عبدالرحيم التدلاوي - جمالية الخيبة في مجموعه "مدينة في شهرها التاسع" للشاعر والقاص محمد أنوار محمد

تنبيه واجب:
هذه القراءة أنجزت منذ فترة طويلة، وكانت متفرقة، وبعض فقراتها القليلة نسي مرجعها.




***

دواعي قراءة إضمامة (مدينة في شهرها التاسع) :
من أهم مميزات النص قدرته الخارقة على إغراء القارئ بممارسة فعل القراءة والاستجابة لسحرها. ولعل هذا الضغط الذي يمارسه النص في اتجاه القارئ يستدعيه نقصه المتمثل في احتياجه الدائم إلى استكمال ذاته بفعل القراءة الذي يعتبر شرطا فعالا وضروريا لتحقيق النص باعتباره كذلك؛ فهو اوجد لكي يقرأ وهنا تكمن علته وصيغة وجوده. فالنص إذن مشروط بقراءته؛ فلا تأثير ولا شهرة بل لا وجود ولا تحقق من دون فعل القراءة اللاحق به. ومن ثم فلا دلالة ولا معنى له من دونه إذ النص ليس في وسعه أن يكون له معنى إلا عندما يكون قد قرئ فبواسطة القراءة وحدها يستطيع النص أن يحرز دلالته الكاملة. إن النص والقراءة أمران متلازمان ؛ فشرط تحقق الأول وجود الثاني. إنه تلازم وجود وشرط حياة.

المجموعة:
صدرت للمبدع المغربي محمد أنوار محمد عن دار الأمان بالرباط، مجموعة قصصية بعنوان: "مدينة في الشهر التاسع"، تقع هذه الإضمامة في 79 صفحة من الحجم المتوسط. وتضم المجموعة القصصية 46 قصة قصيرة وقصيرة جدا منها: "بيضة الطائر زو"، "مدينة في الشهر التاسع"، "حكاية المرأة"، "ثقافة"، "صفارة"، "حين انتبه إلى جثثه التي لا تحصى"، "فراشة"، "رؤية في رؤيا"، "فوق حلمة اليسار"، "حب وحادثتا قتل"، " تردد"، "حقد حالم"، "قصة حورية"، "كأنها ريشة دجاجة"، "وردة حمراء"..
قضية الخوف والحرية والخيبة في المجموعة:
والمجموعة تطرح قضية الخوف في علاقتها بالحرية.
فإذا كان مدار الحرية هو إصلاح الخلق، فإن غيابها يؤدي إلى إفسادهم؛ وهو ما يهدد المجتمع بالتلاشي، وبالتالي انقراض الأمة وهلاكها واضمحلالها، حيث يبلغ أفرادها بفعل القمع مبلغ الأنعام.
ولعل القضية الكبرى، أو العنصر الكلي والمهين الذي تنتظم حوله الإضمامة بكل تفرعاتها الصغرى والأصغر حجما، هو إثارة موضوعة هذه الخيبة؛ فهي الأطروحة البارزة، والعنصر اللاحم لبنية أجزاء المجموعة وعناصرها المكونة. فهي المنطلق والمنتهى، تأتي النصوص كمحاولة عرض لأجوبة محتملة لها. ولذا نجد المجموعة وكأنها تنحو منحى بحث جامعي ، يعتمد على أطروحة أو قضية عامة تندرج ضمن مجموعة من القضايا الفرعية وتكون بمثابة مسالك إضاءة لها. فالقضية المحورية، هنا، هي مسألة الخيبة، والمعاني هي مجموع النصوص الحافة والتي تسعى إلى القبض على عناصر أجوبة محتملة تكون قادرة على الإقناع، أو على الأقل إثارة مزيد من الأسئلة.
ولعل ما يدعم القول السابق كون الإضمامة تحمل عنوانا عاما وخاصا في الوقت نفسه؛ فهو عنوان كلي لجميع النص ويشكل مظلتها؛ وهو عنوان خاص بالقصة التي تعالج قضية الخيبة بوضعها فوق بساط البحث والتقصي، ورافعة إياها إلى مقام العنصر الكلي، أو الإطار العام للعمل، مسلطة عليها أضواء تنيرها وتسعى إلى إضاءتها وجلب اهتمام القارئ بها.

العنوان:
هو عتبة مهمة ومدخل أساسي لمقاربة المجموعة، ويمكن عده شرك عيون المتلقي يستحثه على الانتقال من العالم الواقعي إلى الخيالي أو الافتراضي. وقد سعى إلى تحقيق هذا الانتقال على استراتيجية ثلاثية الأبعاد؛ وهي:
_ خط أحمر بارز يكاد يحتل أفقيا الصفحة بأكملها.
_الاعتماد على التنكير وذلك بغية حث المتلقي على معرفة المدينة المتحدث عنها، وسيشفي غليله حين يقرأ العمل، ويدرك أنها المدينة العربية الرازحة تحت نير التسلط، والحاملة ببشارة ولادة جديدة تقطع مع حياة القمع، لكنها بشائر سرعان ما تخيب.

_ اعتماد البناء الاستعاري.
هذا فضلا عن الجمع بين المكان والزمان في تركيبة منسجمة تسمح للمتلقي بعامة من توقع حدوث امر الولادة باعتماده على تجاربه الحياتية المتكئة على مؤشرات دالة من قبيل الشهر التاسع واللون الأحمر. لكن ربط العلامتين بالمدينة سيستوقف هذا المتلقي للحظات بغية معرفة نوع هذا المولود العجيب الذي ستضعه، وأو الذي لن تضعه؛ فالاحتمالان قائمان، بيد أن موضوعة الخيبة ستغل جانب الجهاض ليتولد سؤال السبب؛ وهو رهان النص بخاصة، والمجموعة بعامة.
وأنت تفتح المجموعة وتقوم بقراءتها ستدرك أن المخاطب وهو يبث خطابه على وعي بالقرائن المتداخلة في الفعل اللغوي، والحاكمة لتلقيه وفهمه، بل يكون مستحضرا لها بقوة، ومعتمدا عليها في توصيل ما أراد إلى مخاطبه؛ مما يجعل هذه القرائن الحافة بالخطاب جزء منه حين يصدره صاحبه وعند وصوله إلى متلقيه.

أليات كتابة النصوص:
وضع نص "مدينة في شهرها التاسع" ضمن إطار أعم واشمل؛ هو إطار البحث عن أسباب الخيبة التي تتسم بكونها تشترك في خصائص دلالية كبرى تتميز بها على المستوى الدلالي. وتعد الخيبة المحور الذي تدور حوله كل نصوص المجموعة، وأي معنى آخر خارجه يعود في المحصلة إليه.
ما يتخلل هاته المجموعة أو يلحق بها أو يسبقها ما هو إلا معان جزئية مقوية وداعمة للمعاني الكبرى التي تؤطر العمل ككل.
والمعاني المتفرعة أو الحافة أو المتخللة للقضية الكبرى، هي، على الأرجح، ثلاثة:
_سيادة الفكر الخرافي.
_قضية العلم.
_ قضية المرأة.
وهذه المعاني المتفرعة ترد بوجوه متنوعة تبعا لتنوع الوقائع والادعاءات؛ فقضية الفكر الخرافي تتمظهر بأشكال مختلفة تبعا لتنوع السياقات التي تستدعيها كما قضية المرأة.
وعلى الرغم من تعدد هذه المعاني ظاهريا فإنها تؤول في نهاية التحليل إلى معنى واحد هو الأصل المولد لها والذي يحتويها؛ إنه الخيبة، فمنه تفرعت، ومن رحمه تولدت.
تستحضر أغلبية النصوص معنى من المعاني السالفة، يغلب عليها ويشكل بالتالي مهيمنتها، حيث نجد أن كل قصة قد استفردت بموضوعة خاصة بها.
هكذا نجد المجموعة عن موضوعات متنوعة تكشف عنها صراحة عناوين بعض القصص مثل’ حكاية المرأة 1’، ‘حكاية المرأة 2’، ‘ثقافة’، ‘في مدشر الشعراء’، ‘الجزيرة’، وهي قصص يحاول فيها الكاتب أن يقدّم تصوراته حول موقف بعض فئات المجتمع من وضع المرأة (المرأة هي الوردة التي لا معنى للوجود من دونها)،
وحول دور المثقفين والشعراء على الخصوص في الدفاع عن القيم الإنسانية الأصيلة، مقدّماً النصيحة لهؤلاء : ‘فيما حاجتكم إلى الظلال؟ فيما حاجتكم إلى الأشجار؟ منكم تحتاج الشمس إلى ظلال لتحتمي من لفحاتكم. تعلّموا أن تكونوا شعراء’.
أما قصة ‘الجزيرة’، وهو اسم شخصية فريدة من نوعها، يعرف الجميع ويعرفه الجميع ولا يجاريه أحد في معرفة كل صغيرة وكبيرة من أخبار الحي والمدينة والعالم، إلا أنه لا يعلم )أو يتظاهر أنه لا يعلم( ما يقع في بيته، فهي قصة عن خطورة انفصام وازدواجية’من يدّعي احتكار الخبر، سواء كان فرداً أو ‘مؤسسة’، في عصر المعلومات المتسارعة والمكشوفة والمتدفّقة من كل حدب وصوب.
فالنصوص السالفة تعالج موضوع المرأة ودور المثقف، وانفصام الشخصية، فيما يعالج نص "بيضة الطائر زو"قضية الفكر الخرافي؛ تحدثنا القصة عن شخص يجد ما يشبه بيضة في محجر قريب، ويعرضها على سكان القرية الذين يجهلون اسم الطائر الذي وضعها. فيصادف أن يمرّ عابر سبيل ليحسم الجدل في طبيعتها، لكنه لا يجرؤ على مصارحة الجميع بالحقيقة، وهي أن هذه البيضة ليست في الواقع سوى حجر بيضاويّ مرقّط. لهذا سيعلن بهدوء: ‘أيّها الناس، لقد عرفتها، إنها بيضة الطائر ‘زو’، ليبقى الجدل مستمراً بين سكان القرية والسؤال معلّقاً حتى اليوم حول علّة البيضة، وماهية الطائر ‘زو’. إنه سؤال المعرفة الأبدي الذي يتحدّى سؤال الوجود ذاته، لأن الحقيقة تكمن غالباً في ما وراء الظّاهر، والظّاهر لا يكون غالباً إلاّ مصدراً للوهم.
ونص "مدينة في شهرها التاسع" مناط التمثيل، والتحليل، تعد مدخل المجموعة، ومبتدأ السؤال، إذ بني سقفها الفني والجمالي على تخييب أفق انتظار القارئ انطلاقا من العنوان المشكل من استعارة مكنية تخلق تماهيا بين المدينة والمرأة في موضوع الحمل بخاصة. غير أن ما سيتمخض عنه هذا الحمل سيكون مخيبا للآمال، ومؤديا إلى تجرع المرارة لكونه سيفضي إلى ولادة اللامعنى؛ وهو ما سيطغى على النص ويجعله مداره. فالمدينة لن تلد المنتظر، ولن يتحقق التغيير، وبناء عليه، فإن الإحباط المتولد عنه سيصير سؤالا مؤرقا لابد من البحث عن أجوبة مقنعة تفسره وتبين أسبابه المعقولة. ومن هنا ذلك البحث متعدد الاتجاهات، حيث سيقوم كل نص على حدة بطرح أجوبة ممكنة له.
القصة، كما قال نجيب مبارك في جريدة القدس والمساء، في صميم الراهن السياسيّ بامتياز. تهجس بما يعتمل وما قد يحصل في أيّ وقت وفي أيّ مدينة من مدننا العربية. وهي صورة رمزية لما يكون عليه حال هذه المدينة إذا استعصى المخاض ونفذ صبر الذين ينتظرون المولود الجديد. والكاتب هنا لا يتأخّر كثيراً في إعلان خيبة الأمل، إذ نقرأ منذ السطور الأولى: ‘توقّعتُ أن يكون الجنين فجراً جديداً وجميلاً’. لكن مع توالي السرد وتطوّر الحبكة نكتشف أن هذا الحمل كان كاذباً، ومجرد خدعة من المدينة نفسها، لأنها ‘بعد كل أزمة تجتهد في تجميل صورتها حتى تبدو ممكنة، فيعود الجميع إلى حياته اليومية، مأخوذا بنظرتها المتفائلة’. هي إذن مدينة وإن بدت في شهرها التّاسع لا تحمل في أحشائها غير الوهم، ولا تعد بأي تحوّل أو تغيير، ولن تلد أيّ شيء في الواقع: لا فكرة، ولا قيمة، ولا أيّ قفزة إلى الأمام. وهذا نتيجة لخداع أهلها لأنفسهم بسبب الخوف. كما أنّها، في نهاية القصة، ‘مدينة خوف كباقي المدن في ‘الهنا’، ولا يمكن للحرية أن تتكون في غابة خوف’.
جعلت المجموعة مدار اهتمامها قضية واحدة ألا وهي قضية الخيبة، فهي المحور لكونها قضية غدت مؤرقة ومثيرة لشهوة السؤال والفهم، وبخاصة بعد الثورات العربية المجهضة.
بسبب ذلك فقد جاءت المجموعة كلها خادمة لهذا المعنى/القضية على الرغم مما قد يظهر عليها من اختلاف في المعاني وتباين في الدلالات وانفصام وعدم ترابط فيما بين المواضيع المشار إليها في العمل
والحق أن هناك انسجاما داخليا قد تبدو للوهلة الأولى غائبا وكان المجموعة لا يجمع بين نصوصها سوى دفتي الغلاف؛ وهو أمر مستبعد فهناك وحدة لاحمة بينها القصيرة والقصيرة جدا.. ولان الحديث عن الانسجام ليس شيئا آخر سوى تحديد علاقة داخلية أو بالأحرى علاقات. فالبحث سيقود إلى اكتشاف علاقة داخلية تربط نصوص المجموعة وتلحم بعضها ببعض؛ إنها علاقة ضمنية لا تتكشف وتنكشف إلا ببذل جهد كبير وإعمال النظر للقبض عليها؛ وبلوغها سيؤكد بما لا يدع مجالا لأي شك تماسكها ووحدتها. فقد تظهر النصوص من حيث المعنى الظاهري متباينة ومختلفة وكأنها جزر مستقلة بذاتها وتدور حول نفسها بيد أن هذا الظاهر والتصور سيتحول انسجاما حين ندرك أن النصوص جميعها وفي أحسن الأحوال معظمها ما هي إلا محاولة الإجابة عن السؤال المحوري:ما سبب الخيبة مدار البحث وبؤرة الاهتمام. فكأن مقال الحال هو: لا يمكن أن تكون هناك خيبة مدوية إلا لوجود أسباب عميقة تقف وراءها وتنتجها. إنها ليست وليدة لحظتها بل هي ثمرة سيرورة وتراكم. والمعنى أو الخيط الناظم سيكون المدخل المهم لولوج النصوص تقليبا وبحثا واستخلاصا.

المجمل والمفصل: يجوز ان يسمى العام مجملا والخاص مفسرا؛ على أن العام جملة إذ ليس لفظه مقصورا على شيء مخصوص ومعين؛ والخاص مفسر؛ اي فيه بيان ما قصد بتلك الجملة التي هي العموم... وليس المجمل هنا ما لم تتضح دلالته ولا المبهم الذي لا يعقل معناه؛ ولا يدرك مقصود اللافظ ومبتغاه... ولكن المقصود كون كل العناصر المفصلة في غيره وتحضر فيه بشكل مكثف. وتأتي واضحة وبينة. غير أنها غير مفصلة ومستقلة... بمعنى آخر؛ فالمجمل هنا هو البؤرة التي اجتمعت فيها كل الخيوط وتعالقت بشكل يقود إلى المعنى المقصود والدلالة المخصوصة. وفي حين ستقدم باقي النصوص بفعل هاته الشبكة بإفراد كل خيط من تلك الخيوط بنص مستقل. ينهض كدليل أو جواب عن السؤال المركزي والفكرة المحورية ألا وهي: لم هاته الخيبة وما أيبابها؟ وبذلك تأتي إلى دائرة النور لتوضحها وتبينها. والنص المجمل رغم استحضاره كل العناصر المفصلة في غيره بشكل مجمل إلا أنه رغم ذلك مستقل بنفسه في معرفة ما أريد به. وغير مفتقر لغيره إلا من حيث كونه سؤالا كبيرا يتطلب الإحاطة به من جوانب متعددة.

تقنيات الكتابة:
بنى الكاتب معمار نصه "رائحة" ص11 على حدث بسيط، يتمثل، أساسا، في عملية قتل ارتكبها حارس العمارة في حق امرأة "ذات ملامح أوربية". فالمدماك واقعة حقيقية تقع كثيرا، لكن البناء جاء بطوابق من خيال. ومن أهم العناصر التي اتكأ عليها النص، نجد عنصر التشويق الذي يدفع بالقارئ إلى المتابعة اللاهثة بغاية الوصول إلى الفاعل الحقيقي. لقد استمدت القصة بعدها الفني من تقنية الرواية البوليسية والتي أساسها البحث والنقيب بناء على طرح مجموعة من الفرضيات، يعاد تشكيلها وفق ما استجد من أدلة.
وليس بدعا أن تكون النهاية هي بداية كتابة النص ؛ فالواقعة سداه، والخيال لحمته.
منذ البداية يدخلنا السارد في أتون نصه، ويجعلنا غائصين أو متورطين في أحداثه، أحداث ستتوالى لتبنى فرضيات وتهدم لتبنى من جديد.
يتحدث السارد في الفقرة الأولى، وخلفه المتلقي، عن استبعاده لمجموعة من الشخصيات الممكن قيامها بفعل القتل، لكنه، في المقابل، يزرع فينا بذرة الشك، حين يخبرنا أن مسرح الجريمة لم يشهد أي أثر دال على عنف ارتكب في حق الضحية.
من هنا ينبع سؤال في ذهن المتلقي عمن ارتكب الجريمة؟ ويتعمد السارد على جعل هذه الحيرة مستمرة حتى النهاية؛ فهي الخيط الذي به يمسك السارد المتلقي، كون التشويق آلية مهمة في الكتابة البوليسية بخاصة والسردية بعامة
أما قصة "معرفة" ص53، فتبني منطقها الخاص المنفلت من صرامة قبضة واقعنا، باعتمادها شخصيتين متباعدتي الزمان والمكان، ومختلفتي الوضع، فكل واحدة تنتمي لمجال غير مجال الأخرى، تعمل يد الشاعر على الجمع بينهما لتغذي فرحة تتوج برقصة بديعة تكون ضربة سردية محققة للمتعة؛ فهي تنتهي بلقطة بديعة تتمثل في ذلك الانصهار البهي بين الشاعر المتعطش للحب، والفتاة القادمة من زمان سحيق كقصيدة شعر فريدة مهيأة للملاقاة: وكانت شفتاه تحكيان القصة الأخيرة". لعل القصة تسعى إلى تأسيس منطق خاص بها يعتمد على فكرة أن الحكاية تصلح ما أفسده التاريخ بيننا.

التناص:
نجد هذه التقنية موظفة في قصة ‘إني رأيتُ أحد عشر كوكباً’، وهو توظيف ذكيّ وجديد للتّناص مع قصة يوسف المعروفة في القرآن، تحكي في أربعة مشاهد عن أستاذ اسمه يوسف يتعرض للاعتقال والمساءلة من طرف جهاز الأمن القيمي في القرية بسبب نص أدبي امتحن فيه تلاميذ القسم، وهو نص يروي قصة طفل اسمه يوسف أيضاً يدّعي أنه رأى أحد عشر كوكباً كما هو مذكور بالحرف في المتن الدّيني. وقد نجح الكاتب إلى حد بعيد في حواره مع هذا الأخير، خصوصاً باشتغاله على دلالة ‘الذئب’ الذي سيتحول إلى ذئاب في القصة، كناية عن ذوي السلطة من أهل القرية.
من خلال النص يتبين أن المجموعة تكتب نصوصها وفق منطقها الخاص لا منطق التاريخ الذي يولد الوجع، ويقتل روح الإنسان، ويدمر ما بناه من جمال.
فالنصوص تسير وفق هواها، تنسج خيوطها التي تصنع الدهشة وتمنح الجمال، وتولد الأسئلة. تبتعد عن صرامة التاريخ، وسطوة الواقع، وتسمح لنفسها بإعادة بنائهما وفق ترتيب محكم، يسمح بالفهم واكتساب المعرفة، والشعور باللذة والمتعة.
إن النصوص بمثابة ممحاة، تمسح وتعيد الكتابة، وكأنها طرس لا يمكن أن يتأسس من فراغ وعلى فراغ بل إنها تتكئ على الواقعي لتقول منطقها الخاص.
.... في النهاية فهذه القراءة للمجموعة القيمة والمثيرة لشهوة السؤال والقبض على معانيها المحتملة لا تسمو إلى مستوى النظر الكلي والعام بل هي مجرد مقاربة خاصة على سبيل الإجمال ولا تدعي الإحاطة ولا بتقديم المعاني الحقيقية أو الرهان الأساس والمحوري للعمل. إنها قراءة تدرك نسبيتها وتدرك أن قراءات أخر قد تختلف معها؛ تؤكدها أو تنفيها أو تنسفها من أساسها.
إن القراءة ليست دائما يقينا مريحا ولا اطمئنانا تاما؛ ولكنها ظن فحسب؛ غير أن هذا الظن ليس ناتجا عن مجرد تخمين يدفعه الهوى ويغري به؛ بل هو بالتأكيد خلاصة عملية استدلال يقوم بها القارئ متسلحا بكل ما تحتاجه هاته العملية من قدرات ومعارف وشرائط وأدلة وإلا كان ظنا باطلا فحسب؛ وليس ظنا واجبا فرضه الشاهد والدليل إذ لابد في كل قول يجزم به أو يحمل من شاهد يشهد لأصله وإلا كان باطلا.


**

نجيب مبارك، مدينة الخوف في شهرها التاسع، مقال منشور بجريدتي القدس العربي، والمساء المغربية.


1608459162413.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى