع الخشبية المرتبة بحبكة مباشرة ليعبر على أن الذات المبدعة هي المتحكمة في زمام الأمور. فحين تقف أمام لوحاته تتمتع بها وتتمتع هي بسلبك مفهوم الزمان والمكان , فتستقطبك برموزها من خطوط عريضة وضيقة أفقية وعمودية ومائلة تؤثتها رموزمن عقد نسيجية وأعين وقصاصات صحفية رقيقة تنم عن الذاكرة المشتركة....بألوان إفريقية أمازيغية صحراوية ....فهو يبدع في إطار إنشاء فني تحركه ثلاث خلفيات وأبعاد تتحكم في مكنزماته الجماليةوتشكل جوهر عمله الإبداعي. البعد الأول هو انبهاره الكبير بكل ما هو قديم ويربطه بالماضي ويشكل جذور إلهامه وخزان ومستودع ذاكرته التي يمتح منها في اللاواعي. البعد والخلفية الثانية هي هدفه خلق فن يتجاوب مع زمانه ومكانه خلال تواجده بموكنه الأصلي وبالموظن المستقبل وهذه معادلة صعبة استطاع ترجمتها إلى أعمال ذات أبعاد فكرية فنية جمالية ، مع الأخذ في الاعتبار انتقالاته المستمرة ومعارفه المتطورة مع تطور إمكانيات الذات المبدعةفي الزمان والمكان ، مع استكشاف الاتجاهات الثقافية المختلفة بطريقة تسمح له بالتواصل مع بيئات جديدة وإعادة ابتكار نفسا ثقافيا جديدا يمنحه إمكانية الإنطماج لالكلي دون أن يفقد هويته المغربية الأفريقية باستمرار. الخلفية أو البعد الثال والأخير هو الإثارة حول كيفية النظر إلى عمله مستقبلا وكيفية إنشاء فن يتجاوز الحدود الثقافية والزمنية والجغرافية. في هذه العملية ، يتحاور ويتفاوض مع المواد الخاصة به التي أعتبرها بوابات صوفية يفتحها للتأمل والمساءلة والتفكير والتدبر. وفي انسجام تام تتم متابعة ةهذا الرهن الفكري للسماح لكل من نفسه والمواد بالتعبير عن تطلعاته واشكاليات عصره ورهانات المستقبل. وقد حسم بامتياز أن في معظم الأحيان يكون العقل الباطن والإبداع الحدسي هو الذي يدير العملية الإبداعية بمجاله التشكيلية ، في انسجام مع الخصائص الفيزيائية للمادة. في أغلب ابداعه يطوع المواد بين يديه من الغراء ، والصبغ ، بعملية الفتل والفرك ، والربط ، والطلاء ، والنسيج ، والنحت ، والغرز ، والخدش. بكل أغماله ملتزم كليا بالأصباغ الطبيعية ،لأنه يعتبر عملية إعدادها جزء من مقاربته الكيميائية للإبداع في إطار فلسفة الجمال بأعين معاصرة تربط المغرب خاصة وإفريقيا كجزء من مكونات النسيج البشري لأمريكا بتعدد أعراقها وأبعادها التاريخية الفكرية . فالمتأنل لأعماله يستطيع أن يدرك أن المبدع يستمتع بجعل لوح الألوان الخاص به سفر في الزمان والمكان ودون إلغاء كل من الجذور الأصلية لأرضه الأم البيولوجية في انتقاله نحو الأم الحاضنة . في صيرورته التشكيلية تظهر الذكريات والرؤى بشكل عفوي ، في تلك اللحظة يسمح لوعيه بمقاطعة التواطؤ والبدء في التعامل مع الوسائط الخاصة به في نهج مسبق يربط بين ما هو على وشك أن يتم إنشاؤه والتراكم الحالي للأفكار والذكريات. يعمد إلى التبسيط من أجل الكشف عن المعنى ، وأحيانًاأخرى يبالغ في التأكيد على مشاعره وتحس كأنك تشم رائحة الحناء بكفي والدته من خلال الألوان والنسيج والعقد...... مفرداته المرئية من اتجاهات ومواد وتقنيات وخامات متنوعة تستحضر الاستعارات والحالات المزاجية والتعبيرات من المكان الذي نشأت فيه ، وما عاشه خلال دراسته وأسفار. وعلى اعكس ما قدي يبدو للبعض أن أعماله ذات مرجعية ذاتية شخصية، فهي مستوحاة بالكامل من ثقافته الأمازيغية وفلسفتها في الحياة والبقاء وتجسيدها في "الأشياء المركبة النسيجية " مثل النسيج ونحت الخشب وزخرفة الجسم المستمدة من الذاكرة الجماعية لقبيلته ليمنحها نفسا جديدا واستمرارية كونية في استعارات عالمية لها. فالمواد مثل المنسوجات والخشب والورق والتقنيات التي أستخدمها لبناء أعماله الفنية هي أنشطة أصبحت فيها العملية واحدة مع رسالة نوع من المراجع السيرة الذاتية المتشابكة مع استعارات لنظام عالمي مثل الروابط الصوفية بالماضي والحاضر والمستقبل. "
يجب إن أعمله دعوة صريحة لاستعمال العقل للغوص بأعماله فنستخلص جمالية الأشياء من خلال تأملها وملاحظتها وترجمة ألوانها واشكالها ورموزها غالنية بالدلالات الفنية والرمزية والروحية في حد ذاتها. فهي ليست في متناول الكل او من ليس له ثقافة فنية، فهي السهل الممتنع بالدرجة الأولى مما يفرض علينا استدعاء معارفنا الفكرية الفلسفية وتركيز عقولنا لنغوص إلى أعماق العمل وهذا ما دعا إليه أرسطو في نظريته لاستعمال العقل. فحين يقف المتأمل لأعماله، فهو يقف أمام ذائقة فنية واعية بواقعها العلائقي والفكري والإنساني وترجمت انفعالاتها العاطفية والفكرية إلى إبداع فني يحقق نوعا من الشعور بالارتياح والإشباع الفني والفضول الإبداعي كأعلى درجات الإدراك. ومن هنا ندرك من الملفوظ النصي البصري أنه يتطابق مع المفهوم الهيغلي : "إن ما يخلق فعل الابتهاج والراحة للإنسان هو محاكاة الطبيعة للإنسان" وبالتالي فإنه يشعر بفرحة عارمة عندما ينتج ما مطابقته بين الفلسفة وتاريخها حيث جعل من هذا الأخير موضوعا للفلسفة. في أعماله الأخيرة التجريدية الأخيرة نلاحظ نوعا من الانفلات من قبضة هيغل ليبدع إبداعا تجريديا يعج بالحركة والرموز والدلالات ، فينهل لإعماله من الفلسفة المعاصرة والتي هي برمتها حسب فوكو ما هي إلا محاولة للانفلات من قبضة هيغل في المنطق والتاريخ و ما جعله يتوج بآخر نسق في تاريخ الفلسفة. وهذا التمييز لمرحلته الأولى عن المرحلة الثانية في حد ذاته ماهو إلا نتيجة لقراءته للمذاهب والمدارس الفلسفية التي صنفها الباحثون والنقاد في محاضراتهم في تاريخ الفلسفة وعلاقتها بمفهوم الجمال . عموما أعماله هي سفر بين العديد من الفضاءات جعلته يبني قنطرة ثقافية بين العالم الأصلي الذي ينتمي إليه والعالم المستقبل له بشساعته وتعدد روافده.....أمريكا لم تصبح أمامه إلا مغربا كبيرا بتعدد روافده الحضارية والفكرية والفنية كقاسم مشترك بين الوطنين....وبذلك فهو ينظر في العديد من أعماله أن النهايات ما هي إلا بدايات ناجحة موجهة ومحكمة وأحيانا أخرى إمتدادا لبعضهما البعض فمغادرته للمغر هي بداية إلتحاقه بأمريكا ونهاية هذا الإلتحقاق يشكل بداية التفكير في العودة للمغرب في استمرارية فنية فكرية حياتية....فهو لا يؤمن بالقطيعة بين الأشياء مطلقا .إن أعماله تستدعي ذات فنية واعية بالعملية الإبداعية كمتلقي...

خيرة جليل



المراجع:
محمد مومر:من ثقافة الحركة الوطنية الى ثقافة الحركة المواطنة * الثلاثاء 6 دجنبر 2016 في التحوَل الثقافي
كتاب الفرد والمجتمع تأليف : ميشال فوكو...ترجمة حسين موسى
" جون ديوى": الفن خبرة - ترجمة زكريا إبراهيم - مراجعة زكى نجيب محمود - ( دار النهضة العربية - بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين) - (القاهرة - بيروت ) سبتمبر 1963.
- انظر صليبا، جميل: المعجم الفلسفي - جـ1 - دار الكتاب اللبناني - الطبعة الأولى - بيروت - 1971.
10- "هريرت ريد" معنى الفن - ترجمة سامي خشبة - مراجعة مصطفى حبيب - الهيئة - المصرية العامة للكتاب القاهرة - 1998 -

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى