محمد الحجيري - في أحوال المثقّفين وطقوسهم.. إغلاق مصطبة الضيعة في شارع الحمرا

لم يكن مقهى «كافيه دو باري» في شارع الحمرا (بيروت) بحاجة إلى إعلان موته وانضمامه الى لائحة المحال التي أصبحت من ضمن أرشيف منطقة رأس بيروت وذاكرته الحافلة بأحداث وشجون يومية، أبطالها نجوم وشعراء وكتاب من هذا الزمان، وهي أشبه بمرآة لسيرة لبنان وتداعياته الكثيرة. هذا المقهى أعلن موته منذ زمن!

«كافي دو باري» الذي وُضعت على بابه عبارة " ملغى " باللغة الإنكليزية منذ بداية العام الجديد، وإن " صمد " لسنوات قليلة بعد إغلاق مقهى " المودكا " ثم " الويمبي "، كان صموده وهمياً، لم يكن ناجماً عن وفرة رواده أو ارتفاع مردوده المالي والاقتصادي بل عن أمر آخر ظل غامضاً وملتبساً منذ ما يقارب العشرين عاماً بالنسبة الى الشعراء كما يقول الشاعر شوقي بزيع الذي واظب على الجلوس فيه مع شعراء آخرين، من بينهم حسن عبد الله وعصام العبد الله وجودت فخر الدين وطارق ناصر الدين، وكتّاب من بينهم الروائية علوية صبح.

كان العابر في شارع الحمرا يلاحظ جلوس «شلّة» المثقفين نفسها يومياً في المكان ذاته وعلى الكراسي ذاتها، ويقول في قرارة ذاته إنهم لا يغادرون المكان البته، كأنه شرفة بيتهم أو كأنهم ضمّنوه واستحلوا زاويته وعلى كل زائر أن يأخذ الأذن بالدخول من نظراتهم. بل ربما يسأل الزائر هؤلاء الشعراء، «هل هي حلقة ذكر يومية؟».

كثيرون يقولون إن رواد «كافيه دو باري» جعلوا من الحمرا بديلاً مدينياً عن ضيعتهم، ومن المقهى ساحتهم. وبزيع نفسه، عدا عن تسميته المقهى عموماً " شرفة المدينة "، أطلق على الـ" كافيه دي باري " لقب " مصطبة الضيعة ". وبدا لافتاً أن معظم هؤلاء المثقفين تجمعه ثقافة أشلاء الحنين لبيروت القديمة أو للبلدات الجنوبية. فعلوية صبح تستنبط ألفاظ الجنوب " الغريبة " وحسن العبد الله الذي كان يمضي ساعات النهار في الـ" كافيه دو باري " والليل في مقهى " سيتي كافيه " لا يزال على علاقة وطيدة ببلدته الخيام، وحين استقر في المدينة كتب عن نبع " الدردارة " ديواناً شعرياً يُعتبر الأبرز في حياته. أما بزيع الذي يمضي أيامه في شوارع بيروت فلديه روح الاشتياق الى بلدته الجنوبية وهو يتحدث كثيراً عن حبه لنبتة الدفلى التي تجمع بين أحمر الشفاه ودم الشهدء كما يقول، وحين حاول أن يأتي بها الى شرفة منزله في بيروت لاحظ أنها أبت النموّ على النحو اللازم.

أغلق الـ{كافيه دو باري»، وأفتتحت في المقابل عشرات المقاهي في شارع الحمراء، خصوصاً في السنوات الأخيرة. لكن ما يميّز هذا المقهى أنه في الواجهة، يحمل ذكريات زمن غابر، يقول بزيع، أحد أبرز الذين رثوه: «كان الـ " كافي دو باري " الممر الإجباري اليومي الذي يفصل بين بدايات النهار ونهاياته. وعلى امتداد ساعتين ونصف من الزمن كان الخيال اللمّاح وحده هو ما يمكّن طاحونة الكلام من الدوران. وكانت البديهة السريعة المدعومة بالمعرفة والتمرّس هي ما يحدد مواقع الجلساء وتراتبيّتهم المناسبة. كان الكلام يدور على الشعر كما على الرواية والمسرح والسياسة، وعلى الحب والجنس كما على الزمن وأمراض الكهولة والعقاقير التي تساعد في ترميم الأجساد المتهالكة. وإذا كانت النميمة بأنواعها هي ملح الجلسات والعصب الأهم الذي يمدها بأسباب التجدد وأمصال الضحك فهي لم تكن في أي حال وجهاً من وجوه الشتيمة والبغضاء والحقد الأسود، بل كانت مشروطة دائماً بالحنكة والابتكار والحس الكاريكاتوري».


شيخوخة واضحة

لفظ شارع الحمرا مقهى «كافيه دي باري» الذي افتتحه جو أبيلا عام 1982، ولم يكن يستضيف من الرواد الذين يقصدونه ظهيرة كل يوم سوى أعداد قليلة. بدت شيخوخة المقهى واضحة للعيان أمام كل من يحدق في جدرانه المتآكلة وألوانه الداكنة. شخصياً، لم أستسغ هذا المقهى خصوصاً هندسته، بدا كأنه من زمن مضى. ولم أفكر في الجلوس فيه يوماً، شعرت أنني إذا دخلت سيراقبني المثقفون. وفي المرة الأخيرة التي قصدته فيها، كنت على موعد مع الكاتب العراقي خالد مطلك الذي وجدته مشغولاً بذكرياته مع صديقه رياض قاسم، حينها شعرت بغربة في ذلك المقهى، كأنه غرفة من دون كهرباء، أو حالة من «النشاز»، عتمة بين محال كثيرة بواجهات لامعة ومضيئة تعكس واقع الحداثة.

لفظ الشارع مقهى المثقفين لا يعني أن الشارع انتهى كما يعتقد شعراء كثيرون، لا ينظرون الى تحوّلات الشارع ومحاله الجديدة. عيونهم شاخصة الى الوراء والذكريات والذاكرة دائماً، وهم لم يألفوا الأمكنة الجديدة. فعدا مقاهي النراجيل التي اجتاحت الشارع ولها روادها الكثر من نساء ورجال ومراهقين، تتوافر المطاعم التي تتنوّع بين الجنوب أفريقي (ناندوز) والإيطالي (نابوليتانا) والصيني (شوبستيكس) والأميركي (رودستير) والفرنسي (ليناز) واللبناني طبعاً. من دون أن ننسى مقهى «يونس» الذي يستقطب الفئات الشبابية المثقفة من رسامين وكتاب ومخرجين.

ربما كان بعضهم على حق حين اعتبر أن المقهى في بيروت لم يعد ملتقى المثقفين. فحين أقفل «المودكا» حدث ما يشبه التظاهرة الثقافية دفاعاً عن بقائه في واجهة المدينة موئلاً للذاكرة، لكن صاحبه استسلم لإغراءات الاستهلاك ومحال الألبسة والماركات العالمية. كتب الكثير عن ذلك، وبدا الشاعر بول شاوول كأنه يعيش زمن الشتات، متنقلاً بين مقهى " نجار" الذي أقفل أيضاً، و{ستاربكس» الذي لا يتناسب وثقافة شاوول الذي كان جزءاً أساسياً من مشهد الرصيف في شارع الحمرا قبل أن يستقر في مقهى «لينس».

قبل أن يقفل «الويمبي» كنا عندما ننظر الى واجهته الزجاجية، نشعر كأنه مصاب بداء السرطان وينتظر موته، وهذا ما حصل فعلاً، لكن لم نقرأ مقالات ترثيه باستثناء واحدة للشاعر وديع سعادة ولوحة للفنانة ريم الجندي التي غادرت شارع الحمرا بعد «غزوة 7 ايار».

بالإضافة إلى المقاهي، تحتل النوادي الليلية مكاناً واسعاً في شارع الحمرا ومن بينها: " الريغوستو " و" البارومتر " و" دو براغ " و" جدل بيزنطي "، و" الوليمة ". أصبح الشارع ملتقى الشباب الساهر الذي يستمع الى الموسيقى الصاخبة ويشاهد التلفزيون بصمت، مشكلاً ما يشبه الخلطة السحرية. أما الأمكنة الثقافية فلم تفلح في إعادة الاعتبار الى نفسها. " مسرح المدينة " لا يبدو فاعلاً في الوقت الراهن، و" البيت العلماني " " احتضر" قبل أن يبدأ، وذهبت " دار الندوة " مع رياح الحروب على الشرق الأوسط، وهذا لا ينفي المحاولة الثقافية الواضحة في مقهى " ة مربوطة " الذي بات مكاناً للقراءة والندوات، و"مقهى غرافيتي" في شارع المقدسي.

بعد أعوام قليلة سيروي اللبنانيون قصة عن شارع الحمرا الذي شهد في 22 يناير (كانون الثاني) عام 1959 افتتاح أول مقهى رصيف لصاحبه منح الدبغي وهو مقهى " الهورس شو" الذي أصبح نقطة استقطاب الأدباء والمثقفين والسياسيين اللبنانيين والعرب، وتبعه " الاكسبرس" في سنتر صباغ مطلع السبعينات، و" مانهاتن" في سنتر فرح، و" النيغرسكو» و" الستراند" " الإلدورادو" والـ" كافيه دو باري" و" المودكا" و" الويمبي". وبالعودة الى تاريخه نكتشف أن معالم شارع الحمرا العصرية بدأت تتشكّل اعتباراً من عام 1958 عندما اندلعت الثورة وعمت الاضطرابات في مختلف أرجاء العاصمة باستثناء منطقة الحمرا التي كانت بعيدة عن الالتزامات الحزبية والمصالح السياسية المختلفة، فهجر التجار وسط مدينة بيروت إلى الشارع الذي لا يتجاوز عرضه الـ 15متراً، وراح يزدهر الى أن عاد وسط بيروت ليسرق وهجه بعد الحرب. واليوم إذ نشاهد أن " الهورس شو" أصبح مقهى لشركة عالمية في إشارة إلى علامات التحوّل في المدينة، فإن الشعراء والكتاب الذي يطمحون الى العالمية دائماً يرفضون عولمة المقاهي!


المقهى.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى