نزار عبد الستار - إصبعها والقرنفلة ولوفتهانزا

إصبع قدمها الكبير

حافظ على استرخاء قدمها اليمنى، وهو ينقل ثقلها إلى كفّه. تربّع على الأرض، وارتدى نظّارة القراءة، وقرّب قدمها من عينيه متفحصا الإصبع الكبير. بدا لها، وهو يحرّك ساقها مثل ساحر يتخلى عن خفته ويقدم عرضا مميتا.
قالت بأنها لا تريده أن ينغمس بخياله التعبدي إلى درجة الخجل، فالأمر لا يتطلب خدعة الايحاء بوجود احمرار. عليه فقط النظر إليه كأصبع كبير لم يره منذ مدّة لأن أمامها ساعة فقط، وبعدها تذهب إلى المستشفى.
قال، وهو يتلمس مشط قدمها:
ـ ظننت أنني رأيت احمرارا. ربما هو ارتباك في التداخل الضوئي لشبكية عيني. يحدث هذا أنظر إليك لمدّة طويلة.
أرجعت رأسها إلى الخلف، وقالت:
ـ جربّت كل الاماكن إلا انني فشلت. شبحك وأنت ترجم روحك بالعذاب من أجل أن تشبع من إصبع قدمي الكبير يجعلني لا أنال الارتخاء. لقد جئت إلى الصالون لأنني لا أملك سوى ساعة فقط. أريد أن أغفو لدقائق.
قال بانهزام:
ـ لقد زال الاحمرار.
استند على ركبتيه، وهو يعيد قدمها إلى مكانها السابق فوق اليسرى.
قالت بينما هو يجلس على الأريكة المقابلة:
ـ لم تقل شيئا عن البيجامة الحمراء الصيفية التي أرتديها.
أجاب باحتباس:
ـ إنها جميلة، وبرّاقة، ولم تعتق كما كنت تظنين.
قالت، وهي تجمع كفيها تحت رأسها:
ـ بعد أن خرجت إلى الجريدة بحثت عنها وجهزتها من أجل المساء. كنت أظن أنني سأعود إليك بعد العيادة. عملية الساعة الثامنة أربكتني.
قال بخمول:
ـ أردت أن التقط لها صورة.. من زمان، وأنا أفكّر بجعلها صورة غلاف لكتاب.
أغمضت عينيها:
ـ بالأمس قلت لي إنك منذ يومين لم تر إصبع قدمي. أحزنني هذا كثيرا.
ـ لا تضعي في بالك. عليك إخراج المزيد من الأطفال إلى الحياة. أحب هذا.
قالت بتثاقل:
ـ أنا ملكك بأصابعي وبيجاماتي.. اقترب.. ربما يكون الاحمرار قد عاد.
اعتدل في جلسته، وقال:
ـ بليز لا تقولي ملكك. أنت من يملك الدنيا كلها.
ثم أردف:
ـ أحلى ضحكاتك أطلقتيها، وأنت ترتدين البيجامة الحمراء.
قالت بعدها بدقائق:
ـ ربما عليك تنظيم هذه الاشتياقات الجزئية لأعضائي. أنت تتعذّب هكذا. حين اشتقتَ إلى أنفي قبل أسبوع كنتُ مصابة بالإنفلونزا. بقيتَ تأكل افرازاتي ليومين حتى تلوث دمك بالفايروسات. وقبلها إلتهب لسانك حين اشتقت لأذني. ماذا سيحدث لو أنك اشتقت فجأة لمثانتي؟.
قال بخفوت:
ـ إنها عدالة الحب.. لا أعرف
نظرت إلى السقف:
ـ خمسون دقيقة وأخرج.. هل لديك فكرة؟.. هل ستستطيع احتمال فراق إصبع قدمي الكبير إلى أن أعود.
ـ قد تحدث انتكاسات حزينة لي إذا ما تأخرت في المستشفى.
سألته بعد ثلاث دقائق:
ـ هل لدينا علكة ليست طبية ولا تحتوي على السكر؟
أجاب وهو ينهض:
ـ لدينا.
ـ اجلب كمية كبيرة منها، ولينها بلعابي ثم افرشها كقالب على كامل إصبع قدمي الكبير مدّة نصف ساعة، وقبل أن أخرج، إرفعها وضعها في فمك إلى حين عودتي.

القرنفلة الذهبيّة

ضحكت، وهي تنزل حقيبة يدها على القاعدة البيضاء للمظلة الحمراء المقفلة. خلعت نظّارتها، وقالت إن عليه ألا يجهد نفسه مع كل الأشياء، فمقهى الفوكيت لا يمكن التعامل معه بحساسية عاطفية، لأنه، في النهاية، مكان لا خيار لنا سواه في باريس.
تهرّب من عينيها قائلا بأنه لابد من وضع اعتبار للاحتمالات الضعيفة، فقد تكون مقاعد الخيزران ليست بالهيبة التي تتوقعها، أو أنها يمكن أن تتضايق من المنضدة المدورة الصغيرة، والشرائط المذهّبة.
حكّت بظفر سبابتها زاوية فمها، وقالت:
ـ أنت اخترت الفوكيت، وكان يفترض أن تناقش الأشياء التي تضايقني مع نفسك، قبل أن تحدد المكان، حتى لا تتعذّب بتفاصيله هكذا.
سألها بحضور النادل إن كانت ما تزال ترغب بالقهوة، فأومأت بالإيجاب، وأخذت يده محذّرة:
ـ إياك أن تجعلني سببا لتلف طحالك، أو كبدك، ولعلمك هذه المنضدة الصغيرة الحمراء بحافتها المذهبّة بديعة جدا، هي تجعلك قريبا مني، ورغم هذا، فأنا أحب فيك أسرارك التخيلية التي تخفيها عني.
شدّت على أصابعه، وتابعت:
ـ الأمر لا يتعلق بالخيزران، وإنما بهزيمة رغبتك حين تعمدتُ الجلوس قبل أن تتمكن من مسح الكرسي بيدك.
قال وهو يتلّمس الظفر الذي حكّت به زاوية فمها:
ـ كنت أرغب بشيء أكثر فخامة، ولكنني أردت أن نكون في الفوكيت من أجل دعم مدام بومبادور في محنتها، فهي تحب هذا المكان كثيرا.
انسحبا إلى الخلف ما إن جاء النادل بالقهوة، فطلبت منه ألا يقلق من الفنجان الكبير، لأنها بحاجة إليه لكي تستوعب جمال الشانزليزيه، وما يمكن أن يلاقيها لاحقا في محال سيفورا.
سألته بعد أن أخذت رشفة من القهوة:
ـ هل هي فنانة أم أديبة؟.. لم أسمع باسمها من قبل.
قال وهو يهز ساقه اليمنى:
ـ في الحقيقة هذا ليس اسمها، ولكنها تقمصت منذ أن كانت مراهقة شخصية الماركيزة دي بومبادور عشيقة الملك لويس الخامس عشر. إنه جنون خاص يتميز به العظماء هنا. هي تشبهها تماما في تطلعاتها الأرستقراطية، ورعايتها للرفاهية الباريسية. إنها مصممة ملابس الملكات. واليوم صباحا قرأت في الفيغارو خبرا رهيبا حدث لها.
سألته وهي تحاول مجاراة الأسى في عينيه:
ـ هل اغتصبوها.
ـ إنها عجوز في الخامسة والثمانين يا لولو. القصة أن شخصا مجنونا خطف حفيدتها الوحيدة اليتيمة، وطلب منها أن تصنع بوليرو كروشيه لزوجته لقاء إطلاق سراحها.
قالت ضاحكة:
ـ يبدو أن المجرمين في باريس أيضا مجانين. قهوتك ستبرد.
ردّ وهو يلتفت جهة ساحة الكونكورد:
ـ هو ليس بمجنون. مدام بومبادور هي الأعظم بين مصممي الملابس في العالم، وسبق لها أن رفضت الرضوخ لثوار فرنسا حين طالبوها بصنع معطف للجنرال شارل ديغول. ورفضت طلبا قدمه جون كيندي لتصميم فستان لزوجته. كما عرض عليها برلسكوني مبلغ سبعة ملايين دولار لقاء تصميم حذاء لإحدى عشيقاته، ولم تقبل. إنها متخصصة بالملكات فقط.
قالت بالتواء:
ـ طبعا لم تستطع رفض طلب هذا المجرم.
رجع ليقول بصوت رخو:
ـ هذا ما قالته الفيغارو التي وصفت البوليرو الكروشيه الأبيض الذي صممته مدام بومبادور بأنه تحفة ملكية باهرة. طبعا هي تستخدم رمز القرنفلة الذهبيّة. إنها زهرة برج الجدي الجليلة. ولكن الطريف أن المجرم طلب أن تقوم فتاة ترتدي زيّاً من القرن الثامن عشر بتقديم البوليرو إلى زوجته.
انكمشت متأثرة، فواصل كلامه:
ـ وكتبت الفيغارو أن مدام بومبادور عملت لأسبوع شاق، ومهلك من أجل حياكة أجمل بوليرو عرفته البشرية. كان بالفعل تحفة لم ترتد مثله أية ملكة في العالم.
حجبت فمها، ممررة عبر موشور أصابعها، أمواج تعجبها، فقال بان مدام بومبادور كانت تحوك البوليرو، وهي تبكي مجدها الذي ضاع مع زوجة مجرم، إلا أن وحيا غامضا تجسّد لها ساعتها، فظهرت لها الماركيزة دي بومبادور الأصلية في ظلال طائرة بالقرب من النافذة، وأخبرتها أن سنارتها الذهبية تحوك الآن أجمل بوليرو لأعظم ملكة عرفتها الحضارات، وأن عليها ألا تبكي ابدأ. وهكذا تحوّل الحزن إلى غبطة روحية، ووجدت مدام بومبادور نفسها، وقد حاكت أجمل بوليرو في الوجود، واختارت فتاة جميلة البستها فستانا من تصميمات القرن الثامن عشر، واعطتها البوليرو كي تنزل به ماشية إلى مكان التسليم المحدد.
امسك بسبابتها اليسرى، وسحبها إليه قائلا:
ـ وتشاء الأقدار بعد نزول الفتاة بدقيقتين أن يرن الهاتف رنة ما كان للفيغارو أن تتخيلها.
تساءلت وهي تتشبث بأصابعه:
ـ المجرم قتل الحفيدة؟.
ـ كلا .. كانت مادلين هي المتصلة، وقالت أنها في طريقها من بوردو إلى باريس.
سألته باختناق:
ـ من مادلين؟.
ـ مابك لولو ؟.. إنها الحفيدة المخطوفة. كانت صدمة رهيبة كادت تنتزع روح مدام بومبادور من حلقها، فقد ظهر أنها كانت ضحية مزحة فضيعة.
ـ ألم تلحق بالفتاة؟
ـ من؟
ـ مدام بومباردو
ـ اسمها بومبادور حبيبتي.. لا تستطيع، فهي أكبر عمرا من برج إيفل.
ـ تتصل بها على الموبايل كي تسترجع البوليرو الملكي.
رفع رأسه ناظرا إلى ما خلف كتفها، وقال:
ـ لولو كوني منطقية. كيف لفتاة من القرن الثامن عشر حمل موبايل.. إنها بالضبط تشبه هذه.. انظري خلفك معبودتي.
التفتت بتردد فرأت فتاة تتقدم بضجة نايلونية، كما الدمية، وهي تحمل على ساعديها علبة صفراء فاتحة. كانت بشعر أشقر مرفوع، وتتدلى منه لفائف على الصدغين، وترتدي فستانا ذهبيا منفوخ الأكمام، وبخصر ضيق. انحنت بالأسلوب المتبع في قصر فرساي، وقالت وهي تقدم العلبة الكبيرة المزينة في المنتصف برسمة القرنفلة الذهبيّة:
ـ بونجور جلالة الملكة المعبودة.

لوفتهانزا

حرّكت رأسها حتى استقر على موضع النتوء في كتفه. طلبت منه ألا يقلق إذا ما اشتعل الضوء الأحمر، لأن العواصف هذه المرّة ليست جادة. نظر إلى الأعلى، وسألها بأنفاس متماسكة إن كانت تريده ألا يتكلم أيضا.
ردّت بتثاقل:
ـ أحب صوتك بعد أن تحتسي الواين. يصبح رنانا مثل حروف الطباشير.
أغمضت عينيها قبل ابتسامته، وقالت له إنها تحب صوته وهو فوق الغيوم. وسألته لو أنه يملك لوفتهانزا، فهل كان سيصنع لها طائرة خاصة؟.
مال برأسه نحوها، وقال:
ـ سأوصي لك على طائرة إيرباص A380 كرزية اللون بنوافذ واسعة، وسأجعلها غرفة نوم بسرير من صنع رولس رويس. لن ادعك تحلمين، وأنت مستسلمة لقانون الجاذبية. ستنامين كل ليلة، وأنت تحلّقين في السماء، ولن تهبط طائرة نومك، إلا إذا استيقظت.
قالت:
ـ كتفك خدّر عصب سني. أنت أفضل من الواين.
حافظ على ثباته بينما صوته تتخلله مطبات القلق:
ـ هل يؤلمك سنك؟.
قالت بخمول:
ـ أنت طلبت مسكّنا مع الفطور. هل تخيّلت أنني لن أسمعك وأنا في الحمام؟. وحين تناولت فطورك كنت حذرا، وأدرت وجهك عني أكثر من مرّة، وكانت كلماتك قليلة، فعرفت أنك تتوجع من أسنانك الخربانة. نحن نتألم معا بالإيحاء. قبل أن نغادر عمّان ذهبتُ إلى طبيب الأسنان، وكل شيء كان على ما يرام. أنت خوّاف كعادتك. كنت قلقة عليك من برد فرانكفورت، وقلت ربما ستصمد هذه المرّة مادمتُ قد عالجت أسناني بدلا عنك، ولكنني شعرت بالألم بعد فطورنا بساعة. يغلبني ألمك، وينتقل إلي بسرعة حين يتعلق الأمر بأسنانك الخربانة.
قال بتوتر:
ـ ما كان علي أن اقبّلك في الصباح. أنا استعمل لعابك كمسكن. قبّلتك بشراهة. قلت لنفسي إنك ذهبت إلى طبيب الأسنان قبلها بأيام، ولن تتأثري بألمي هذه المرّة، ولن ينتقل إليك لذلك جازفت وقبّلتك من أجل الحصول على لعابك حتى أنني لم استعمل حبة البانادول.
قال بعدها:
ـ أنتِ أصل الأنوثة، وكل نساء الأرض خلقن من لعاب فمك.
فتحت عينيها على الضوء الأحمر. طلبت منه أن يشد حزامه، وقالت:
ـ أنا قبّلتك بشراهة، ولست أنت. دفعت لساني عميقا في فمك. اعطيتك كل لعابي. أحب تقبيلك رغم أن أسنانك خربانة. هي تؤلمك الآن أليس كذلك؟.
اجاب بصوت مخنوق:
ـ نعم.
قالت:
ـ إنهم نائمون، والأضواء خافتة في الطائرة.
قال:
ـ لا أريد أن تحركي رأسك. حافظي على خدر العصب. ضعي القليل من لعابك على طرف إصبعي.
قالت:
ـ هذه الحركة ستثيرني، أما القبلة فستكون طبية.
ـ لن اجعلها تثيرك. فقط ضعي قطرة من لعابك على إصبعي.
ـ مليون مرة قلت لك عالج أسنانك الخربانة.
ـ لا أحب أطباء الأسنان، وإذا عالجت أسناني سيختلف طعم قبلتي في فمك، وستعانين من هذا.
ـ ارجوك إقبل بالقبلة الطبية بدلا من إصبعك لأن سرير الرولس رويس في طائرة الإيرباص الكرزية دمرني، وأنا الآن أسيل كحنفية مفتوحة.


نزار عبدالستار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى